تركيا وتحديات المرحلة المقبلة

تركيا وتحديات المرحلة المقبلة

نبه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل الانتخابات بأن عدم الحسم في الانتخابات المقبلة، التي جرت في السابع من الشهر الحالي سوف يؤدي إلى مشاكل عديدة في البلاد، وهو ما وقع فعلاً، بعد عدم حسم نتائج الانتخابات لصالح حزب واحد، وإن بدا ذلك مفاجئاً لكثيرين من مؤيدي حزب العدالة والتنمية، ولكن الديمقراطية التركية التي أرساها حزب العدالة والتنمية نجحت في صناعة التغيير الحقيقي في الانتخابات أيضاً، ولم تأت النتائج رتيبة ولا مصطنعة، ولذلك ذهبت تحليلات عديدة لمعرفة الأسباب لتراجع حزب العدالة والتنمية، لأنهم لم يقرأوا النتائج إلا من وجهة نظر متوقعة فقط ولو كانت غير ديمقراطية، فالانتخابات الديمقراطية لا تعرف إلا التغيير وإلا فقدت صفتها الديمقراطية، والانتخابات في الدول الأوروبية شاهد على ذلك، وتركيا واحدة منها.
والبعض اعتبر تدخل أردوغان في مسيرة الحزب الانتخابية سببا سلبياً في تراجع التصويت للحزب، بينما يمكن القول بأن أحد الأسباب التي ادت إلى ان يبقى حزب العدالة والتنمية في مقدمة الأحزاب في هذه الانتخابات بفارق كبير أيضاً، هو تأييد أردوغان العلني لحزب العدالة والتنمية، وقوله مراراً أنه لا يستطيع أن يكون حيادياً إذا تعلق الأمر بمستقبل تركيا، والانحياز إلى الوطن، وكذلك يمكن القول بأن كل الأسباب التي جعلها البعض من أسباب التراجع يمكن تفسيرها على نحو مخالف بانها من أسباب النجاح لحزب العدالة والتنمية، ومنها دعوة الحزب إلى تعديل الدستور، أو كتابة دستور جيد، أو تغيير النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي، لأن من أهداف التغيير السياسي تقوية الجمهورية التركية بما يتوافق مع دور تركيا في الحاضر والمستقبل في النظام العالمي وليس الأوروبي والغربي فقط.
إن فوز حزب العدالة والتنمية بنسبة 41٪ تعني أن عددا كبيرا من الشعب التركي انتخبه، ولا يزال يرى أنه الحزب الأجدر على قيادة تركيا في المرحلة المقبلة، وقد يكون من أسباب ضعف التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية، كما حصل في السابق، أن بعض انصار الحزب الذين لم يصوتوا أصلاً ظنوا ان النتيجة معروفة وسوف يفوز حزب العدالة والتنمية بدون تصويتهم، أو أن تصويتهم لحزب آخر قد لا يؤدي إلى نوع من التراجع، وبالأخص التصويت الذي ذهب إلى حزب ديمقراطية الشعوب، وبالأخص أن معظم أنصار حزب العدالة والتنمية من المنطقة الجنوبية والشرقية من ديار بكر، حيث الأغلبية السكانية من الأكراد، الذين كانوا من انصار حزب العدالة والتنمية، وكانوا من الثقل الانتخابي الذي يعتمد عليه حزب العدالة والتنمية قد صوتوا فعلاً لصالح حزب ديمقراطية الشعوب، وليس بمستبعد أن يكون هذا التصويت لم يكن المقصود منه إضعاف حزب العدالة والتنمية، وإنما إعطاء فرصة سياسية لحزب ديمقراطية الشعوب ان يتجاوز الحاجز الانتخابي وهو 10٪، فحزب ديمقراطية الشعوب لم يكن ينافس حزب العدالة والتنمية على تحقيق نسبة أكبر في الانتخابات البرلمانية، وإنما كان ينافس لتحصيل 10٪ لكسر الحاجز الانتخابي فقط، فهذا أعلى طموحاته.
لا شك ان التراجع قد أحدث زلزالا في الحياة السياسية التركية بعد استقرار سياسي دام ثلاثة عشر عاماً مع حزب العدالة والتنمية، ولذلك فإن التحدي الحالي معرفة من يستطيع تعويض حالة الاستقرار السياسي الذي حققه حزب العدالة والتنمية اولاً، واستطاع تحويله إلى نهضة اجتماعية ثانياً، وتقدم اقتصادي ثالثاً، ومصالحة داخلية وشيكة رابعاً، فهل يستطيع أحد من الأحزاب الفائزة غير حزب العدالة والتنمية قيادة الدفة السياسية التركية بنجاح كما فعل حزب العدالة والتنمية، ما هو الحزب الذي يستطيع ان يصنع استقرارا سياسياً، لا شك أن كل الأحزاب الفائزة لا تستطيع مجتمعة ان تقود الحياة السياسية التركية بنجاح، ولذلك قد يكون من الصواب ان يطلب الرئيس أردوغان من احزاب المعارضة مجتمعة أن تقوم بإدارة الحياة السياسية وحدها، أي من غير حزب العدالة والتنمية، وأن تجرب قدرتها على سياسة شؤون البلاد وحدها، والفرصة الأكثر ظهوراً حتى الآن هي ان يتوجه الرئيس أردوغان بالطلب إلى رئيس حزب الحركة القومية بتشكيل الحكومة، حيث لديه عنصر بارز فاز في الانتخابات البرلمانية، وهو أكمل الدين إحسان اغلو، فيمكن ان تسند إليه مسؤولية تشكيل الحكومة التركية ويبقى حزب العدالة والتنمية في المعارضة، وقد تكون هناك شخصية أخرى من الأحزاب الفائزة يمكن أن يسند إليها تشكيل الحكومة، والتعاون مع الأحزاب الأخرى لتشكيل الحكومة، ودور حزب العدالة والتنمية أن يدعم هذه الحكومة بكسب الثقة، ولكن بدون أن يكون مشاركا لها في الائتلاف الوزاري.
لقد وفى رئيس الحكومة أحمد داود أغلو بوعده بالاستقالة، إذا لم يستطع أن يشكل الحكومة المقبلة بعد الانتخابات بمفرده، أي بانفراد حزب العدالة والتنمية، فقدم استقالته للرئيس أردوغان، ولكن الرئيس أردوغان كلفه بإدارة حكومة تصريف اعمال، ولا شك ان الناخب التركي سوف يراقب بحرص شديد قدرة أي حزب على تشكيل حكومة ائتلاف، فعلى فرض تكليف حزب الحركة القومية بتشكيل الحكومة فإن حزب ديمقراطية الشعوب لن يقبل بدخول هذه الحكومة، وبالتالي فلن يستطيع حزب الحركة القومية بتشكيل الحكومة وحده او مع حزب الشعب الجمهوري، وبالتالي فإن أي حزب من هذه الأحزاب المعارضة سوف يلجأ إلى مشاركة وزراء مستقلين من خارج احزابهم، وبالتالي فإن أي حزب بما فيها حزب العدالة والتنمية يحتاج إلى اتفاق مع الأحزاب الأخرى لتشكيل حكومة تكنوقراط ولمدة قصيرة قد لا تزيد عن عدة أشهر، وبالتالي فإن التحدي الحالي هو قدرة أي حزب بتشكيل حكومة تكنوقراط لتسير أمور البلاد، لحين الدعوة إلى انتخابات مبكرة، أي أن المفاوضات التي سوف تجري في البلاد خلال هذا الأسبوع ستكون حاسمة في طريقة تسيير أمور البلاد فقط، بدون وقوع ازمات سياسية او أزمات اقتصادية تؤثر على المواطن التركي في معيشته وأمنه.
قد يكون من المفيد ان يلجأ حزب العدالة والتنمية إلى لعب دور المعارضة السياسية وعدم دخول حكومة ائتلافية مع أحد من الأحزاب، ولكن ذلك منوط بان تستطيع أحزاب المعارضة الحالية، الفائزة في الانتخابات الجديدة، تشكيل حكومة ائتلافية، فهذا سوف يعطي أحزاب المعارضة فرصة لممارسة السياسة العملية وتلبية مطالب الشعب التركي، وان تكون أحزاباً سياسية على قدر من المسؤولية في تشكيل الحكومة الائتلافية أولاً، وفي الاتفاق على توزيع الحقائب الوزارية ثانياً، وفي كسب ثقة البرلمان ثالثاً، والأهم من ذلك رابعاً هو النجاح في إدارة شؤون الحكومة والبلاد لتأمين الاستقرار الأمني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فإذا لم تحقق هذا النجاح الذي يرجوه الشعب التركي، فإن الأحزاب الفائزة نفسها ستحكم على نفسها بالفشل في إدارة المهمة التي تم انتخابهم إليها، وستكون هي السبب بالدعوة إلى انتخابات مبكرة.

محمد زاهد جول

القدس العربي- لندن