كيف ساهمت السياسة المصرية الفاشلة في الانفصال عن السودان؟

كيف ساهمت السياسة المصرية الفاشلة في الانفصال عن السودان؟

“إن مشكلة جمال عبد الناصر وصلاح سالم وباقي مجلس الثورة مع السودان؛ هي أنهم لم يعرفوا ولم يفهموا أهله، ولم يتصوّروا أهميته بالنسبة لمصر، فتصرّفوا وكأنهم سيّاح وليسوا أبناء وادٍ واحد”

(محمد نجيب في مذكراته “كنتُ رئيسا لمصر”)

لا تبدو العلاقة بين مصر والسودان علاقة عابرة، سواء على مستوى التاريخ المشترك، أو التداخل الجغرافي، بل يمتزج في تفاصيلها التاريخية علاقة ممتدة من الثبات والرسوخ ووحدة المصير، وعلاقة البحث عن الشريك والأخ والاتحاد معه، والأمان بوجوده، وطالما انتبه قادة أفذاذ عبر التاريخ إلى أهمية هذه العلاقة، فإذا كانت الحضارة المصرية القديمة لا تزال تشهد بهذه العظمة فإن السودان لم يغب عن هذه الحضارة، ولا تزال آثار مناطق شمال السودان وتشابهها الكبير مع حضارة مصر شاهدة على هذا التمازج والتأثر والتلاقح منذ آلاف السنين.

الظاهر بيبرس، أدرك في القرن الثالث عشر الميلادي الأهمية الإستراتيجية والجيوسياسية للسودان واستطاع بعد سلسلة طويلة من الحروب أن يضم مملكة النوبة إلى مصر والتوغل في عمق السودان، وأدرك مثله محمد علي باشا في القرن التاسع عشر أن تأمين منابع النيل، والسيطرة على الذهب، لن يكون إلا بضم السودان، لكن ما بدأ بغرض استغلالي نفعي بحت في أول الأمر سرعان ما جعلته الأيام وحدة أبرزت ملامح الشخصية القومية المصرية والسودانية المتشابهة، فظل مليك مصر يُطلق عليه “ملك مصر والسودان” حتى في سنوات الاحتلال البريطاني.

خُبث الإنجليز
حين دخل البريطانيون محتلين مصر سنة 1882م وبعدما قاموا بإنفاذ قرار إلغاء الجيش المصري بمرسوم الخديو الضعيف والمتواطئ توفيق، عُين السير إيفلين دود قائدا عاما للجيش المصري في 16 يناير/كانون الثاني سنة 1883، وكانت السياسة البريطانية منذ اللحظة الأولى تدرك خطورة وحدة مصر والسودان على أهدافها الرامية إلى استغلال البلدين، ونشر التنصير في أفريقيا انطلاقا من السودان، لذا، فقد أمرت السلطات البريطانية الخديو توفيق بسحب آخر قائد مصري من السودان عبد القادر باشا حلمي واستبداله بالبريطاني هيكس الذي عُين رئيسا لأركان الجيش السوداني[1].

المهدي زعيم الثورة المهدية ضد الاحتلال البريطاني في السودان (مواقع التواصل)

لاقت مساعي الإنجليز تلك مقاومة شرسة من السودانيين بدأت في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1883م، ثم حين عُين غوردن باشا حكمدارا عاما للسودان وحوصر في الخرطوم التي سقطت في يد المهدي وثورته في 26 يناير/كانون الثاني 1885، وظل الصدام البريطاني السوداني قائما حتى نجح اللورد كيتشنر قائد الجيش المصري في دخول أم درمان في 2 سبتمبر/أيلول 1898م، وبعدها بأشهر قليلة في يناير/كانون الثاني 1899م وُقعت الاتفاقية التي عُرفت بالاتفاقية المشؤومة، والتي كان ممثلها عن الجانب المصري بطرس غالي باشا وزير الخارجية وبين اللورد كرومر بترسيم الحدود بين القُطرين، وبتوسيع نفوذ الإنجليز وتهميش الدور المصري في السودان، وبسبب خيانة بطرس غالي بحسب وجهة نظر المصريين، فقد اغتيل الرجل على يد شاب مصري سنة 1910م.

أراد الاستعمار البريطاني بترسيم الحدود أن يُكسب السودان صفة الدولة بهدف إبعاد وقطع صلات السودان بمصر، وسعيا لتمزيق العلاقات الشعبية والتاريخية بين القطرين تزامنا مع التمزيق الحدودي. وبسبب الزحف الفرنسي على أفريقيا، أعادت القوات البريطانية استخدام الجيش المصري للدخول إلى السودان مرة أخرى، مستندة إلى حجة عودة القوات المصرية للسودان، ومستخدمة صيغة “الاحتلال المشترك”.

في سنة 1919 قامت الثورة ضد الاحتلال البريطاني في مصر، وضد نفي سعد زغلول ورفاقه، وكان صدى هذه الثورة قد وصل إلى السودان فاشتعلت فيها روح المواجهة ضد البريطانيين، وظلت شرارة الثورة متقدة في وادي النيل مصر والسوادان، حتى أعيد سعد زغلول من منفاه، وتم عقد اتفاقية 1923م وأعلن استقلال مصر، وتولى سعد زغلول رئاسة الوزراء، لكن الناس فوجئوا سنة 1924م باغتيال شاب مصري للسير “لي ستاك” المندوب السامي في مصر، الحدث الذي اعتبرته بريطانيا سببا ومسوغا وفرصة لمطالبة حكومة سعد زغلول بانسحاب الجيش المصري الرابض في السودان، لكن سعد زغلول رفض هذا الشرط، وقدم استقالته، ليترتب على ذلك حصار القوات البريطانية للقوات المصرية في الخرطوم، وحين رأت القوات السودانية هجوم البريطانيين ضد المصريين قرروا الدخول في مقاومة مسلحة ضد الإنجليز، لكن الضعف التسليحي للسودانيين وأعدادهم القليلة تسببت في نجاح الإنجليز من هزيمة الجيشين المصري والسوداني، واستطاعوا بسط السيطرة الكاملة على السودان[2].

على الرغم من ذلك، ظلّت الحكومات المصرية المتعاقبة طوال الحكم الملكي تعتبر السودان جزءا لا يتجزأ من مصر، وأن المحاولات البريطانية التي كانت تهدف إلى إرغام هذه الحكومات للقبول بمبدأ استفتاء السودانيين لتقرير مصيرهم كانت مرفوضة من جانب النخبة السياسية المصرية، يقول أحد أهم رجالات الوفد ووزير الداخلية في الأربعينيات فؤاد سراج الدين: “إن فكرة استفتاء السودانيين كانت مستبعدة تماما، ومرفوضة لأنه لا يمكن إقرار استفتاء أسيوط مثلا”[3]. هكذا كانت السودان في نظر المصريين قطرا أصيلا، وجزءا لا يتجزأ من التراب الوطني، لكن انقلاب يوليو/تموز 1952م حرّك المياه الراكدة، وغيّر موازين القوى.

مصطفى النحاس باشا وفؤاد سراج الدين باشا كانا من أقوى المدافعين عن وحدة مصر والسودان (مواقع التواصل)

اتفاقية 1953 وتوحيد السودانيين
كان هدف عبد الناصر ومعظم أعضاء مجلس قيادة الثورة جلاء الإنجليز عن مصر والسودان، وكان الإنجليز من ناحيتهم مُصرِّين على إعطاء السودانيين حق تقرير مصيرهم بأنفسهم، رغبة منهم في الحول دون الوحدة مع مصر، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1952م وافق عبد الناصر ورجاله، وأرسل مجلس قيادة الثورة إلى الإنجليز مذكرة تقترح “تمكين السودانيين من ممارسة الحكم الذاتي، وتهيئة الجو الحر المحايد الذي لا بد من توافره لتقرير المصير”، وبدأت المفاوضات بقيادة محمد نجيب ومعاونة الصاغ أركان حرب صلاح سالم ومحمود فوزي وحسين ذو الفقار صبري أخو علي صبري مدير مكتب عبد الناصر ممثلين عن الجانب المصري وبين سير ستيفنسون ومستر باروز ممثلين عن الجانب البريطاني.

في المقابل كان رئيس مجلس قيادة الثورة اللواء محمد نجيب قد شرع باللقاء مع ممثلي الأحزاب السودانية المشتتة واستطاع توحيدهم بزعامة إسماعيل الأزهري أحد أكبر المتحمسين آنذاك للوحدة مع مصر، وتكلل الأمر في النهاية باتفاقية 1953م التي نصّت على فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات تمهيدا لإنهاء الإدارة الثنائية المصرية – البريطانية وتصفيتها، ويحتفظ في فترة الانتقال بسيادة السودان للسودانيين حتى يتم لهم تقرير المصير بالاستقلال أو الوحدة مع مصر.

يقول محمد نجيب في مذكراته: “كان علينا أن نجمع السودانيين بمختلف أحزابهم على موقف واحد يتعاونون فيه مع مصر، ودعوناهم فعلا من أجل ذلك، ورحبت الأحزاب السودانية بالمبادرة المصرية، بما في ذلك الأحزاب التي تدعو إلى الاستقلال وتغالي في هذه الدعوة”.

محمد نجيب متوسطا ما يبدو فرحة تقريب وجهات نظر قادة السودانيين والمصريين من أجل الوحدة (مواقع التواصل)

وعلى الرغم من اضطراب الموقف المصري فيما يتعلق بالسودان، خاصة بين السنهوري وحسين صبري وصلاح سالم أهم رجال هذا الملف، فإن نجيب أصر على استقبال وفود الأحزاب السودانية وتقريب وجهات النظر بينها، يقول: “وإذا كنتُ قد فشلت في توحيد وجهات النظر المصرية بالنسبة للسودان، فقد نجحت مع السودانيين واستطعت توحيد الأحزاب السودانية لتتفق على رأي واحد… وفي 3 نوفمبر/تشرين الثاني (1952) وُضع ميثاق إعلان الحزب الموحد، ووقع كل هؤلاء في بيتي على قيام الحزب الوطني الاتحادي الذي ضمّ كافة الأحزاب الاتحادية قبل بدء المباحثات المصرية الإنجليزية”[4].

وهكذا نجح محمد نجيب في توحيد السودانيين، وجعلهم يتحمسون للوحدة مع مصر تزامنا مع بداية الفترة الانتقالية المقدرة بثلاث سنوات (1953- 1956)، وهي الفترة التي شهدت فيها مصر صراعا على الحكم بين نجيب وعبد الناصر.

صلاح سالم واستلام ملف السودان.. لماذا؟
كان ملف السودان في هذه المرحلة قد أُعطي للصاغ صلاح سالم، أحد الضباط الأحرار بهدف الحفاظ على تقريب السودانيين من مصر، والتوحيد معها في نهاية الفترة الانتقالية المقررة بنهاية سنة 1955م، والغريب أن هذا الملف الحسّاس والمصيري قد أُعطي لصلاح سالم بناء على أمرين:

الأول: أن صلاح سالم قد وُلد في السودان حين كان والده يعمل هنالك ضمن قوات الجيش المصري المرابط على البحر الأحمر، ظنا من أعضاء مجلس قيادة الثورة أن صلاح سالم مؤهل بسبب هذه النشأة والميلاد لحمل هذا الملف الحساس والمصيري بين البلدين.

الصاغ (الرائد) صلاح سالم (1920- 1962م) (مواقع التواصل)

والسبب الثاني الذي يمثل مثار الاستغراب، هو ما يذكره اللواء جمال حماد كاتب بيان انقلاب يوليو/تموز الذي تلاه أنور السادات في شهادته على العصر مع أحمد منصور حين سأله: “هل كان صلاح سالم مؤهلا لحمل ملف السودان؟” ليرد: “صلاح سالم تولى ملف السودان بطريق المصادفة، فقد كان صلاح سالم ضمن سكرتارية الرئيس محمد نجيب، فاتصل به المقدم حسين ذو الفقار صبري المتولي رئاسة القوات المصرية في السودان بشأن مشكلة عساكر الحدود العائدين إلى السودان والمطالبين بحقوقهم المالية، فأرسلها بدوره صلاح سالم إلى أعضاء مجلس قيادة الثورة، ومن هنا كلما جاءت مشكلة من السودان فوّضه أعضاء مجلس قيادة الثورة لحلها”. ليقاطعه المذيع: “دون أي خبرة أو معرفة أو أي شيء؟!” فيجيبه اللواء حماد: “ولا أي حاجة أبدا، هو اتولد هناك صحيح، لكن لا علاقة له بالسودان ولا يعرف شيء عن السودان خالص، وبعدين هو بالذات رجل غير دبلوماسي، يعني رجل عصبي رغم مزاياه الكثيرة مثل الذكاء والفهم، لكنه شديد الانفعال”[5].

كان صلاح سالم يجمع بين النقيضين فعلا، شخص ذكي لكن عصبي شديد الانفعال، وشخص بمثل هذه الصفات، مع جهله بطبيعة السودان وشعبه وثقافته ومراكز القوى فيه أضاف إليه بعض المكاسب أمام أطنان من الخسائر الفادحة! كانت بريطانيا بدورها طوال الفترة الانتقالية تعمل على تقزيم وتقسيم السودان بين شماله وجنوبه، كما عملت على التفرقة وبث الشحناء بين مصر والسودان طوال سنوات الاحتلال، وكان هذا الأمر تحديا لصلاح سالم الذي قرر السفر إلى جنوب السودان، كما تقرب من الأميركان الذين كان من مصلحتهم طرد الإنجليز من مصر والسودان ليحلوا محلهم في الهيمنة على الشرق الأوسط. يقول اليوزباشي محمد أبو نار مساعد صلاح سالم لشؤون السودان إن الأميركان “ساعدوا صلاح سالم في دخول جنوب السودان عن طريق اتصالات مستر كافري السفير الأميركي في القاهرة، ومستر سويني ضابط اتصال السفارة”[6].

وبالفعل دخل صلاح سالم إلى جنوب السودان، ذلك المكان الذي بثّت فيه السياسة البريطانية سمومها لإحداث القلاقل مع شماله بغية الانفصال، بيد أن صلاح سالم كسبها برقصاته العارية مع قبائل جنوب السودان، وبسبّه للبريطانيين الذين طالما عاملوا هذه القبائل بشيء من الاحتقار والصلف، حتى إن الصحافة البريطانية تناولت ذلك الحدث وأبرزت تلك الرقصة التي لا تزال شاهدة على محاولات صلاح سالم لرأب الصدع ولو كان بالرقص عاريا! على أية حال استطاع صلاح سالم بالفعل رأب ذلك الصدع، وطبقا لمعاهدة التفاهم البريطانية المصرية بشأن السودان، فقد أُجريت الانتخابات في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1953م وتحقّق ما كان يأمله الوطنيون في مصر والسودان على السواء، فقد سقط حزب الأمة أكبر الأحزاب التي عارضت قضية الوحدة بين البلدين، وفاز الحزب الوطني الاتحادي الذي خاض الانتخابات حول مبدأ الاتحاد مع مصر بنتيجة كبيرة، وكانت هذه النتيجة الكبيرة دليلا دامغا على رسوخ قضية “وحدة وادي النيل” لدى السودانيين قبل المصريين.

السياسة المصرية الفاشلة
ارتقى إسماعيل الأزهري عاشق مصر والوحدة ليكون رئيس الوزراء الأول للسودان بعد الاستقلال في يناير/كانون الثاني 1954م، وزار بريطانيا في السنة نفسها التي استقبلته كما الملوك بهدف التأثير عليه للابتعاد عن الوحدة مع مصر، ليعود الأزهري من زيارته تلك متجها إلى القاهرة التي تكلم فيها مع عبد الناصر وصلاح سالم وغيرهم عن أسس الوحدة المنشودة، وآلياتها. في هذه اللحظة، تتفق كثير من المصادر على أن صلاح سالم كان يستهين بالأزهري “ولم يحاول أن يتفاهم معه بصراحة، أو أن يتفق معه على الحد الأدنى من أسس الاتحاد”؛ وكان الأزهري إزاء هذا الخداع والاستهانة يتجه ناحية المطالبين بالاستقلال وعدم الوحدة مع مصر رويدا رويدا.

إسماعيل الأزهري أول رئيس وزراء لدولة السودان وأهم داعمي الوحدة مع مصر (مواقع التواصل)

طوال عام 1954م كانت الضربات تتوالى من القاهرة على الخرطوم من “الضباط الأحرار”، رأى السودانيون ما جرى من المعاملة المهينة للنحّاس باشا زعيم الوفد الذي اعتبره الكثيرون منهم رمزا وطنيا وقف على الدوام ضد التآمر البريطاني الذي عمل على فصل السودان عن مصر، كما رأى الإخوان المسلمون في السودان ما جرى لإخوانهم في مصر من التعليق على المشانق، والتعذيب المروّع في السجون المصرية، بل رأى الشيوعيون السودانيون رفاقهم الروّاد يلعقون بلاط السجون، بينما على الجانب الآخر يتودد لهم النظام المصري، ولم يكن من العسير أن يستنتجوا ماذا سيحلّ بهم إذا ما امتدّ نظام الحكم الناصري إلى هناك[7].

على أن الطامة الكبرى التي نزلت بالسودانيين كانت الغدر بمحمد نجيب الرئيس الأول لجمهورية مصر، والمدافع الأكبر عن الوحدة مع السودان، والحق أن نجيب روى بمرارة وحسرة ما تعرّض له من غدر في مذكراته الشهيرة “كنت رئيسا لمصر”، والسياسة الفاشلة التي اتخذها عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة في تعاملهم مع السودان والسودانيين، وكان أولها إزاحته عن حكم مصر، وقد اعتبر السودانيون على الدوام محمد نجيب الرجل الذي كان نصفه مصريا ونصفه سودانيا هو الضامن الحقيقي لمسألة الوحدة.

كان نجيب بالفعل حجر الزاوية في توحيد الأحزاب السودانية كبداية في مسيرة الوحدة مع مصر، وقد استقبلهم في القاهرة، ونجح مسعاه في حين أُنشئ الحزب الوطني الاتحادي برئاسة إسماعيل الأزهري على يديه، وكان نجيب هو الذي سعى مع بريطانيا لعقد اتفاقية فبراير/شباط 1953م القاضية بانسحاب مصر وبريطانيا من السودان في مقابل الاستفتاء السوداني على تقرير مصيره، إما الاستقلال وإما الوحدة، وكان نجيب قد تأكّد من الوحدة فعلا.

اللواء محمد نجيب الرئيس الأول لمصر، كان عزله ضربة قاصمة لملف الوحدة (مواقع التواصل)

كان نجيب أيضا هو الرجل الوحيد الذي زاره زعيم حزب الأمة السوداني عبد الرحمن المهدي والد الصادق المهدي حين زار القاهرة سنة 1937م وهو الرجل الذي كره على الدوام الوحدة مع مصر، وفوق ذلك كانت سنوات خدمة نجيب في السودان كضابط مصري، ووالدته التي ينحدر أصلها إلى السودان قد ساعده على معرفة طبيعة هذا البلد، بل والاندماج فيه بروحه وكيانه وعشقه له، للدرجة التي كان يستشيره فيها النقراشي باشا رئيس وزراء مصر في الأربعينيات فيما يتعلق بالسودان وشؤونه وكيفية تعاطي السياسة المصرية مع هذا القطر.

إن نجيب الذي كتب سنة 1943م كتابا عن السودان سماه “رسالة عن السودان” كان تجسيدا حقيقيا لرؤية هذا الرجل للسودان وثقافته وشعبه وتراثه وأرضه واعتباره جزءا لا يتجزء من مصر، كان محمد نجيب صادقا في مسعاه، وقد أدرك السودانيون حقيقة هذه المشاعر جيدا فلبوا نداءه حين دعاهم للقاهرة للوحدة، ولبوا نداءه أيضا حين زار السودان في أوائل سنة 1954م على الرغم من المؤامرة البريطانية التي راح ضحيتها العشرات في استقباله.

ولذلك حين حاول جمال عبد الناصر فيما بعد إعادة العلاقات وكانت قد تدهورت بسبب عزل نجيب وبسبب السياسة الفاشلة التي اتبعها صلاح سالم مع السودانيين بالسب والرشوة والاحتقار، فقد سأل عبد الناصر السودانيين عن سبب التعنت وكأنه لم يكن يعرف، فأجابوه: “نجيب! ولما قال لهم جمال عبد الناصر: إن نجيب فرد، والفرد زائل، والعلاقة المتينة بين البلدين خالدة، كرروا: نجيب، وفقد عبد الناصر أعصابه وقال: ليس معقولا أن نضع فردا في كفّة وعلاقة بين شعبين في كفة أخرى. قالوا له: إننا جعلنا من نجيب رمزا لوحدة الوادي شماله وجنوبه وأنتم حطمتم هذا الرمز”[8].

حتى لحظة عزل نجيب لم يقبل أن يعلن الاستقالة بسبب السودان، يقول: “عندما دخل عبد الحكيم عامر وحسن إبراهيم ليُبلغاني يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1954م بقرار إعفائي من رئاسة الجمهورية قلت لهما في وضوح: بصراحة أنا لن أستقيل. فسأل عبد الحكيم عامر: لماذا؟ قلتُ: حتى لا يُنسب إليّ يوما أنني كنت السبب في انفصال مصر عن السودان، وفي الحقيقة أنا تحمّلت كل ما جرى لي بعد تمكّن عبد الناصر من السلطة بعد أزمة مارس/آذار 54 حتى لا تؤثّر استقالتي على نتيجة الاستفتاء حول الوحدة مع مصر في السودان، خاصة أن الحزب الوطني الاتحادي الذي كان يؤيد الاتحاد والوحدة مع مصر قد فاز في الانتخابات، لكن عبد الناصر ورجاله في مجلس الثورة لم يكن يشغلهم في ذلك الوقت موضوع السودان، كان كل ما يهمهم هو كيف يمكن إزاحتي والتخلّص مني”[9].

لحظة القبض على محمد نجيب بعد إعلان عزله – نوفمبر/تشرين الثاني 1954م (مواقع التواصل)

لم يكن نجيب مبالغا حين قال: “إن استقالتي كانت تعني انفصال السودان عن مصر”، فقد هبت صحف السودان وسياسيّوها مؤيدهم ومعارضهم في وجه الموقف المخزي لعزل نجيب، وإلقائه في الإقامة الجبرية بصورة مهينة، وراحت الصحف السودانية تصف كلا من صلاح سالم ومجلس قيادة الثورة بأنهم “فاشيون”، بل قالوا: “نفرض أن وحدة تمّت بشكل ما بين وادي النيل، فما الضمانات التي تكون لدى زعمائنا وأي فرص لهم مع هؤلاء المتنمرين المتعطشين للسلطة”[10].

ليست شهادة نجيب في حق نفسه هي الإنصاف التاريخي لنفسه، وإنما أكد اللواء جمال حماد أحد الضباط الأحرار هذه الحقيقة في شهادته على العصر مع أحمد منصور حين ألقى باللائمة على انفصال السودان عن مصر إلى جمال عبد الناصر وصلاح سالم ومجلس قيادة الثورة، فهو يؤكد أن نجيب كان قد نُزعت صلاحياته منذ مارس/آذار 1954م، وأنه كان في قصر عابدين بلا أي قوة، فلماذا عزلوه بهذه الطريقة الفجة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، لماذا لم ينتظروا حتى تنتهي مسألة الوحدة مع السودان، بل ويؤكد أن السودان كان مسألة فرعية لا تهم عبد الناصر، فقد كانت عينه فقط على إزاحة مراكز القوى من أمامه، نجيب ثم صلاح سالم وأخيه جمال سالم بحجة الفشل في الملفات التي تقلّدوها[11].

صلاح سالم يدمّر الوحدة
كان صلاح سالم مع تقلده لملف السودان يتولى زمام وزارة الإرشاد القومي، أي وزارة الإعلام في وقتنا هذا، وكانت إستراتيجيته أمام اشمئزاز السودانيين من سياسة عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة تقوم على شراء الذمم بالمال، وعلى التهديد والشتم من خلال الإذاعات والإعلام المصري الذي كان يديرهم، وكلتا السياستين ساهمت في تعميق الأزمة، وزادت الشروخ، للدرجة التي اضطر فيها إسماعيل الأزهري الرجل الذي طالما تحمس للوحدة، وجاء به السودانيون رئيسا للوزراء، اضطر ألا يتكلم عن ملف الوحدة من جديد خوفا من أن يشهر به، أو يظن به أنه يُشترى بأموال صلاح سالم.

إسماعيل الأزهري يرفع علم السودان (مواقع التواصل)

وكانت الحماقة الأخيرة لصلاح سالم سعيه لعقد جمعية عمومية للحزب الوطني الاتحادي لفصل إسماعيل الأزهري ولكي يُرقّي مساعده محمد نور الدين، لكن في هذه أيضا فشل صلاح سالم، وما جاء صيف 1955م حتى كانت صورة مصر في أعين السودانيين بائسة ملطخة بالكذب والدماء التي سفكها أعضاء مجلس قيادة الثورة.

في مذكرات عبد اللطيف البغدادي أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة نراه يروي تفاصيل اللحظات الكارثية التي مرت على مجلس القيادة، ودور صلاح سالم حين جاء في أغسطس/آب 1955م يخبر عبد الناصر أن “السودان ضايع.. ضايع”، واتهام صلاح سالم بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة بالتلاعب من وراء ظهره خصوصا أنور السادات وعلي صبري وأنهما ينفّذان المخطط البريطاني الأميركي الرامي لفصل السودان عن مصر، وأنه إزاء هذا الفشل قدم استقالته من مجلس قيادة الثورة ومن السلطة التنفيذية حتى يُخلي مسؤوليته عن انفصال السودان عن مصر بعد ثلاثة أشهر عقب هذا الحادث، وبالفعل قبل الأعضاء استقالته في النهاية ليس لفشله في هذا الملف، وإنما لأنه اتهم أعضاء في المجلس بالخيانة والعمالة!

يروي بغدادي أن مجلس قيادة الثورة استدعى عددا من الخبراء المصريين من أعضاء اللجنة المسؤولة عن ملف السودان ومن خارجها مثل اللواء صالح حرب وعبد الفتاح حسن نائب وزير الدولة لشؤون السودان وحسين ذو الفقار صبري عضو لجنة الحاكم العام بالسودان حينها، والصحفي في جريدة الجمهورية قاسم جودة أحد المهتمين بالشأن السوداني وقد زار السودان ووقف على الأوضاع الكارثية التي تسبب فيها صلاح سالم، يقول عبد اللطيف بغدادي على لسان قاسم جودة:

“إن سمعة مصر (في السودان) كانت سيئة للغاية بسبب الرشوة التي تُعطى وتبذل لكل إنسان حتى في الشارع مما دعا الناس إلى الشك في كل من يتكلم أو يدعو إلى الاتحاد مع مصر على أن وراء دعوته رشوة قد دُفعت إليه، وذكر أن المسؤولين هناك يُهاجمون مصر بأقسى الكلمات في الحفلات الرسمية وحتى في البرلمان السوداني نفسه، وأن كل المسؤولين في السودان قد أساءهم مهاجمة مصر لإسماعيل الأزهري (رئيس الوزراء السوداني) في الصحافة والإذاعة المصرية، وقد أضر ذلك بالعلاقة بين البلدين، وأن الكل في السودان أصبح يدعو إلى الاستقلال، وأوضح أن الصورة التي تُعطيها الصحافة المصرية عن الموقف في السودان تختلف تمام الاختلاف عن الحقيقة هناك”[12]

الأمر أكبر من صلاح سالم!
وفقا لتحليل محمد جلال كشك فإن انفصال مصر عن السودان كان إملاء أميركيا بضغط بريطاني على الدوائر العليا في مصر لاستمرار الدعم لانقلاب يوليو/تموز، ومجلس قيادة الثورة، وأن صلاح سالم كان ضحية هذه الألاعيب التي أشار إليها بالفعل ووجه بسببها أصابع الاتهام إلى أنور السادات وعلي صبري، يقول:

“أيقنت الولايات المتحدة أن رفض بريطانيا لاتحاد مصر والسودان هو رفض نهائي لا سبيل لتذليله، لا بالمساومة ولا بالضغط؛ لأنه يمثّل إستراتيجية بريطانية أساسية وسياسية تاريخية في إضعاف مصر، ومنع امتدادها في أفريقيا السوداء، وقضية حيوية لحماية المصالح البريطانية الاستعمارية والصليبيبة في أفريقيا السوداء، ولو كانت وحدة وادي النيل قائمة لتذكّر الأوغانديون أنهم كانوا جزءا من السودان ومن مصر، وكان حاكمهم يُعيّن من القاهرة”[13]

بل يرجع جلال كشك ويؤكد أن النتائج التي ترتبت على انفصال السودان وقبوله حق تقرير مصيره بعيدا عن مصر وعن الإرادة الشعبية فيها، كانت كارثة تكررت مرة أخرى حين فعل الرئيس المصري الأسبق أنور السادات الأمر نفسه حين دخل في مفاوضات كامب ديفيد مع الإسرائيليين، ويؤكد أن المصريين تقبّلوا الأمرين، ولكن “كان السودان أعزّ وأكثر رسوخا في الضمير الوطني المصري وقتها”.

وهكذا، ضاعت السودان بفعل حماقة صلاح سالم وجهله وصلفه بالتعامل مع السودانيين، حتى اضطر المتحمسون للوحدة وكانوا أغلبية إلى أن يتواروا إلى الظل خجلا من هذه الأفعال المشينة، وانفصلت السودان في النهاية، وكان من الغرائب بعد ذلك أن تسعى مصر عبد الناصر وعبد الحكيم عامر إلى الوحدة مع سورية القطر الأبعد جغرافيا، وفي هذا الملف فقد فشلت فشلا ذريعا!

الجزيرة