الحلف الاستراتيجي بين سوريا وإيران الذي ساعد على إنقاذ بشار الأسد منذ بدايات الثورة السورية هو الحلف الذي يتخوف كثيرون من أن يكون قد تحول إلى عقبة أمام فرص عودة سوريا إلى الحضن العربي. التصعيد الأميركي ضد توسع النفوذ الإيراني في سوريا والمنطقة لا يجعل احتضاناً كهذا عملية سهلة على كل حال. وإذا كان هناك من ينظر إلى هذه العودة السورية من منظار مصلحة سوريا ومصلحة العرب، فإن أسئلة كثيرة ترافق هذه العودة: أي سوريا ستعود إلى العرب؟ وهل يرافق هذا الحرص العربي حرص مقابل من جانب النظام السوري على توفير الشروط التي تسهل عودته إلى حضن العرب؟ وأهم هذه الشروط النظر بحرص إلى الضرر الذي يسببه حلف دمشق – طهران على علاقات الأولى مع محيطها العربي.
إذا كان بقاء النظام السوري قد أصبح أمراً واقعاً، فمن الواقعي أن يعترف الجميع، بمن فيهم النظام، أنه ليس باقياً بقواه الذاتية، بل بالدعم الذي وفرته ولا تزال توفره إيران وحلفاؤها، ومن بعد ذلك الدور الحاسم الذي لعبه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقواته. من هنا الوصاية المفروضة على هذا النظام تجعل قراراته محكومة بالمصلحة الإيرانية بالدرجة الأولى، وبالمساومات الروسية مع القوى الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة بالدرجة الثانية.
كل الوقائع تشير الآن، بعد أكثر من سبع سنوات من عمر الثورة السورية، إلى أن سوريا بوضعها الحالي لم تعد سوريا الأسد، ولا حتى «سوريا الروسية»، رغم الجهد الذي بذلته الدبلوماسية الروسية والسلاح الروسي لحماية نظام بشار الأسد وإنقاذه. فالنفوذ الذي أصبحت تملكه إيران في سوريا، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، أصبح نفوذاً طاغياً تصعب الاستهانة به. من الخطأ أيضاً عدم التنبه إلى أن حجم الاستثمار الذي يراهن عليه النظام الإيراني في سوريا ليس استثماراً قصير الأمد، ولا هو استثماراً صالحاً للاستبدال. نظام بشار الأسد بالنسبة إلى الإيرانيين صار مسألة تتعلق ببقاء الثورة الإسلامية نفسها. فهو الطريق إلى لبنان و«حزب الله»، وهو النظام المقيم عند حدود القوات الأميركية في كل من سوريا والعراق، وهو النظام المتماهي بشكل كامل مع الهوية المذهبية للنظام الإيراني. لهذا كان تقييم القيادة الإيرانية مع انطلاق الثورة السورية أن خسارة سوريا ستجعل من الصعب الحفاظ على النظام في طهران. لقد اعتبر المسؤولون الإيرانيون أن بقاء النظام السوري انتصار لهم في معركتهم الإقليمية. في هذا الإطار يجب فهم الاتفاقات طويلة الأمد بين العسكريين في البلدين لإعادة بناء الصناعات العسكرية السورية. هذه الاتفاقات هي التي تعطي «الحرس الثوري» و«فيلق القدس» الغطاء والأعذار للبقاء على الأرض السورية وتوسيع قواعدهما فيها والانخراط أكثر في نشاط أجهزة الاستخبارات السورية. لهذا يجاهر قائد «الحرس الثوري» الإيراني الجنرال محمد علي جعفري بالحقيقة عندما يؤكد أن «الجمهورية الإسلامية ستبقي مستشاريها العسكريين وقواتها الثورية وكل الأجهزة والمعدات في سوريا لتدريب وتنمية قدرات المقاومة ودعم الشعب السوري».
كان انطلاق الثورة السورية وأسلوب القمع الدموي الذي اختار نظام بشار الأسد أن يواجه به مواطنيه فرصة ذهبية لـ«الحرس الثوري» للتدخل في سوريا. كان النظر إلى الثورة على أنها «مؤامرة ضد محور الممانعة» بهدف إسقاط نظام بشار الأسد، باعتباره أحد أركان هذا المحور. وهي الصورة التي لم تتغير إلى اليوم. طغت على «محور الممانعة» هذا هوية مذهبية شيعية منذ البداية. وفيما حاولت قوى سنية كانت محسوبة على النظام «الممانع»، مثل حركة «حماس» التي كان خالد مشعل رئيس مكتبها السياسي في ذلك الحين، إقناع بشار الأسد بفتح حوار مع أطراف المعارضة بدل اللجوء إلى القمع، فقد عجزت عن ذلك ومالت الكفة لمصلحة القوى التي كانت خطتها هي المواجهة بالنار، والتي كان «الحرس الثوري» و«حزب الله» أداتها الأساسية.
النظام السوري هو في نظر إيران جزء أساسي من مشروعها في المنطقة. يدل على ذلك حجم الإنفاق الإيراني على دعم النظام السوري. في تقرير لوزارة الخارجية الأميركية نشر في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي جاء أن إيران أنفقت منذ عام 2012 نحو 16 مليار دولار على نشاطاتها في عدد من دول المنطقة، أهمها سوريا ولبنان والعراق واليمن.
وبالطبع، لا علاقة لهذا الإنفاق بما تزعمه طهران من استعداد للمواجهة مع إسرائيل، فالقوات الإيرانية كانت في حالة غياب كامل عن الرد على كل الهجمات التي شنتها إسرائيل على مواقع الجيش السوري ومخازن الأسلحة الإيرانية على الأراضي السورية.
مسألة الوجود الإيراني في سوريا لا تعوق فقط جهود عودة سوريا إلى الحضن العربي. الأرجح أنها ستكون أيضاً عائقاً أمام إعادة الإعمار. وفي الأسبوع الماضي حذر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو من أن سوريا لن تحصل على أموال أميركية لإعادة الإعمار طالما أن القوات الإيرانية موجودة فيها. وبالطبع يؤثر قرار إدارة الرئيس ترمب على الشركات الأميركية. فالنفوذ السياسي والعسكري لإيران في سوريا يجعل فرص الاستثمار فيها أكثر صعوبة بالنظر إلى تأثير هذا النفوذ على الاستقرار الأمني واحتمالات المواجهة المفتوحة مع إسرائيل.
وخلال الزيارة الأخيرة التي قام بها وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل لبيروت سمع المسؤولون اللبنانيون كلاماً تحذيرياً مماثلاً للشركات اللبنانية التي تنوي دخول سوق إعادة الإعمار في سوريا، مع استمرار النفوذ الإيراني فيها. وبلغ التحذير حد التهديد بتعرض هذه الشركات لعقوبات أميركية إذا خالفت قرار واشنطن.
إذا كان الرهان العربي على استعادة العلاقات مع سوريا هو لقيام حالة من التوازن مع النفوذ الإيراني، فإن السؤال الذي يحتاج إلى جواب هو: هل يرغب النظام السوري في قيام هذا التوازن؟ وهل يملك القدرة على إقامة مثل هذا التوازن، حتى لو أراد؟
الياس حرفوش
الشرق الاوسط