الكلام عن «إعادة الإعمار» في سوريا، والصادر عن نظام دمشق وداعميه في روسيا وإيران، لا يعبر عن جهد مشروع لبناء ما تهدم ولتقديم الغوث والعون للمحتاجين، وذلك بغضّ النظر عمّا تبديه بعض الجهات الخارجية من اعتبار للموضوع. بل إن «إعادة الإعمار» المزعومة هذه ليست إلا متابعة للحرب التي تشهدها سوريا بوسائل جديدة أصبحت متاحة للنظام. ولا صدقية للحملة التي تشنّها الوسائل الإعلامية المدعومة من روسيا وإيران والتي تعتبر أن العقوبات التي أعادت الولايات المتحدة فرضها على إيران، بالإضافة إلى التشكيك الغربي بشأن إعادة الإعمار، هي وحسب عراقيل أمام تحقيق التقدم المطلوب في سوريا ما بعد الحرب. فالأقرب إلى الواقع هو أن موقف واشنطن المرتاب ووالذي يشاركها به الحلفاء الأوروپيون، هو ردة الفعل المنطقية للمناورات الخبيثة التي يقدم عليها النظام وداعميه. إذ ليس بالإمكان تصور جهد إعادة إعمار صادق ومنتج في سوريا مع استمرار النظام القمعي في الحكم.
ما شهدته سوريا من خراب يكاد أن يكون خارج نطاق التبين والتصور. حتى التقديرات المحافظة تشير إلى أن ما أزهقته الحرب من أرواح يبلغ مئات الآلاف، مع أرقام مماثلة من الجرحى والمعوقين. وقد بلغ دمار البنية التحتية، بل كل معالم العمران، حداً يحكم على أجزاء واسعة من سوريا أن تنكفئ إلى أحوال ما قبل التمدن المعاصر لزمن يطول. وفيما تصل نسبة النازحين والمهجرين إلى ما يقارب النصف من عدد السكان، وفيما يستفحل طغيان أمراء الحرب والتعفيش والاعتداء، فإن النسيج الاجتماعي لهذا الوطن بما له من عزة تاريخية، قد تضرّر بالعمق.
والمسؤولية للمأساة السورية تقع على عاتق جهات فاعلة وقادرة عديدة، منها بسبب ما أقدمت عليه ومنها نتيجة لما امتنعت عنه. غير أن نظام دمشق، والمتمرس بالتسلط والطغيان قبل ٢٠٠١ بأمد طويل، هو من يتحمل المسؤولية الأولى. ورغم ذلك فإن هذا النظام، وبمعاضدة كل من روسيا وإيران، الحاميتين له والشريكتين جهاراً بالأفعال التي اقترفها، بصدد إعلان النصر والمطالبة بالعودة إلى المنظومة الدولية على أنه الحكومة الشرعية لسوريا. فالدعوة إلى المشاركة الدولية بمشروع «إعادة إعمار» سوريا هو تفصيل وحسب من الجهود الساعية إلى تطبيع النظام. والواقع هو أنه حتى لو كانت الرغبة بإعادة الإعمار صادقة، فإن جرائم النظام تخرجه من دائرة الاعتبار كشريك في هذا الصدد.
على أن مزاعم «إعادة الإعمار» لا تقترب البتة من الصدق، بل هي وحسب مناسبة متعددة الأوجه لهذا النظام للمضي قدماً في جهوده لإخضاع خصومه والقضاء عليهم، وللعودة إلى صيغة الحكم القائمة على ترهيب عموم السكان، ولمكافأة أتباعه وخدمته والذين أبدوا الفائدة له. والأرقام التي يروجها النظام لمشروع «إعادة الإعمار» تصل إلى أربعمئة مليار دولار، في مقابل التقديرات الصادرة عن روسيا والتي تقف عند أكثر من النصف بقليل، قرابة ٢٥٠ مليار، هذا فيما رجال الأعمال المقربون من النظام يتحدثون عن أن مبلغ مئة مليار دولار وحسب من شأنه أن يكفي. فهذا النطاق الواسع من الأرقام يعكس في آن واحد الرؤى المختلفة لماهية الإعمار المزعوم وكذلك الهامش السخي الذي تتضمنه هذه الأرقام للاستنزاف والمكافآت الذاتية. ما هو جلي للتو هو أنه ليس لدى دمشق ولا طهران ولا موسكو القدرات المالية أو التنفيذية الكفيلة بإنجاز هذا المشروع. والتعويل هنا على أن يكون بعض الاهتمام الرسمي والخاص من دول الخليج بهذا الشأن مدخلاً لإغراء الشركات الأوروپية وتبديد الاعتراض الأميركي إزاء جهود النظام هذه.
والمنطق الذي يجري تسويقه من موسكو رسمياً وكذلك عبر المنظومة الإعلامية التي تهيمن عليها الرؤية الروسية والإيرانية، هو منطق «الواقعية»: فالنظام قد انتصر، وآن الأوان للإقرار بأن مصلحة الجميع تقتضي إعادة بناء ما دمّرته الحرب.
ولا بد بالفعل من الإقرار للنظام بـ «الانتصار»، فهو قد استعاد السيطرة على معظم التراب السوري، كما أنه يتأهب لشنّ هجوم يستكمل فيه فتوحاته في حال سقطت آخر معاقل المعارضة في محافظة إدلب على ما تشهده من ارتباك وسوء إدارة. أما الاستثناء الوحيد في المستقبل المنظور فقد يكون المناطق الحدودية الشمالية، سواء منها منطقة الحكم الذاتي المعلنة في الشمال الشرقي، والتي أصبحت اليوم عرضة للهجوم التركي مع القرار الأميركي المباغت بالانسحاب، أو مناطق الشمال الغربي والتي تحلّ فيها دون ضبطها بالكامل قوات تابعة لتركيا. كما أن التخلي الأميركي عن دور في سوريا من شأنه أن يدفع تركيا إلى المزيد من التسوية مع روسيا.
على أن «الانتصار» وفق معايير النظام لا يتحرّج من خراب البلد كي يبقى الطغيان. وإذا كان هذا النظام قد تمكن بالفعل من البقاء فإن تكبيله لعموم المواطنين ليس متيناً. بل من اللزام عليه في المرحلة المقبلة أن يشدد من قبضته داخلياً فيما هو يسعى لاستعادة مكانته خارجياً.
ولهذا وذاك، يبدو النظام منشغلاً بتقديم المشاريع الكبرى، دون أن يكون الهدف من هذه المشاريع رأب ما انكسر وإعادة الإعمار، بل إعادة هندسة البلاد سكانياً لما فيه مصلحته السياسية والأمنية. فالاطلاع على جغرافيا الدمار والنزوح في سوريا يكشف أن الخراب لم يكن عشوائياً بل جاء مطابقاً لمسعى النظام لإقامة منطقة مركزية متواصلة وطيّعة تحت سيطرته، ولحرمان خصومه من الحواضن الشعبية في قلب البلاد. قد مكّنت روسيا هذا التوجه، فيما شاركت إيران في تطبيقه ميدانياً، ما يجعلها متواطئة فيه بالكامل.
وتشكل منطقة القلمون مثالاً على ذلك، وهي الواقعة عند الممر الهام الرابط بين دمشق العاصمة ومنطقة الساحل الموالية للنظام. فالحساب المتّبع في تفريغ المنطقة من أهلها يكشف عن جسامة استعداد كل من النظام وإيران للمضي قدماً بسياسة إعادة الهندسة السكانية لسوريا. فقد أنيط بحزب الله، الفصيل اللبناني التابع لإيران، الدور الأول في هذه العملية. وأنجز حزب الله بالفعل مهمته وفق خطة ممنهجة أسقطت بلدات المنطقة الواحدة تلو الأخرى، وأخرجت منها فصائل المعارضة، وجلّها ينضوي بشكل أو بآخر ضمن الجيش السوري الحر، كما أفرغتها من أهلها وأرغمتهم على النزوح. معظم النازحين من القلمون لجؤوا إلى لبنان، ما يشكل مفارقة واضحة. ذلك أن الحجة العلنية التي اعتمدها حزب الله لتبرير مشاركته بمعارك القلمون، ضمن إطار الزعم الواهي بإنه صاحب قرار ذاتي، هي أن تدخله في سوريا هو لحماية لبنان من الإرهاب الذي تأويه وتحويه المعارضة السورية. واقع الأمر أن نظام دمشق كان ناشطاً دون هوادة بحملات إرهابية في لبنان، وإن تمكنت الأجهزة الأمنية اللبنانية من اعتراض بعضها، غير أن دفع جموع اللاجئين السوريين للقدوم إلى لبنان، وبعضهم مشحون بالمظلومية لمسؤولية بعض اللبنانيين عن مصابهم، يضاعف من المخاطر على لبنان، لا يقلصها، بما يتعارض بوضوح مع مزاعم حزب الله. بل إن حزب الله وغيره من أدوات إيران قد وظفوا هذه المخاطر عبر الاتهامات والاستفزازات للرفع من حدتها ودفع المعارضة السورية إلى المزيد من التشدد والقطعية، في سعي إلى استنزاف ما لديها من تعاطف وتأييد في الوسط اللبناني. ففي هذه الحالة، يبدو واضحاً أن تعريض لبنان لخطر عدم الاستقرار والتفريط بسمعة حزب الله على مستوى المنطقة ثمن مقبول لمساعدة نظام دمشق في إعادة ترتيب الداخل السوري سكانياً وأمنياً.
وفي منطقة القلمون، كما في غيرها، يمكن لبعض السكان الهاربين العودة. على أنها عودة جزئية ومشروطة وحسب، تنظوي على القبول بواقع جديد مختلف في بلداتهم وديارهم، على المستويات السكانية والاقتصادية والقانونية. فالسكان العائدون يبقون عرضة لمصادرة ممتلكاتهم عبر الاستيلاء الصريح على أموال «الخونة»، من المعارضين والمشتبه بولائهم ومن يمت إليهم بصلة القربى. كما على العائدين القبول بإعادة ترتيب أوضاع الملكية، سواء من باب التحضير لإعادة الإعمار، بما في ذلك من المهل غير القابلة للاستيفاء من جانب من هم في الخارج، أو من خلال فقدان حقوق الملكية نتيجة التزوير أو تدمير الدوائر العقارية. وفي حين أن النظام يقدم بعض السبل لمعالجة هذه الأوضاع، فإنها جميعها أقرب إلى الفخ الهادف إلى الإيقاع بالمعارضين في أيدي النظام للمعاقبة أو التوريط أو كليهما.
يكفي للاطلاع على المنهجية التي يعتزم نظام دمشق اتباعها في «إعادة الإعمار» مراجعة سجله في الحكم على مدى العقود الماضية وأدائه في المواجهة الدامية على مدى الأعوام الماضية. «إعادة الأعمار» تبدو عندها تعزيز بنية القمع التحتية، وتمتين منظومة الثواب والعقاب إزاء الأتباع والخصوم لإخضاع الجمهور بالكامل. ولا شك أن خطاب «إعادة الإعمار» بما ينضوي عليه من وعود مستقبلية من شأنه تليين بعض من لا يزال خارج قبضة النظام للعودة إلى سلطته. كما أن الانتقال من الحديث عن مكافحة الإرهاب إلى الكلام عن الإعمار يبدو منسجماً من وجهة نظر داعمي النظام مع التبدل في الأولويات لدى الغرب، ومن شأنه بالتالي استقطاب رؤوس الأموال وصولاً إلى التعويم المبتغى للنظام. ومهما تشعب التنظير، فإن التطرق إلى حاجات المواطن المنكوب والذي دفع أغلى الأثمان للتعبير عن مظلوميته ليس الشغل الشاغل بتاتاً. بل إن «إعادة االإعمار» هي العودة، وبصيغة أكثر صرامة وشدة وتصلباً، إلى ماضي الاستبداد. ولا بد من الكشف عن الخبث الذي تبديه كل من دمشق وموسكو وطهران في السعي إلى ذلك.