يجلس عبد القيوم كل يوم على ظهر باخرته النيلية المتهالكة بجلبابه الأبيض المتشرب بالزيت وطاقيته الحمراء الباهتة من أشعة الشمس يداعب الماء برجليه، وهو يسترجع ذكريات أيام “السودان الواحد” عندما كانت “المبروكة” تمخر عباب النيل في رحلة سرمدية بين ميناء كوستي النهري وبين جوبا محملة ذهابا بخيرات من الشمال وإيابا بمثلها من الجنوب.
فمع الإعلان عن قرب عودة الميناء للعمل بعد سنوات من التوقف بسبب مشكلات الانفصال ثم الحرب في جنوب السودان، يستعيد عبد القيوم ذكريات آخر رحلة قبل عدة سنوات، عندما منحته سلطات جوبا تأشيرة دخول له ولزملائه، فلم يغادر هو ولا مركبه الميناء متمسكا بمهنة توارثها أبا عن جد ولم يعرف غيرها حرفة، ويقول وهو يجول ببصره بعيدا في مياه النيل الداكنة “أين أذهب؟ لا أعرف غير هذا المكان، حياتي هنا”.
تسبب توقف الميناء في تبعثر زملاء عبد القيوم في أعمال متنوعة فتركوا بواخرهم جاثية في الميناء بعد أن فقدوا الأمل في عودة النقل النهري إلى سابق عهده، فمنهم من أصبح مزارعا كغالب أهل البلد، وآخرون احترفوا صيد السمك بمراكب خشبية غير بعيد من الميناء، وغيرهم لا يزال يبحث عن عمل.
يقضي عبد القيوم بعض الوقت في تنظيف وتشغيل محرك مركبه والتجول به داخل الميناء لبعض الوقت مثلما كان يفعل منذ أيام الرخاء، فـ “تسخين” المحرك ضروري قبل الانطلاق في رحلة تستمر أسبوعين أو أكثر ذهابا ومثلها عودة. ويقول “لن أترك محرك مركبي يخرب، عدم الحركة يدمر حتى الحديد، والصيانة أيضا تكلف الكثير”.
ذكريات الماضي
كانت البضائع من البصل والبقوليات والذرة والزيت والصابون والأقمشة تحمل على البواخر ليلا تحت إشراف حمالين مهرة يعرفون أصحابها التجار، كما يعرفون كيفية رصها وتصنيفها لضمان توازن الباخرة عندما تضربها أمواج النيل العاتية وتياره الجارف.
في كوخ صغير من القش يسمى مجازا “مطعم” وقفت صاحبته “ست النفر” توزع طلبات زبائنها من العاملين بالميناء وبعض التجار الذين لا تزال تربطهم علاقة بالمكان أو يسوقهم الحنين لأكلات “ست النفر” الشعبية الشهيرة أو جلسات الدردشة في ظلال الأشجار حيث تتوزع “ستات الشاي” على المكان.
في ركنه المعروف، يسحب عبد القيوم “بنبرا” وهو كرسي قصير الأرجل منسوج من الحبال، ليجلس في انتظار وجبته التي تعرفها ست النفر، فهو لا يحتاج للاطلاع على قائمة الطعام المؤلفة من بضعة أصناف كلها بلدية مثل العصيدة والقراصة بالتقلية والنعيمية أو البامية. يقول عبد القيوم “لا يوجد ألذ من عصيدة بالتقلية في هذا المكان”.
كانت أبواق البواخر العائدة من الجنوب محملة بعسل النحل والفواكه الاستوائية والأخشاب، وهدير محركاتها عند الفجر يوقظ الجوار حتى مدينة كوستي الواقعة على بعد نحو ثلاثة كيلومترات، مما يشيع نشاطا وحيوية في المكان يمتد لساعات، ويدر دخلا جيدا على عبد القيوم ورفاقه يمكنهم من سداد ديونهم وتلبية متطلبات أسرهم وادخار ما يفيض.
اليوم يستدين عبد القيوم فطوره وكثيرا ما يتعسر في السداد، ورغم تفهم “ست النفر” لوضعه إلا أنها مضطرة لتذكيره بالفاتورة، وهو يقول لها “إن شاء الله حقك يجيك” دون أن يحدد موعدا قاطعا، فهو -وإن كان لا يعول إلا نفسه- لا يملك قرشا واحدا.
معلم تاريخي
يعتبر ميناء كوستي أكبر ميناء نهري في أفريقيا، أنشأه المستعمر الإنجليزي عام 1938، بهدف خدمة مصالحه، ثم أصبح بعد الاستقلال عام 1956 شريانا وحبلا سريا للحياة بين شمال السودان وجنوبه، وكان بديلا حيويا عن الطرق البرية غير المعبدة في تلك البيئة الاستوائية غزيرة المطر.
منذ انفصال الجنوب في يوليو/تموز 2011، عمل الميناء بصورة متقطعة نتيجة الخلافات السياسية بين الخرطوم وجوبا، ومن ثم توقف نهائيا عن العمل قبل بضعة أعوام، ورغم الحديث عن حل لمشكلته وما يبذل من جهود فإن غياب الأمن في الجنوب بسبب الحرب الأهلية وتدهور حالة البواخر يصعب من هذه المهمة.
وفي الأصل تم تجهيز حوض الميناء ليتسع لنحو مئة باخرة، وفي إمكانه تحميل وتفريغ عشرات البواخر في آن واحد، ويعمل به الآلاف من العمال في الميكانيكا والتحميل والتفريغ والصيانة.
يضم أسطول الميناء ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ 15 ﺑﺎﺧﺮﺓ، وﻛﺎﻥ ﻳﻨﻘﻞ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ثلاثين ﺃﻟﻒ ﻃﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻀﺎﺋﻊ ﺳﻨﻮﻳﺎً ﺇﻟﻰ جنوب ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﻗﺒﻞ ﺍﻻﻧﻔﺼﺎﻝ، ويستوعب أكثر من ثلاثين ألف عامل تم تسريح عدد كبير منهم في ظل توقف العمل.
ورغم التجهيزات التي تمت لاستئناف العمل بالميناء قبل عامين، فإن تداعيات الأوضاع السياسية بجنوب السودان وعدم تعافيه حتى الآن من آثار الحرب انعكس سلبا على جهود العمل في الميناء بعد أن ساد تفاؤل كبير بأوساط التجار في كوستي.
وإذا لم تجد السلطات في بلد واحد -انشطر لقسمين- حلا لمشكلة الميناء الذي كان حتى وقت قريب يعج بالنشاط والحيوية، فإن مصيره أصبح مجهولا. وعن ذلك يقول عبد القيوم بنبرة متشائمة “هذا دمار، لا أستطيع الصمود أكثر، فقد استمر الوضع دون حل أطول مما توقعنا، فقد قاربت الأربعين ولم أتزوج بعد”.
المصدر : الجزيرة