حقق «حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي انتصاراً كبيراً في الانتخابات التركية بتجاوزه عتبة العشرة في المئة التي حددها قانون الانتخاب التركي لدخول البرلمان الجديد. وبحصوله على نسبة 13% من مجموع المقترعين، فإن «حزب الشعوب» حقق نتيجتين ذات أهمية كبيرة:
الأولى، داخل تركيا نفسها، أنه لن يتمكن من دخول البرلمان وتشكيل كتلة نيابية رئيسية تضم ما يقارب الثمانين نائباً فحسب، وإنما الحيلولة أيضاً دون استبدال النظام البرلماني في تركيا بنظام رئاسي يقوده زعيم «حزب العدالة والتنمية» ويقف على رأسه زعيمه أردوغان. وغني عن التوضيح بأنه سوف تترتب على هذه النتيجة تداعيات كثيرة على الصعيد الأمني والاقتصادي والسياسي.
فعلى الصعيد الاقتصادي، قد تؤدي النتائج الانتخابية إلى إبطاء عملية التنمية، حيث إن الكثيرين من المستثمرين يجدون في «حزب العدالة والتنمية»، وفي زعامة أردوغان تحديداً، عنصر استقرار في تركيا، ومشجعاً لهم على استثمار أموالهم فيها. بالمقابل، فإن بعض الأوساط خاصة في أوروبا أخذت تعرب عن قلقها مما اعتبرته نزعات «سلطانية» لدى الزعيم التركي. وترى هذه الأوساط أن هذه النزعة تضر بترسيخ النظام الديمقراطي الذي هو في نظرها أكبر ضمانة للاستقرار ولخلق بيئة استثمارية مناسبة في تركيا. وفي الحالتين، تبدو الحاجة ملحة إلى معالجة الوضع السياسي التركي عن طريق تشكيل ائتلاف حكومي يعيد الثقة إلى مشروع النهضة التركية.
الثانية، داخل حركة القومية الكردية التي تعتبر القوة الرئيسية داخل «حزب الشعوب الديمقراطي». فالانتصار الانتخابي الذي حققه الحزب سوف يطرح اسئلة مهمة تواجه عادة أية حركة قومية مشابهة، الا وهي: هل يعمل الحزب الفائز في الانتخابات على الحصول على أوسع الحريات القومية داخل الكيان الذي ينتمي إليه؟ أم يعمل هذا الحزب على طرق كل الأبواب من أجل الخروج من هذا الكيان، أي الانفصال عنه كمقدمة لإقامة دولة كردية خالصة تضم أكراد سوريا والعراق وإيران؟ وإذا كان القوميون الأكراد في تركيا سوف يرفعون سقف مطالبهم إلى هذا الحد، فما هي الوسائل التي سوف يلجأون إليها لتحقيق هذه الغايات؟ هل يلجأون إلى العنف طريقاً للوصول إلى هذه الغاية؟
إن جواب «حزب الشعوب الديمقراطي» على هذه الأسئلة سوف يؤثر إلى حد بعيد في الأوضاع القائمة في الدولتين العربيتين، ومن ثم في المنطقة العربية بأسرها. فدولتا العراق وسوريا ليستا دولتين عربيتين فحسب، بل هما من الدول التي يتجاوز تأثيرهما أراضيهما إلى التأثير في سائر أجزاء المنطقة. فضلاً عن ذلك، فإن تفعيل شعار الانفصال الكردي في العراق وسوريا سوف يكون له أثر الدومينو، أي تداعيات مشابهة في مجتمعات ذات طابع تعددي، فتتكاثر الدعوات الانفصالية، خصوصاً بين جماعات سكانية تتطلع إلى تحقيق مكاسب اقتصادية ومالية عالية إذا ما استقلت ببقعة أصغر من الأرض تحتوي على ثروات طبيعية (المياه مثلاً) لا يشاركها فيها أحد.
لكن بصرف النظر عن تفاعلات صعود «حزب الشعوب الديمقراطي» خارج الحدود التركية، فإنه من الأرجح، أن يركز الحزب – على الأقل راهنياً – على المطالبة بتحقيق إصلاحات ديمقراطية تفيد الأقليات التركية، وفي مقدمتها بالطبع الأكراد مثل الحقوق اللغوية والثقافية، مع المطالبة بتوسيع مشاركة الأقليات والجماعات التي يمثلها “حزب الشعوب” في مختلف مؤسسات الدولة ومشاريعها. أما مشاريع الانفصال فإنه من المستطاع الحفاظ عليها والعودة إليها، في المناسبات الضرورية عبر التركيز على الخصوصية القومية الكردية، ولكن من دون العودة لطرح المشاريع الانفصالية للاعتبارات التالية:
أولاً، لأن الحزب حقق نجاحه الكبير عبر تركيزه على برنامج إصلاحي وديمقراطي داخل البيت التركي وليس في إطار الانفصال عنه. وهكذا تمكن الحزب من اجتذاب جمهور مختلط ومتنوع يضم الأكراد والشركس والعلويين والأرمن والعرب والسريان، وطيفاً واسعاً من اليساريين والليبراليين. بذلك ارتفعت نسبة التأييد للحزب خلال السنوات الفائتة من 6,2% من عدد السكان إلى 9,7% منهم.
إن الحفاظ على الطابع التعددي للحزب ولكتلته النيابية يفترض الحفاظ على هذا الجمهور. وبالطبع فإن أولويات الحركة الكردية قد تتغير، ومن ثم تتغير معها التحالفات التي تنسجها الزعامة الكردية فتعمل على تحقيق الانفصال، ولو أدى هذا إلى انفكاك غير الأكراد عن حزب الشعوب. ولكن في الوقت الراهن فإنه من المستبعد أن يسلك الحزب هذا الطريق الذي قد يؤدي إلى خسارته قسطاً وازناً من التأييد له.
ثانياً، إن الدعوة إلى الانفصال سوف تدفع إلى شحذ العصبية القومية التركية بحيث يتشكل معها تحالف يضم «حزب العدالة والتنمية»، مضافاً إليه «الحزب القومي التركي» و«حزب الشعب الجمهوري» فضلاً عن القوات المسلحة التركية.
ثالثاً، إن الدعوة إلى انفصال المناطق ذات الأكثرية الكردية عن تركيا، لن تصطدم بمعارضة الأحزاب الرئيسية التركية فحسب، ولكن أيضاً بالأقليات المتعددة الموجودة في المناطق المرشحة للانفصال، مثل الاتراك والتركمان والعرب. وإذا لجأت الحركة الكردية إلى العنف لتحقيق أهدافها، فإن هذا الأسلوب سوف يضع الجماعات غير الكردية المقيمة في مناطق ذات أكثرية كردية في وضع صعب يضطرها إلى الاحتماء بالدولة التركية، وإلى مقاومة المشروع الكردي بقوة السلاح أيضاً.
رابعاً، إن للحركة الكردية في المنطقة علاقات وطيدة بالقوى الأطلسية، خاصة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. وهذه القوى لا تحبذ، خاصة في الوضع الراهن، انفصال ما يدعى بكردستان «الشمالية»، أي التركية، وانضمامها، أو قيادتها مشروع إقامة دولة كردية موحدة، كما يطمح القوميون الأكراد.
إن أوجلان، الأب الروحي للحركة القومية الكردية وزعيمها الأبرز، قد يكون مستعداً للخروج عن هذه الرغبة الأطلسية وللعمل على تحقيق الانفصال الكردي حتى ولو عارضته واشنطن. إلا أن زعماء الحركة الكردية في المناطق الأخرى، وخاصة في العراق، لن يماشون معه إذا ما قرر السير على هذا الطريق. ومن المرجح ألا يدعو أوجلان إلى موقف يؤثر سلباً في العلاقات بين القيادات الكردية.
هذه الاعتبارات لا تعني طي صفحة الدعوة إلى الانفصال الكردي. فهذا المشروع سوف يبقى قائماً، والدعوة إلى «تحرير» الأكراد من الدول الاربع ودمجهم في دولة كردستان الكبرى سوف تستمر ولكن ليس برسم التفعلي السريع.
رغيد الصلح
صحيفة الخليج