مئة عام هو عمر اكبر مأساة في تاريخ البشرية، وهي الفترة التي تفصلنا عن الحرب العالمية الاولى 1914 ، ففي عام 1900 كانت اوروبا التي كان عدد سكانها 450 مليون نسمة وهو ما يعادل ربع سكان العالم تهيمن على العالم علميا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، وفي الفترة بين 28 تموز/ يوليو 1914 وحتى 11تشرين الاول /نوفمبر 1918 نشبت بين القوى الأوروبية، الحرب الأولى التي وصفت بـ”العالمية”.
في تلك الحرب انخرطت اكثر من 70 دولة ، بينها 6 إمبراطوريات استعمارية (بريطانيا، فرنسا، روسيا، المانيا، النمسا والمجر، والدولة العثمانية ) لتجمع هذه الحرب اكثر من 800 مليون شخص. وهي أول حرب معلنة تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية خارج حدودها على أرض القارة الأوروبية، بقوات محاربة بلغ قوامها مليوني جندي أمريكي، متخلية بذلك عن سياسة العزلة التي مارستها منذ بداية عشرينيات القرن التاسع عشر بما عرف حينها بمبدأ مونرو أو مبدأ الحياد، والذي يقر بعدم مد الدول الأوربية نفوذها الاستعماري نحو القارة الامريكية ، ودارت رحى الحرب في 12 مسرحا موزعة على ثلاث قارات (أوروبا وآسيا وأفريقيا)، في أوروبا الجبهتين الغربية والشرقية والبلقان وإيطاليا، وفي الشرق الأوسط مصر وفلسطين ـ العراق ـ الدردنيل ـ القوقاز، وفي شرق وغرب أفريقيا، وفي المحيط الهادئ جزر متناثرة كانت مستعمرات لألمانيا.
ويضع المؤرخون للحرب ستة أسباب حقيقية ادت إلى اندلاعها، وهي:
- التنافس على المستعمرات بين المانيا وقوى عظمى وبريطانيا وفرنسا.
- الصراع على السيادة البحرية.
- تصاعد الأطماع الإقليمية بين ألمانيا والنمسا من جانب، وروسيا من جانب آخر.
- التوترات والصراعات في البلقان .
- الاستقطاب والتكتلات، وظهور الاحلاف الدولية .
- احتفاظ القوى العظمى بجيوش كبيرة.
وشاركت دول أوروبا في الحرب، فيما اختارت اخرى الحياد، وهي: السويد والنرويج والدنمرك وهولندا وسويسرا وإسبانيا وألبانيا. وغيرت نتائج الحرب العالمية الأولى وجه العالم، مع انهيار أربع امبراطوريات كبرى: (الروسية والالمانية والنمساوية – المجرية والعثمانية) ورسمت خريطة جديدة للمنطقة مع انهيار الدولة العثمانية وفشل “الثورة العربية” في تحقيق ما قامت لأجله بسبب غدر دول الحلفاء بالدولة العربية التي تم اقتسامها بين فرنسا وبريطانيا في اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 التي أصبحت مهددة بدورها في ذكراها المئوية.
وتم وضع الخطوط الرئيسية لاتفاقية سايكس بيكو سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة ،على اقتسام الهلال الخصيب بينهما لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
وتم الوصول إلى هذه الاتفاقية بين تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1915 وايار مايو من عام 1916 بمفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، وكانت على صورة تبادل وثائق تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك.
وتم تقسيم الهلال الخصيب بموجب الاتفاق، وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق. أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسعا شرقا لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا. إذ تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا. ولكن الاتفاق نص على منح بريطانيا مينائي حيفا وعكا على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الاسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها.
واليوم تشهد المنطقة نهاية اتفاقية “سايكس-بيكو”، حيث ينشط الحديث عن حقبة جديدة لتأسيس نظام إقليمي جديد بمنطقة الشرق الأوسط من قبل القوى العظمى، عبر تقسيم دول عربية محورية، على أسس عرقية ودينية وطائفية، لنشهد دول الطوائف والاقليات.
ويعتبر بعض المراقبين ان ما يفعله تنظيم “الدولة الإسلامية بسوريا والعراق” إنما هو إزالة لحدود “سايكس-بيكو” الأولى، وبهذا الصدد اعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن المنطقة تشهد هذه الأيام نهاية اتفاقية سايكس-بيكو لاحت في أفق المنطقة .
ويؤيد هذا القول ما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، بأن خريطة جديدة تظهر تفكيك 5 دول في الشرق الأوسط لتغدو 14 كياناً، واعادة تشكيل منطقة كانت تعد في لحظة معينة المحور السياسي والاقتصادي في النظام الدولي.
وركز التقسيم الذي قدمه المحلل روبرت رايت عبر الصحيفة، على سوريا، التي تشكل نقطة تحول ومن هنا قسمها إلى 3 دويلات وهي: “الدولة العلوية” التي ستسيطر على الممر الساحلي، ثم ” كردستان السورية” التي بإمكانها الانفصال والاندماج مع أكراد العراق في نهاية المطاف، أما الثالثة فهي الدولة السنية التي بإمكانها الانفصال و الاتحاد مع المحافظات في العراق.”
وليست المملكة العربية السعودية بمعزل عن هذا الخريطة، وهي مرشحة لتقسم إلى 5 دويلات، “وهابستان” في الوسط، وأخرى في الغرب تضم مكة والمدينة وجدة، ودويلة في الجنوب، وأخرى في الشرق مع الدمام، إلى جانب دويلة أخرى في الشمال، بما يرجح أن يصبح اليمن بأكمله أو جنوبه على الأقل جزءًا من السعودية، التي تعتمد تجارتها بالكامل تقريبًا على البحر، حيث إن من شأن إيجاد منفذٍ على بحر العرب أن يقلل الاعتماد الكامل على مضيق هرمز، التي تخشى السعودية من قدرة إيران على الاستيلاء عليه وحرمان دول الخليج من عبوره.
ولعل الصراع الداخلي في المملكة العربية السعودية حول السلطة ، يعزز من احتمالات هذا التصور، فضلاً عن تهديدات الوحدة الوطنية الاخذة بالتصاعد بسبب الخلافات القبلية، والانقسام بين السنة والشيعة، ودور ايران في تعزيز الثورة في الداخل، بالإضافة للتحديات الاقتصادية.
أما عن ثالث الدول، فهي ليبيا، ومن المرجح ان تقسم إلى دويلتين هما طرابلس وبرقة، ومن الممكن أن تصبح ثلاثة بانضمام دولة فزان في الجنوب الغربي، وذلك نتيجة النزاعات القبلية والإقليمية القوية.
كما تتزايد احتمالات تقسيم العراق، في ظل الصراعات الداخلية والتنافس المحموم على السلطة بين عديد القوى السياسية، التي اضحى اغلبها يعمل لحساب طرف اقليمي او دولي، ومن الممكن أن يشكل الكرد في العراق سوريا دولتهم المستقلة، وتنضم العديد من المناطق المركزية التي يسيطر عليها السنة إلى السنة في سوريا، ويصبح الجنوب خاص بالشيعة، بحسب الصحيفة. على ان ايران التي اضحت تلعب دورا رئيسا في معادلات هذا البلد وتشكيل سياساته بعد عام 2003، لن يروق لها تقسيمه، لجهة استراتيجيتها الرامية على ابقاء العراق تحت هيمنها كدولة موحدة.
أما الدولة الأخيرة فهي اليمن، فمن المحتمل ان تقسم إلى دويلتين وذلك بعد إجراء استفتاء محتمل في جنوب اليمن على الاستقلال، فمن الممكن أن يصبح جزء أو كل جنوب اليمن جزءًا من السعودية. على ان هيمنة الحوثيين على العاصمة صنعاء سيعيد الموازين باتجاه مزيد من التدخل الايراني في الشؤون اليمنية.
وبحسب رايت الذي أعد هذا التقسيم، فأن “رسم خريطة مختلفة سيكون تغييرًا استراتيجيًا في اللعبة للجميع، ومن المحتمل أن يكون التقسيم الجديد هو إعادة تشكيل التحالفات والتحديات الأمنية وتدفق التجارة والطاقة لجزء كبير من العالم.” ونتفق مع ما ذهب اليه بأن التفتت وسلسلة الانقسامات الناجمة عن النزاعات والخلافات الأثنية والطائفية، سيعيد رسم خريطة المنطقة من جديد، فى صورة أكثر مأساوية منذ معاهدة “سايكس بيكو” في عام 1916.
لقد ادت الاوضاع التي تمر بها المنطقة العربية الى احداث تصدع كبير في مفهوم الدولة وسيادتها بشكل عام، مما اتاح الفرصة للقوى الخارجية وخصوصا ذات التاريخ الاستعماري الى العودة للمنطقة بشكل اقوى، لكن بمفهوم التغييرات الجيوسياسية وليس بالقوة العسكرية التقليدية بمساعدة دول اقليمية ذات مصالح واجندات خاصة كإسرائيل وإيران، لإعادة رسم المنطقة مرة أخرى، استنادا إلى المعايير العرقية والدينية والمذهبية، ووفقا لأيدن- بيكو جديدة.
عامر العمران
الكلمات الدلالية :سايكس بيكو،الحرب العالمية الاولى،إمبراطوريات استعمارية،اوروبا ،المنطقة العربية،الشرق الأوسط،ايران،القوى العظمى،الهلال الخصيب