ربما تكون زيارة وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو القاهرة يوم الخميس الماضى من أنجح الزيارات التى شهدتها العلاقات المصرية ـ الأمريكية منذ زمن طويل، لأنها أكدت قناعة الإدارة الأمريكية بصدق توجهات السياسة المصرية تجاه العديد من القضايا، خاصة قضايا الإرهاب، والصراع الدائر فى عدد من دول المنطقة مثل سوريا، وليبيا، واليمن، والعراق.
اعتراف وزير الخارجية بالخطأ الذى وقعت فيه الإدارات الأمريكية السابقة تجاه ما حدث فى مصر وفى المنطقة كان صريحا وواضحا، حينما أكد فى كلمته بالجامعة الأمريكية أن أمريكا كانت غائبة بصورة كبيرة عن المنطقة، وأن القادة الأمريكيين أخطأوا فى قراءة التاريخ، والحكم على أحداث المنطقة، مما كان له تأثيرات سلبية على حياة الملايين من الشعب المصرى وشعوب المنطقة.
العلاقات المصرية ـ الأمريكية تراوحت بين الدفء والجفاء الشديدين على مدى فترات تاريخية، وفى الوقت الذى كانت فيه الولايات المتحدة إحدى أدوات الضغط لمصلحة مصر فى إنهاء العدوان الثلاثى عليها من جانب «إنجلترا، وفرنسا، وإسرائيل» عام 1956، تغيرت الأمور بعد ذلك ومرت أحداث كثيرة وتبدلت الأحوال، وبسبب انحياز أمريكا الأعمى إلى إسرائيل قامت مصر بقطع العلاقات مع أمريكا عام 1967، واستمر الموقف المأزوم فى العلاقات المصرية ـ الأمريكية حتى تولى الرئيس الراحل أنور السادات مسئولية الحكم، لتشهد تلك العلاقات قوة لم تشهدها قبل، وتطورت العلاقات لتصبح أمريكا المصدر الرئيسى للأسلحة إلى مصر، وأكبر مانح للمساعدات الاقتصادية لمصر فى ظل رعايتها مفاوضات السلام المصرية ـ الإسرائيلية، واستمر التقارب المصرى الأمريكى فترة طويلة ليبدأ بعدها التوتر والجفاء يدب مرة أخرى مع قدوم بوش الابن إلى السلطة فى أمريكا، وتزايدت موجة الجفاء خلال ولاية أوباما الثانية رغم أنه بدأ ولايته الأولى بتقارب مع القاهرة، وزارها فى شهر يونيو عام 2009 ووجه منها رسالته للعالمين العربى والإسلامي، مناديا بوحدة الحضارات.
وقعت أمريكا فى فخ مساندة الثورات العربية بعد ذلك، وساندت الفوضى التى اجتاحت المنطقة كلها، فى محاولة منها لنشر سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذى أطلقته على لسان وزيرة خارجيتها كونداليزا رايس.
مع تولى الرئيس عبد الفتاح السيسى مسئولية الحكم فى مصر بدأت الأمور تعود إلى مسارها الطبيعى، إلى أن تولى الرئيس ترامب السلطة فى أمريكا واعترف بخطأ الإدارات الأمريكية السابقة فى التعامل مع ملفات المنطقة الذى أدى إلى انهيار العديد من دول المنطقة، وإشعال نيران الحرب الأهلية فيها عكس ما كان يتم الترويج له من شعارات لم تظهر على أرض الواقع.
قدوم وزير الخارجية الأمريكية إلى مصر ومباحثاته مع الرئيس عبد الفتاح السيسى وتأكيده أهمية الشراكة الإستراتيجية المصرية ـ الأمريكية، وأهمية الدور المصرى المحورى فى دعم استقرار منطقة الشرق الأوسط، يأتى فى إطار مرحلة التحول التى تعيشها السياسة الأمريكية الآن تجاه الأحداث فى المنطقة، وتوجهها نحو خلق حالة من الاستقرار فى المنطقة بعد فترة العواصف التى اجتاحتها، وتحول الثورات إلى فوضى اقتلعت الأخضر واليابس فى العديد من الدول، وكادت تعصف بمصر لولا يقظة الشعب المصرى وتلاحمه مع قواته المسلحة فى إنقاذ مصر من الانهيار.
نجاح ثورة 30 يونيو فى مصر أوقف مخطط اغتيال المنطقة كلها، وتحويلها إلى مستنقع للفوضي، وفى البداية كانت هناك حالة من التردد فى السياسة الأمريكية فى مساندة الموقف المصرى، إلا انه بمرور الوقت بدأت أمريكا تعيد حساباتها مرة أخرى، ليس هذا فقط بل تعترف الآن بكل قوة أنها أساءت التقدير فى المنطقة، وان الرئيس السيسى يقود مصر نحو التنمية والازدهار.
خلال المؤتمر الصحفى المشترك لوزيرى خارجية مصر والولايات المتحدة الأمريكية، ظهرت مؤشرات كثيرة تؤكد عودة العلاقات الإستراتيجية مع أمريكا إلى سابق عهدها، فى ظل تأكيد وزيرى خارجية البلدين زيادة وتيرة الزيارات المتبادلة، وعقد الحوار الإستراتيجى، وصيغة المشاورات 2 + 2 بين وزيرى الدفاع والخارجية فى البلدين، ودعم وتنمية العلاقات التجارية بين الجانبين، تحقيقا لرؤية الرئيسين السيسى وترامب.
العلاقات الإستراتيجية مع أمريكا لا تمنع من أن يكون لمصر موقف ثابت وواضح تجاه الأحداث فى المنطقة، حتى إن اختلف هذا الموقف مع الموقف الأمريكى، خاصة الموقف من القضية الفلسطينية الذى تشدد مصر عليه دائما، وتلتزم به، ويقوم على ضرورة التوصل إلى حل عادل وشامل يضمن حقوق الشعب الفلسطينى، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وفق المرجعيات الدولية.
الميزة الأساسية للرئيس عبد الفتاح السيسى أنه لا يكرر أخطاء الآخرين، حيث عانت السياسة الخارجية المصرية لفترات طويلة من الاستقطاب الشديد، فهى إما تكون شرقا أو غربا، وفى الوقت الذى كانت مصر تتقارب فيه مع المعسكر الشرقى كان الجفاء والتباعد يدب فى علاقتها مع المعسكر الغربى، والعكس صحيح تماما، ففى الوقت الذى كانت تزدهر فيه العلاقات المصرية مع الاتحاد السوفيتى (سياسيا واقتصاديا وعسكريا) كان الجفاء يدب على الفور فى العلاقات مع الولايات المتحدة، حتى وصل إلى ذروته بقطع العلاقات معها فى عام 1967، ثم بعد ذلك عادت العلاقات مع أمريكا إلى ذروتها فى جميع المجالات، لكن على حساب العلاقات مع الاتحاد السوفيتى، وهكذا إستمرت هذه السياسة الأحادية الجانب حتى جاء الرئيس عبد الفتاح السيسى لينهى هذه الصيغة تماما، وتصبح مصر شريكا إستراتيجيا للولايات المتحدة، وفى الوقت نفسه لها علاقات شديدة التميز مع روسيا والصين والاتحاد الأوروبى بالقوة نفسها، وربما أكثر فى بعض المجالات، دون أن يكون هناك ارتباط عكسى بين العلاقات مع دولة على حساب أخري.
هذه الصيغة أعادت التوازن إلى السياسة المصرية، وجعلت منها قبلة تتجه إليها دول العالم المختلفة، وجعلتها أكثر قوة فى التفاوض مع القوى الدولية المختلفة.
مصر لها موقف واضح ومستقل فى العديد من قضايا دول المنطقة، حيث كان الرئيس عبدالفتاح السيسى أول من طالب بضرورة الحفاظ على الدولة السورية من السقوط والانهيار، وترك الشعب السورى يقرر مصيره بعيدا عن التدخلات الأجنبية فى شئونه، وترك مصير الرئيس السورى بشار الأسد للشعب السورى نفسه، وفى البداية لم يكن هذا الموقف يروق للأمريكيين وبعض الدول الأخري، والآن تحول الموقف وتغير تماما لمصلحة الرؤية المصرية، بل إن أمريكا الآن تريد سحب قواتها من سوريا، مكتفية بما حدث. وعلى الجانب الآخر فقد عادت البعثات الدبلوماسية من جديد إلى دمشق، وأصبح هناك شبه توافق على ضرورة الحفاظ على ما تبقى من الدولة السورية.
أيضا فإن لمصر موقفا مستقلا وواضحا من ليبيا، حيث ترى مصر ضرورة توحيد الجيش الليبى، وضرورة رفع الحظر عنه، وفى الوقت نفسه الالتزام بما تم الاتفاق عليه أمميا، ودعم جهود المبعوث الدولى غسان سلامة، من أجل عودة ليبيا الموحدة وتطهيرها من بؤر التطرف والإرهاب.
على الجانب الآخر، فإن الولايات المتحدة الأمريكية مطالبة بمراجعة مواقفها من العديد من القضايا والمواقف فى المنطقة، فى ظل اعترافها بالأخطاء التى وقعت فيها الإدارات السابقة، خاصة فيما يتعلق بقضيتى السلام ومحاربة الإرهاب فى المنطقة.
مكافحة الإرهاب تقتضى ضرورة دعم دول المنطقة خاصة مصر، لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وعبور تلك الفترة الزمنية الصعبة التى يعانيها الاقتصاد المصرى بسبب تداعيات سنوات الفوضى والانفلات التى ضربت الاقتصاد فى مقتل، خاصة فى ظل ارتفاع فاتورة مكافحة الإرهاب.
أيضا فإنه على الجانب الآخر يجب أن تعود أمريكا إلى صيغة «الوسيط النزيه» فى مفاوضات السلام العربية ـ الإسرائيلية، والعمل على تحقيق حلم إقامة الدولتين (فلسطين وإسرائيل) على حدود 1967، وطبقا لقرارات الأمم المتحدة فى هذا الشأن.
كبح جماح التطرف الإسرائيلى ضرورة فى هذه المرحلة، لإعطاء الأمل للشعب الفلسطينى المكافح بعد سنوات طويلة من الصراع والقتال فى المنطقة.
القوة الإسرائيلية المفرطة لم تفلح فى إنهاء حلم الفلسطينيين فى إقامة دولتهم، وبالتالى ليس هناك طريق سوى التفاوض وإقامة السلام العادل والشامل لكل دول المنطقة.
أتمنى أن تكون زيارة مايك بومبيو القاهرة خلال الأسبوع الماضى واعترافه بأخطاء السياسة الأمريكية فى المنطقة بداية جديدة تتبعها خطوات أخرى، لاستئصال شأفة الإرهاب من المنطقة وإحلال السلام العادل والشامل على كل شعوب المنطقة، وتحقيق حلم إقامة الدولتين (فلسطين وإسرائيل)، بما يؤدى إلى إيقاف نزيف الدم، وتحقيق السلام للأجيال المقبلة.
الاهرام