تؤكد الخطوة التي أقدم عليها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بتأسيس “لجنة عليا لمواجهة الأحداث الطائفية”، تصاعد نفوذ مؤسسات الدولة المدنية أمام نظيرتها الدينية والتي كانت تتولى التعامل مع مثل هذه المشكلات، ما يعني تنحيتها وإفساح المجال أمام تدخل جهات حكومية وسيادية للوصول إلى حلول ترضي أطرافا أخرى من خلال إنفاذ القانون.
لم تضم اللجنة المشكلة الأحد الماضي أيا من قيادات الأزهر أو الكنيسة، بالمخالفة لجميع القرارات السابقة التي ارتبطت بحل المشكلات الطائفية، لتشكل تراجعا عن النفوذ السياسي والاجتماعي القوي الذي سجلته المؤسسات الدينية السنوات الماضية، وشكلت بيئة خصبة لنجاح جماعات الإسلام السياسي في نشر أفكارها واستمرار الاعتقاد فيها بين عوام المواطنين.
وكان التوغل أحد العوامل التي فجرت خلافا سياسيا بين الأزهر ودوائر حكومية عديدة، بسبب التلكؤ في مواجهة الأفكار المتطرفة وتصويب الخطاب الديني، والرغبة في فرض هذا النفوذ من خلال التشريعات، ومازالت الآثار ممتدة حتى الآن داخل البرلمان المصري، جراء إصرار الأزهر على وضع قانون الأحوال الشخصية وليس استطلاع رأيه في المواد التي سوف يقرها النواب.
وترأس اللجنة مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الأمن ومكافحة الإرهاب، وهو وزير الداخلية السابق مجدي عبدالغفار، وضمت في عضويتها ممثلا عن كل من: هيئة عمليات القوات المسلحة والمخابرات الحربية والمخابرات العامة والرقابة الإدارية والأمن الوطني (جهاز تابع لوزارة الداخلية).
وتتولى اللجنة مهمة وضع استراتيجية عامة لمنع ومواجهة الأحداث الطائفية ومتابعة تنفيذها، وآليات التعامل مع تلك الأحداث، حال وقوعها، وتعد اللجنة تقريرا دوريا بنتاج أعمالها، وتوصياتها وآليات تنفيذها، يعرضه رئيسها على رئيس الدولة، ويحق لها الاستعانة بالجهات الحكومية المعنية متى اقتضى الأمر ذلك.
ويبرهن تشكيل اللجنة أن الحكومة المصرية ملت الارتكان إلى المؤسسات الدينية، ورأت أن توغلها في العديد من المشكلات، وبينها ملف الفتنة الطائفية، كان من مسؤولية بيت العائلة (شُكل من قيادات أزهرية وكنسية) واعتماده على الجلسات العرفية تسبب في زيادة الاحتقان في المناطق التي تدخل فيها، وبات وجوده أزمة بين الحكومة والكنيسة.
وأعلن البابا تواضروس بشكل علني، مطلع الشهر الماضي، رفضه للجلسات العرفية التي يجريها بيت العائلة المصرية كحل للأزمات الطائفية منذ 6 سنوات، وأن إصلاح حال العلاقة بين المسلمين والأقباط لن يكون إلا بالقانون والثقافة والعلوم والفنون، معترفا بمحدودية تأثير الهيئة المشتركة بين الكنيسة والأزهر على المستوى المجتمعي.
ويحمل ذهاب الحكومة باتجاه تقوية نفوذ المؤسسات المدنية عبر تشكيل لجنة ذات أبعاد سياسية عدة، دعامة رئيسية لاستمرار التأييد الشعبي الذي يتلقاه السيسي من الأقباط منذ ثورة 30 يونيو 2013، وهو ما سيكون بحاجة إليه مستقبلا حال اللجوء إلى ورقة تعديل الدستور تحديدا وأن قراره الأخير سبق زيارة متوقعة له إلى مقر الكنيسة الأرثوذكسية الجديد بالعاصمة الإدارية (شرق القاهرة).
ويرى البعض أن شعبية السيسي، والتي يحاول الحفاظ عليها من خلال تهنئة الأقباط بأعيادهم وهو أمر تفرد به عن باقي الرؤساء السابقين، أضحت في خطر جراء توالي الحوادث الطائفية التي شهدتها محافظة المنيا (جنوب) خلال العام الماضي، وانتهت باعتداء أقدم عليه شرطي مكلف بحراسة أحد الكنائس، وبالتالي فالقرار قد يرمم الثقوب التي أحدثتها التوترات المتكررة.
وبدا واضحا أن تصريحات الرئيس السيسي المتكررة بشأن ضرورة ترميم الكنائس وتدخله بشكل شخصي للتعرف على مدى بناء الكنائس في المدن الجديدة وإصراره على أن تكون هناك كنيسة تضاهي في الحجم والمكان ما يتم توفيره لبناء أكبر مسجد في العاصمة الإدارية لم تكن كافية لاحتواء غضب الأقباط المتنامي، ومن ثم فإن الاستجابة لأحد أهم مطالبهم كانت حلا جديدا للتعامل مع الأمر قبيل أعياد الميلاد التي يحتفل بها الأقباط الأرثوذكس (يشكلون غالبية الطوائف المسيحية في مصر) في 7 يناير الجاري.
وقال نجيب جبرائيل رئيس منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان (حقوقية قبطية)، إن تشكيل اللجنة يبرهن على أن هناك خطرا حقيقيا يهدد العلاقة بين المسلمين والأقباط في القرى والنجوع الصغيرة، في ظل تعثر تنفيذ قانون بناء الكنائس الموحدة بالرغم من إقراره، وتزايد نسب المضايقات التي يتعرض لها الأقباط أثناء تأديتهم لشعائرهم.
وأضاف في تصريحات لـ“العرب” أن استمرار هذه المشكلات لفترات طويلة من دون حل، أدى من جانب إلى تفاقمها لدرجة سيكون على اللجنة القيام بجهود أمنية ومجتمعية مكثفة لتطويق آثارها.
ويمثل القبول الذي لاقته اللجنة من الكنائس المصرية الثلاث (الإنجيلية والأرثوذكسية والبروتستانتية)، حائط صد للكثير من الأزمات بين الحكومة والأقباط مع استمرار الثقافة المجتمعية التي تساعد على التطرف وتأخر إصلاح التعليم وغياب الاهتمام بنشر ثقافة المواطنة في مناطق رخوة بعيدة عن سيطرة الأجهزة الأمنية.
وتنطوي اللجنة على تعامل جاد مع خطر انتشار الأفكار السلفية المتشددة في الأقاليم والقرى الصغيرة، والتي يجري تنفيذها منذ بداية العام الماضي بشأن الإرهاب في سيناء وعدد من المحافظات المصرية الأخرى من خلال العملية الشاملة سيناء 2018.
وتشي مشاركة القوات المسلحة في مواجهة الأحداث الطائفية بأن التوترات التي تندلع بين الحين والآخر خرجت عن إطارها الطبيعي، كخلاف بين مجموعة من الأفراد الذين يحملون ديانات مختلفة، ووصلت إلى أنها تشكل تهديدا حقيقيا للأمن القومي، ما قد تستغله التنظيمات الإرهابية التي تحاول الهروب من التضييق عليها في سيناء لتأجيج الأوضاع بجنوب البلاد.
الهجمات التي تستهدف الكنائس نتاج لانتشار الأفكار المتطرفة التي تروج عند حدوث خلاف بين مسلمين وأقباط بشأن دور العبادة
وأكد خالد عكاشة عضو المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب، أن الأحداث الطائفية تؤثر سلبا على مؤشر الاستقرار الأمني، وتمتد تداعياتها إلى جميع الأوضاع الداخلية ويتأثر بها الرأي العام بشكل ملحوظ وتزيد الاحتقانات بين أطياف الشعب المختلفة، وقد تكون ناتجة بالأساس عن مشكلات صغيرة ومحدودة، وهناك عناصر إرهابية تحاول النفاذ إلى هذه المعادلة لتحقيق أقصى خسائر تتمكن منها في مواجهة الدولة المصرية. وأوضح لـ“العرب” أن القيادة السياسية رأت أن تراخي تعامل الجهات التنفيذية داخل الدولة مع الأحداث الطائفية شكل ثغرة في استمرار انتشار الأفكار المتطرفة، وتفريخ أجيال جديدة من الإرهابيين. وتهدف القاهرة من خلال تلك اللجنة إلى التعامل بشكل سريع ومنهجي مع جذور الأزمات بين المسلمين والأقباط، على مستوى رصد وتحليل أسباب المشكلات وتكليف الجهات المكونة منها وغيرها من الهيئات الحكومية الأخرى للتعامل معها.
وتؤمن الحكومة بأن الهجمات التي تستهدف الكنائس نتاج مباشر لانتشار الأفكار المتطرفة التي يتم ترويجها عند حدوث خلاف بين مسلمين وأقباط بشأن مكان دور العبادة ويتم الترويج بأن الأقباط يخترقون القانون ويحولون منازلهم إلى أماكن للصلاة، وتلقى هذه الأفكار تأييدا من مواطنين غير محصنين فكريا للتعامل معها، ما يجعلها بيئة خصبة لنمو الفتنة.
وتهدد اللجنة دور المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف، الذي رأى النور منذ عام ونصف العام ولا يزال دوره مبهما حيث لم تصدر عنه قرارات رسمية علنية، كما لم يتحرك على أرض الواقع للتعامل مع المشكلات.
العرب