بلغت أزمة فشل الحكومة العراقية حدا فاق التصور مع ما حدث لجثمان السيد طارق عزيز وزير الخارجية العراقي السابق، الذي وافته المنية في سجن الناصرية في 5/6/2015، لتسرق جثته من قبل ميليشيات متنفذة موالية لإيران من مطار بغداد بقوة السلاح من طائرة للخطوط الجوية الأردنية، كانت مجهزة لنقل جثمانه إلى الأردن بغية دفنه هناك.
وتفيد المعلومات إن أربع سيارات رباعية الدفع كانت تحمل لوحات تسجيل تابعة لوزارة الداخلية العراقية، ارتدى من يستقلها ملابس سوداء شبيهة بملابس قوات جهاز مكافحة الإرهاب، التي أسسها رئيس الحكومة السابق المالكي قبل سنوات، والتي ما زالت تدين بالولاء له، وقامت تحت تهديد السلاح بسرقة الجثمان والانسحاب إلى مكان مجهول.
اعاد هذا الحادث طرح السؤال حول تفكيك الدولة في العراق، والذي كان محور نقاشات نخب اكاديمية واعلامية، وإذا كان المحفز الرئيس لهذا النقاش هو اخفاق العملية السياسية بعد عام 2003 في تجذير نفسها اجتماعياً وثقافياً، وصعود المد الطائفي، وتنامي الصراع بين الساسة لجهة الحصول على المكاسب والغنائم، يكمله صمت شعبي مأخوذ بفكرة المذهب الذي يجب الحفاظ عليه، ما يتطلب سكوتا عن مثالب الحاكم كونه شيعيا وقد اعاد “الحق لنصابه”.
نذّكر هنا بمبدأ “بعد ما ننطيها” الذي وضعه نوري المالكي مصداقا لما نقول، والذي كان قد أعلن عنه قبل سنوات خلال تجمع لمؤيدي قائمته البرلمانية “دولة القانون”، بعد أن طلب منه احد الحاضرين عدم التخلي عن منصبه، فأجابه المالكي: (هو أحد يكدر ياخذها حتى ننطيها!!). الثقافة الانفصالية هذه؛ ممثلة بمبدأ الاستحواذ لا يمكن ان تزدهر إلا في المجتمعات التي فقدت بنيتها الأساسية والجماعية، تتحرك وفقا لسلوك القطيع، وهو مصطلح يطلق على تصرفات الأشخاص عندما يعتمدون سلوك الجماعة التي ينتمون لها دون كثير من التفكير أو التخطيط يجرهم تعصبهم وولاؤهم نحو هذا التصرف او ذاك.
وفي مراجعة لتجربة السلطة في العراق؛ اعقاب ما اثارته حادثة سرقة جثمان عزيز، يتزايد الاعتقاد بتعزيز عبادة الفرد، الأمر الذي يجعل من الممكن القبول بسلوكه الأكثر استبدادية، ما يعني الحاجة لجيش يدين بالولاء للمستبد، لان المجتمع اخذ يعرِّف عن نفسه من خلال هويته الطائفية، وعلى هذا الاساس جاء اختلاق مفهوم المذهب المستبد، بوصفه فهما جديدا للطائفة يتصل مباشرة بالله والقرآن والسنة ويتعلق بالتراث الشيعي المرتبط بالائمة الاثنى عشر، لتبرر كل الاعتداءات والانتهاكات التي تحدث للآخر من مدخل الهي غير قابل للنقاش.
ولعل آفاق الاستقرار السياسي تبدو قاتمة اليوم، فالبيئة السياسية تخلو من الثقة الضرورية لإقامة شراكات وتقاسم السلطة. إذ يقف العراق اليوم على مفترق طرق، فهو من جهة، بلد له مكانته التاريخية والاستراتيجية وغني بالثروات الطبيعية. ومن جهة أخرى، تكلفة سياساته الطائفية باهظة على المستويات كافة، ما ادى، إلى خسارة مكانته في العالم العربي، وانحسار حضوره السياسي ليتحول إلى مجرّد لاعب في الفريق الايراني، لا يأبه حتى بمصالحه الوطنية والقومية مادام ذلك يؤمن مصلحة طهران.
وفي الواقع فان الشبكة المعقدة التي يديرها المستبد الوقح -وهو وقح الى ابعد الحدود- في البلاد، يسعى من خلالها للسيطرة على كتلة غير متجانسة من الأشخاص المحرومين من ثقافة مشتركة او الشعور بالواجب تجاه مجتمعهم، ما افسح المجال امام حكومة المالكي السابقة للربط بين الفوضى ومصالح الطائفة، والتي جسدتها هيكلية فضفاضة من الفصائل والميليشيات، بحيث يصبح من المستحيل التمييز بين المقاتلين والمدنيين.
وبالتالي فان الفوضى تعد متغيرا رئيسا ونتيجة لانهيار فكرة المواطنة الواحدة، دعمتها طائفية حكومية، لشرعنة سياسات القوة وملء فراغ الجيش الذي انهار، وان كان هذا الامر سابق على سيطرة تنظيم “الدولة الاسلامية” على الموصل، حيث كانت الميليشيات الشيعية تتجول بحرية في البلاد تمارس توحشا، بعد ان اضحت في تركيبتها ونمط عملها وتمويلها مؤسسة تتلقى اوامرها من الخارج.
من هنا، وفي حديث التفكك تظهر اهتمامات جديدة وملموسة: منها تحدي غياب الأمن الجماعي والفردي بسبب احتدام الصراع والانقسام، وفقدان المناعة تجاه الضغوط الخارجية والداخلية، وانحسار الشعور بالأمان والحماية عند الأفراد على جميع المستويات، وتراجع حكم القانون، ما افسح مجالا لمؤسسات العنف التي تشكلت تحت عين الدولة وفي ظل رعايتها، لتدير سياسات تقوم على احتكار العنف المسيس، وهذا ما عبرت عنه عملية سرقة جثمان وزير الخارجية العراقي الاسبق.
لا شك في ان ايران ارتكبت حماقة كبيرة من خلال الايعاز لميليشياتها بسرقة جثة عزيز، توهّمت أن الامر سيمر دون عواقب، واعتبرته رسالة تحدي للولايات المتحدة الامريكية وحلفائها العرب، يراد بها تأكيد هيمنتها واجبارهم للاعتراف بمستجدات ما حدث في الاقليم اعقاب إسقاط نظام صدام حسين، وما لم تحسبه ايران من هذا الحادث، تهور لن يمر دون عرقلة برنامجها التوسعي، حتى من قبل اطراف صديقة قد تكون روسيا من بينهم.
الضغوط التي تعرض لها العبادي من شخصيات دبلوماسية وجهات دولية بارزة، بينها الفاتيكان، دعته للتحرك سريعاً عبر فريقه السياسي والأمني لاستعادة الجثة، ومن جهة اخرى فان الحادث موجه بالضد منه لإحراجه دولياً، خصوصاً مع تفاقم الخلاف بينه وبين سلفه المالكي. فالشكوك تحوم حول تورط عناصر تابعة لمكتب الاخير في الجريمة خاصة انه متورط بمحاولة اغتيال طارق عزيز في الأول من أبريل/ نيسان عام 1980 بسيارة مفخخة، وحكم على المالكي وعدد من أعضاء حزب الدعوة بالإعدام، آنذاك، غيابياً بعد فراره إلى إيران.
هذا هو العراق الجديد، يعيش اليوم تفكك الدولة المؤسسية، تحت تأثير فقدانها الفاعلية والصدقية الاستراتيجية، واستفحال الفساد الإداري والسياسي والاقتصادي والأخلاقي، والقطيعة المتنامية بين الدولة والمجتمع، ليكون المذهب مطية للسياسة، تبرر من خلاله لغة الانتقام الطائفي.
وتضيف عملية سرقة جثمان عزيز بعدا آخر يتعلق بانهيار منظومة القيم في مجتمع الفقر والبطالة والتهميش والهجرة وتراجع فرص التقدم وتحسين شروط الحياة، ليصار الى تكتيل جموع من الجهلة، ضد الآخر ما يسمح لهم بتفريغ شحنات الغضب والثأر، فانعدام العدالة الاجتماعية وتعميم التمييز الطبقي والجنسي والطائفي والقومي، لن يحمل المهمشين على محاسبة الحكومة الفاشلة، وهو قصور يتحمل وزره مرجعيات دينية ونخب فكرية واعلامية، وليس المجتمع بمنأى عنه، فاللوم الاكبر يقع على العراقيين أنفسهم.
تسيد الميليشيات لتكون هي الدولة، يعني في حقيقة الامر لا وجود لسلطة في بغداد، وهو ما يشكل علامة فارقة في تاريخ البلاد، تأسيا بتجربة “حزب الله” الذي تحوّل إلى قوة سياسية فاعلة في لبنان. وثمة خطر يتصاعد ناجم عن احتكارهم السلطة، وتحويل الدولة إلى منطقة نفوذ وأداة للسيطرة الخاصة المرتبطة بالسياسات الايرانية، وإغلاق الحقل الثقافي والفكري، والضغط المستمر على الطبقات الشعبية، وحرمانها من الخيار والأمل في الوقت نفسه.
وما يمكن استخلاصه، ان العراق في تفكك يعاني أزمة هوية جراء غياب العقلانية في الفضاء السياسي، وتنامي تأثيرات الزخم الطائفي، والتي كرست استقطابا حادا يدفع ثمنه ابناء الوطن، مستند إلى فكرة المظلوميات التي يجب ان لا تهدأ، في ظل ظروف تراجع المجتمع، ما يكشف عن إخفاق عميق في صناعة خطاب إيجابي مؤسَّس على قيم المجتمع السياسي الحديث.
موت طارق عزيز اكد احتدام الصراعات داخل الائتلاف الشيعي واتساع تأثيرها، والتي تدار بعقلية التربص والانقضاض لإيقاع ضربة بالخصم تعجل بسقوطه، في منافسة ترعاها إيران. العراق ماض الى المجهول، تتلاعب بمقدراته الغرائز الكامنة التي تحرك المنطق التبريري للانتقام، انها بربرية جديدة ولكنها تدعي القدسية والإلهية هذه المرة.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية