مواجهات في طرابلس تنذر بدخول مرحلة جديدة من الأرض المحروقة

مواجهات في طرابلس تنذر بدخول مرحلة جديدة من الأرض المحروقة

تنذر المعارك التي بدأت قبل أيام في العاصمة الليبية طرابلس بالدخول في مرحلة جديدة من نظرية الأرض المحروقة بين القوى المتصارعة، وتضاعف من التحديات التي تواجه الأجسام السياسية والعسكرية، وتجعل من عملية التسوية السياسية حلما بعيد المنال.

بعد هدوء نسبي ساد العاصمة الليبية، انقلب الوضع في طرابلس منذ الثلاثاء الماضي، حيث دخلت أطراف في المجلس الرئاسي وحكومته في مواجهة ميدانية ضد بعضها البعض، هي الأولى من نوعها، وتنذر بتداعيات خطيرة.

يتركز النزاع المسلح في طرابلس بين ثلاث قوى من خارجها، مقابل واحدة تهيمن على داخل المدينة. مع ذلك تبدو خارطة الولاءات، في أعلى هرم السلطة في العاصمة، وقواتها المجهزة بالأسلحة الثقيلة، غامضة، ومثيرة للقلق.

كل هذا يجري بعيدا عما يقوم به الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، من تطهير لأراضي الشرق والجنوب من الجماعات المتطرفة وتوابعها. وبعد أن نجح المشير حفتر في طرد المتطرفين من بنغازي ودرنة في الشرق، بدأ قبل يومين في الحرب على المتشددين في جنوب البلاد، في خطوة وجدت مباركة من قوى وقبائل جنوبية عديدة.

تتصف القوى الأربع التي تتصارع، من وقت إلى آخر، للهيمنة على العاصمة، بأنها ذات طابع جهوي في معظمها. وبالنسبة للقوى الثلاث المحسوبة على خارج طرابلس، فهي قوات منطقة ترهونة من جنوب العاصمة والمعروفة بـ”اللواء السابع″، وقوات مصراتة من شرقها، وقوات الزنتان من غربها. وهذه القوى الثلاث بينها ثارات قديمة.

وتلخيصا تعرف القوى المحسوبة على داخل العاصمة، باسم “القوات الطرابلسية”، بسبب انتماء معظم قادتها وعناصرها إلى المدينة نفسها. وهي ليست على وفاق دائم بين بعضها البعض. لكن اعتماد المجلس الرئاسي عليها في تأمين المدينة، جعلها أقرب إلى الجسم الموحد. و تكمن مشكلتها الرئيسية في عدم وجود تنسيق واضح لها مع كل من وزارتي الدفاع والداخلية.

بدأت قوات ترهونة تتحرك من الجنوب خلال الأيام الماضية، للسيطرة على المزيد من المواقع والأراضي في العاصمة، ما أدى إلى حالة من الترقب والاستعداد من جانب قوات كل من مصراتة والزنتان، بالإضافة إلى تحركات من جانب القوات الطرابلسية. وتريد الأخيرة الدفاع عن مناطق نفوذها في طرابلس.

يشبه الأمر هنا لعبة الدومينو. كما أن القصة لها خلفيات تعود إلى عام 2014. فقد كانت كل هذه القوى تتعايش مع بعضها داخل العاصمة، لكن انتخابات البرلمان وخسارة تيار الإسلام السياسي للأغلبية في مجلس النواب، جعلت الحرب تشتعل بين المسلحين في طرابلس.

نتج عن الحرب المعروفة باسم حرب “فجر ليبيا”، طرد قوات الزنتان من العاصمة، وتعايشت قوات مصراتة وقوات طرابلس مع بعضها بعضا، وكان من ضمنهما العناصر التي شكلت في ما بعد “اللواء السابع″.

هيمنت “القوات الطرابلسية” على العاصمة مع مطلع عام 2016 بسبب وقوفها مع السراج حين وصل عبر البحر ليتولى إدارة البلاد عبر المجلس الرئاسي الذي تشكل بموجب اتفاق الصخيرات. وتمثل ولاء قوات مصراتة للسراج، في تلك السنة، في تشكيل ما عرف وقتها باسم قوات “عملية البنيان المرصوص” لمحاربة داعش في مدينة سرت القريبة من مصراتة.

يبدو أن مصراتة كانت تريد أن تتقرب من السراج بطريقتها، أي بوضع زخم دولي على تحركاتها بحيث تبدو كقوة ضاربة في عموم البلاد. وحظيت عمليتها العسكرية ضد داعش في سرت، بدعم من دول غربية منها الولايات المتحدة. لكن دوام الحال من المحال.

انتهت “عملية البنيان المرصوص” بطرد داعش، لكن سقط من أبناء مصراتة المئات من القتلى والألوف من الجرحى. لم يتمكن ذوو هؤلاء من الحصول على المكاسب المنتظرة، من بينها على الأقل، صرف رواتب المقاتلين وصرف الأموال للجرحى والتعويضات للقتلى. وتصدعت العلاقة بين قوات مصراتة والسراج منذ ذلك الوقت.

الهدنة وترتيبات حفظ الأمن أصبحت عرضة للانهيار. فتحرك ترهونة يقابله تحرك من مصراتة والزنتان لافتراس القوات الطرابلسية، رغم أن القوى الثلاث التي تريد أن تفعل ذلك، ليست على وفاق

مع ذلك كانت هناك مجموعات مصراتية ما زالت تتمركز في العاصمة مع بداية عام 2017. وأراد جانب من قوات “البنيان المرصوص” المنتصرة في سرت، والمنهكة أيضا، الانضمام إليها، والتخلص من السراج ومجلسه الرئاسي وحكومته، والقوى الطرابلسية التي يعتمد عليها. تحالفت في تلك الحرب القصيرة التي كانت في أواخر مايو 2017، قوى مختلفة يجمعها العداء للقوات الطرابلسية.

تعرضت القوات المصراتية، والمتحالفون معها، للهزيمة في حرب مايو، وأدى ذلك إلى تراجعها إلى مدينتها التي تقع على بعد نحو مئتي كيلومتر إلى الشرق من طرابلس. شعرت قوات الزنتان بالارتياح لابتعاد خصمها اللدود، من القوات المصراتية، بعيدا عن العاصمة، وفرضت القوات الطرابلسية هيمنتها على طرابلس.

بعد ذلك خرج من بين أنقاض هذه الفوضى، ما أصبح يعرف بـ”اللواء السابع- مشاة”. قرر أن يكون مواليا للسراج. لكن قوته وتحالفاته بدأت تثير مخاوف المجلس الرئاسي، فقرر السراج في أبريل الماضي حل “اللواء” وتسريحه، لكنه لجأ إلى ترهونة وأصبح مصدر تهديد لطرابلس.

هذه القوى الثلاث (ترهونة، ومصراتة، والزنتان) تضع مواسير مدافعها على حواف العاصمة منذ شهور، وكادت تقتحمها في سبتمبر الماضي، لولا تدخل غسان سلامة رئيس البعثة الأممية لليبيا، ومساعدته السفيرة الأميركية ستيفاني ويليامز.

وقتها جرى عقد هدنة، بحيث تلتزم القوى التي من خارج العاصمة، بعدم الدخول إليها، بينما تتعهد القوى التي من داخل طرابلس بعدم استغلال وجودها في المدينة للهيمنة على مؤسسات الدولة. كما وضع السراج وسلامة ترتيبات لحفظ الأمن في طرابلس.

ووصلت معلومات إلى المجلس الرئاسي، الثلاثاء الماضي، عن وجود تحركات جديدة لقوات “اللواء السابع″، قادمة من مقره في جنوب العاصمة. هذا يعني أن الهدنة وترتيبات حفظ الأمن أصبحتا عرضة للانهيار. فتحرك ترهونة يقابله تحرك من مصراتة والزنتان، لافتراس القوات الطرابلسية، رغم أن القوى الثلاث التي تريد أن تفعل ذلك ليست على وفاق، وهو ما يجعل مستقبل الأمن، بل مستقبل الحكم، في العاصمة عرضة لكل الاحتمالات.

ما يقوم به السراج

في حرب أغسطس- سبتمبر، التي حاول فيها “اللواء السابع″ اقتحام طرابلس، أدار السراج من مكتبه، المعركة بصفته القائد الأعلى للجيش، وفقا للاتفاق السياسي الموقع في 2015 بين فرقاء ليبيين برعاية الأمم المتحدة، وحين بدأ “اللواء السابع″ يتحرك مؤخرا في اتجاه العاصمة مجددا، فرش السراج الخرائط وأخذ في إدارة المعركة، لكن الظروف من حوله تبدو مختلفة إلى حد كبير.

وجه ثلاثة من نوابه، هم أحمد معيتيق، وفتحي المجبري، وعبدالسلام كاجمان، إلى السراج اتهامات بالخروج عن مسار الاتفاق السياسي (الصخيرات) الذي يهدف إلى توحيد البلاد، وكذا اتهامه بالانفراد بالقرار.

يوم الثلاثاء الماضي، أبدت أطراف في المجلس الأعلى للدولة اعتراضها على قرار رئيس المجلس الرئاسي، رئيس حكومة الوفاق، تحريك قوات عسكرية في طرابلس، دون عرض الأمر على المجلس.

تشاور السراج مع مجلس الدولة قبل قرار تحريك القوات الطرابلسية للتصدي لقوات “اللواء السابع″، لكن موقف مجلس الدولة، الذي يرأسه القيادي الإخواني خالد المشري، كان مثيرا لاستغراب رئيس المجلس الرئاسي. طلب المشري من السراج أن يخاطب مجلس الدولة “كتابة” بمبرر إعلانه النفير والطوارئ. تبدو العلاقة هنا غير طيبة بين الرجلين، بالنظر إلى التعاون السابق في ما بينهما، أو أن هناك أمرا ما في ذهن المشري سوف يوظفه بناء على المعطيات الجديدة.

يلاحظ أن السراج يواجه عراقيل كذلك في تعامله مع وزير الداخلية فتحي باشاغا، والذي ينحدر أساسا من مدينة مصراتة، ويحظى باحترام كبير وسط القيادات العسكرية وغير العسكرية في مدينته، وتكمن المشكلة هنا في أن بعض القوات التي تتمركز قرب مطار طرابلس الدولي، هي قوات محسوبة على مصراتة، والمعروفة باسم “لواء الصمود” بقيادة صلاح بادي المطلوب دوليا.

بادي اعتاد التحرك في محاولاته الحثيثة للدخول إلى قلب العاصمة في كل وقت تتحرك فيه قوات ترهونة أو الزنتان من الناحية الجنوبية والغربية. مع العلم أن تحركا سابقا لبادي يعود لشهرين ماضيين، ردت عليه الأمم المتحدة والولايات المتحدة، بفرض عقوبات على الرجل الذي كانت قواته تعرضت للهزيمة في حرب مايو على يد القوات الطرابلسية.

وتلقى بادي في استعداده للتحرك من جديد، بالتزامن مع تحرك “اللواء السابع″، مساعدات عسكرية من مصراتة التي أعلن قادة فيها رفضهم للعقوبات الدولية التي صدرت بحقه.

يبدو موقف السراج متشككا من القيادات التي تعمل معه، وهي تنتمي أساسا إلى مدينة مصراتة، ومن بين هؤلاء نائبه أحمد معيتيق، الذي وقّع على رسالة ضده، وباشاغا، الذي يرفض حل النزاع في طرابلس بالأسلحة الثقيلة.

أحد الأضلاع الأمنية المهمة في وزارة الداخلية في طرابلس، هي قوة إدارة الدعم المركزي، بقيادة العميد محمد فتح الله، وهي لم تظهر أي تعاون يذكر مع “القوات الطرابلسية” التي تتعامل معها باعتبارها مجرد ميليشيات غير نظامية.

مع تجهيز السراج لقواته التي تظهر كقوات لا تعمل بتنسيق واضح مع قوات وزارة الداخلية، بدأت “قوة إدارة الدعم المركزي” في التحرك في اتجاه مطار طرابلس الدولي. ومعروف أن موقع المطار يعد بوابة الدخول لقوات “اللواء السابع″ وقوات بادي إلى شوارع العاصمة، والمقار الأمنية التي تتواجد فيها القوات الطرابلسية.

الهدف من توجه “قوة إدارة الدعم المركزي” إلى جبهة المطار، منذ الثلاثاء، هو منع القوات الطرابلسية التي تقودها شخصيات يعتمد عليها السراج، مثل هيثم التاجوري، وغنيوة الككلي، من الوصول إلى المطار أو التمركز فيه.

يعتمد السراج أيضا على قوات أخرى لمنع الهجوم على العاصمة، منها جهاز الحرس الرئاسي، الذي يقوده اللواء ضياء العمروني. وفيما تبقى من ساعات النهار، من الثلاثاء كذلك، تقرر تشكيل غرفة عمليات مشتركة، تضم كلا من “كتيبة طرابلس″ و”قوات الردع″ و”لجنة الترتيبات الأمنيـة”، على أن يكون مقر الغرفة في “كتيبة طرابلس″. وتقرر على الفور صرف نحو 50 سيارة دفع رباعي وتوفير الذخيرة اللازمة.

في مساء اليوم نفسه، بدأت أول مواجهة بين السراج ووزير داخليته، بشأن التضارب في المواقف في ما بينهما على جبهة المطار. في لهجة غاضبة وصف السراج القوات التي تسعى لمهاجمة العاصمة بأنها “ضد الحكومة الشرعية”، وهي خطوة تعكس خطورة الموقف بين الرجلين، في ظل تمسك باشاغا بموقفه.

قد يؤدي الوضع في العاصمة بهذه الطريقة إلى تداعيات لا تحمد عقباها. المدينة يعيش فيها أقل قليلا من مليوني نسمة، وشوارعها تعج بالسيارات المسلحة والشاحنات المركب عليها صواريخ غراد، والدبابات تهدر على المحاور نهارا وليلا، والكهرباء مقطوعة معظم الوقت، والمؤن ترتفع أسعارها بشكل يفوق طاقة غالبية السكان، ولا أحد يعرف كيف ستنتهي هذه المأساة.

وفي إصرار على التمسك بخطط التصدي لأي هجوم على العاصمة، تلقت التشكيلات العسكرية المولية للسراج بيانا منسوبا إلى “قوة حماية طرابلس″، يقول “إن قوة حماية طرابلس كانت طيلة الفترات الماضية تعمل على تغليب مصلحة الوطن والمواطن وقوفا عند مطلب الشعب الليبي بالعيش الكريم في دولة مستقرة تحت حكم واحد في ظل سيادة القانون”.

ويضيف “ولكن أبت بعض الفئات من الخوارج والمندسين الذين فضوا يد الطاعة عن ولي الأمر، ويحتمون بغطاء قبيلة ترهونة المجاهدة، وهي براء منهم، إلا أن يشعلوا فتيل الحرب بفتنتهم التي يستمدون وقودها من ممولي وتجار حرب فجر ليبيا في السابق”.

في مواجهة بيان الموالين للسراج، أصدرت وزارة الداخلية بيانا عبرت فيه عن بالغ القلق من الخروقات الأمنية التي تشهدها منطقة جنوب طرابلس. وحذرت من أي محاولة لفرض ما أسمته بـ”سياسة الأمر الواقع″ على محيط مطار طرابلس، واعتبرته أمرا مرفوضا، مؤكدة أنه سيتم اتخاذ الإجراءات القانونية لفرض السيطرة على المطار ومرافقه ومحيطه.

بدأت البلاغات عن سير المعارك تترى. شوهدت قوات تابعة للزنتان تتقدم في ناحية سوق الخميس. في اليوم التالي فصلت هذه القوات سوق الخميس عن قصر بن غشير، وهو ما يعرقل تحرك القوات الغازية من الجنوب إلى باقي منطقة صلاح الدين الاستراتيجية في العاصمة. سمع صوت إطلاق النار من الأسلحة الخفية ومن المدفعية. انتشر الذعر وسط الأحياء السكنية. هرعت سيارات الإسعاف العسكرية إلى جهة طريق المطار. ولذلك تبدو العاصمة الليبية حبلى بمتغيرات كثيرة، لكن لا أحد يعرف ما يجري في الخفاء من ترتيبات لاحقة، سياسيا وعسكريا.

العرب