لم يفلح العراق منذ منتصف القرن الماضي بوضع حلول نهائية لأزمة متكررة باتت ورقة ضغط بيد دول المنبع تركيا وإيران، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من خلال التحكم بشكل مطلق بتدفق مياه نهري دجلة والفرات.
ويبدو أن الحكومات العراقية على مدى قرن مضى فشلت في توقيع اتفاق ملزم مع الجارتين يضمن حقوق بلاد ما بين النهرين بشكل دائم، حيث يبلغ إجمالي معدل الاستهلاك لكافة الاحتياجات في البلاد نحو 53 مليار متر مكعب سنويا، بينما تقدر كمية مياه الأنهار في المواسم الجيدة بنحو 77 مليار متر مكعب، وفي مواسم الجفاف نحو 44 مليار متر مكعب، وإن نقص واحد مليار متر مكعب من حصة العراق المائية يعني خروج 260 ألف دونم من الأراضي الزراعية من حيز الإنتاج.
ووفقا لتوقعات “مؤشر الإجهاد المائي” فإن العراق سيكون أرضا بلا أنهار بحلول عام 2040، ولن يصل النهران العظيمان إلى المصب النهائي في الخليج العربي، وتضيف الدراسة أنه في عام 2025 ستكون ملامح الجفاف الشديد واضحة جدا في عموم البلاد مع جفاف شبه كلي لنهر الفرات باتجاه الجنوب، وتحول نهر دجلة إلى مجرى مائي محدود الموارد.
دجلة يستغيث
شح المياه مسلسل تتجدد حلقاته سنويا مع حلول فصل الصيف حيث تظهر انعكاساته واضحة على بلاد الرافدين أرضا وشعبا، وقد شهد صيف 2018 أزمة حادة ضربت الاقتصاد العراقي بشكل مباشر وانعكست على كمية المياه الصالحة للشرب التي يستهلكها المواطن خاصة في الوسط والجنوب.
“للأسف الشديد لا توجد اتفاقية محددة بين العراق وتركيا لقسمة المياه باستثناء تفاهمات وبرتوكولات مشتركة حول بعض الحالات السابقة” يقول المتحدث باسم وزارة الموارد المائية المهندس عون ذياب عبد الله للجزيرة نت، مبينا أن الوزارة تسعى إلى وضع اتفاقية واضحة، خاصة بعد إتمام سد إليسو التركي الذي سيغير المعادلة بالنسبة لنهر دجلة، حيث سيتحول النهر إلى قناة متدفقة داخل الحدود التركية بدلا من قناة متدفقة خارج الحدود.
وفيما يتعلق بإيران، يوضح المتحدث باسم الوزارة أن بنود اتفاقية الجزائر عام 1975 ورد فيها برتوكول يحدد كيفية التصرف ب 42 نهر ووادي حيث يؤكد أن الاتفاقية “معطلة” منذ عام 1980، وتسعى الحكومة العراقية إلى توقيع اتفاق مع الجانب الإيراني لتحديد حصة العراق، اتفاقية مهمة جدا ومؤثرة بشكل كبير في المناطق الشرقية من العراق حيث توجد أنهار حيوية مثل نهري الكرخة والكارون المؤثران في شط العرب الذي تدهور بشكل كبير وأمسى غير صالح للشرب بسبب قطع نهر الكارون بالكامل.
ويقول عبد الله إن سقوط أمطار مبكرة وغزيرة رفع مستوى الخزين المائي الذي وصل إلى أدنى مستوياته قبل حلول فصل الشتاء العام الماضي، ويضيف “لدينا تصور تام لكيفية استخدام تركيا وإيران للمياه داخل أراضيهما، حيث أعدت الوزارة دراسة إستراتيجية للمياه والأراضي في العراق تخطط حتى عام 2035” وستطبق سياسة مائية جديدة تعتمد على تقنين استخدام المياه وتغيير طرق الري باستخدام التقنيات الحديثة.
سلاح المعركة
ويرى الخبير الاقتصادي الدكتور أحمد الوائلي أن خفض حصة العراق المائية يعني انخفاض حصة الفرد الواحد من الماء المستهلك بشكل يومي وهي قضية ذات أبعاد سيادية واجتماعية.
ويؤكد الوائلي للجزيرة نت أن عدم توقيع العراق اتفاقية تضمن حصته المائية له انعكاسات كبيرة على الاقتصاد العراقي والأمن الغذائي، حيث سيؤثر سلبا على حجم المساحات المزروعة مما يزيد من عمليات التصحر وتغيير المناخ وتراجع السياحة خاصة في الأهوار، بالإضافة إلى انحدار الثروة السمكية وقلة الإنتاج الزراعي وزيادة في حجم الواردات وارتفاع معدلات الهجرة من الريف إلى المدينة.
ويشير إلى أن العراق يمتلك أكثر من ورقة للتفاوض مع تركيا وإيران بغية الوصول إلى اتفاق إستراتيجي بشأن حجم إطلاقات المياه من خلال تفعيل سياسة عامة وشاملة ترتكز على تفعيل الجانب الاقتصادي والتعاون الأمني في ظل زيادة حجم التبادل الاقتصادي وتفعيل الاستثمار طويل الأمد، ولعب دور سياسي أكبر في العلاقات الدولية والإقليمية.
أزمة متجددة
ورغم عديد المذكرات الموقعة بين العراق وتركيا والتي كان آخرها عام 2017 حيث اتفق الطرفان على تفعيل مذكرة التفاهم الموقعة بينهما عام 2014 التي تضمنت التعاون في إدارة الموارد المائية لنهري دجلة والفرات وتحديد حصة كل دولة، فإن مشكلة واردات العراق المائية من تركيا ما زالت قائمة.
تعود جذور أزمة المياه العراقية التركية إلى عشرينيات القرن الماضي، حيث شهد عام 1920 توقيع اتفاقيات “ثلاثية وثنائية” بين العراق وتركيا وسوريا لتقسيم المياه وفق المعايير الدولية المتبعة حينذاك، والتي عززت بعد ذلك بتوقيع معاهدة الصلح بين تركيا والحلفاء في لوزان عام 1923، وهي اتفاقية متعددة الأطراف تضمنت نصا خاصا يتعلق بمياه نهري دجلة والفرات حيث جاء في المادة 109 من هذه الاتفاقية “لا يحق لأية دولة من هذه الدول الثلاث إقامة سد أو خزان أو تحويل مجرى نهر من دون أن تعقد جلسة مشتركة مع الدول الأخرى وتستشيرها لضمان عدم إلحاق الأذى بأي طرف”.
وفي عام 1946 وقع الطرفان البروتوكول رقم 1 الخاص بتنظيم مياه النهرين الملحق بمعاهدة الصداقة وحُسن الجوار الموقعة بين العراق وتركيا، ثم جرت أولى المفاوضات بين دول الحوض عام 1962 لتقاسم المياه، حيث رفض الجانب التركي “ولا يزال يرفض” اعتبار نهري دجلة والفرات نهرين دوليين، وبذلك خالفت تركيا “المادة د” من مبادئ هلسنكي لعام 1966 باعتبار الفرات نهرا دوليا ، واعتبرته نهرا عابرا للحدود فقط.
لم تنقطع سلسلة اللقاءات والتفاهمات بين البلدين، ففي أنقرة عام 1978 تم توقيع بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني الثنائي على إثر إنجاز تركيا سد كيبان الذي خلف أزمة كبيرة عادت مرة أخرى للواجهة مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد إنشاء سد أتاتورك الذي خلف نقصا حادا في مياه العراق.
وفي عام 2018 تكرر المشهد ذاته عقب إنجاز سد إليسو ضمن السياسة المائية التركية المتمثلة بمشروعها الضخم “GAP” المتضمن إقامة 22 سدا و19 محطة كهرومائية لاستصلاح 1.9 مليون هكتار على نهري دجلة والفرات.
الخبير القانوني طارق حرب أكد أن تركيا “ملزمة” بتنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1997 بشأن مياه دجلة والفرات حيث بإمكانها أن تستعمل المياه التي تجري فوق إقليمها بشرط ألا يترتب على هذا الاستعمال ضرر للعراق.
ويضيف حرب للجزيرة نت أن “أحكام القانون الدولي الخاصة بالأنهار أو ما يسمى بالاتفاقية الدولية تنظم عملية الاستخدام المشترك لمياه المجاري الدولية باعتبار الاتفاقية التشريع الدولي الشامل الذي وضع قواعد الانتفاع المشترك من مياه المجاري الدولية، لا سيما أن القانون الدولي يعتبر دجلة والفرات هي مجاري مياه دولية كنهر النيل والدانوب والأمازون”.
مد وجزر
واقع العلاقة مع الجارة إيران لا يختلف كثيرا عن نظيرتها تركيا، وشهدت عمليات مد وجزر تزامنا مع ارتفاع نشاط الجانب الإيراني في بناء السدود على الأنهار الداخلة إلى العراق أو تحويل مسار بعضها داخل أراضيها كما حصل مع نهر الكارون المغذي الرئيس لشط العرب.
الموارد المائية القادمة من إيران تمثل 35% من إجمالي الإيرادات السنوية في العراق، وقبل العقدين الأخيرين كانت تلك الموارد تجري برمتها إلى العراق دون عوائق، لكن إنشاء سدود ومنشآت كبيرة على صدور تلك الأنهار غيّر من وضعها الطبيعي.
الجزيرة