عرفات والخميني.. كيف انقلب دعم فتح للثورة الإيرانية ضدها

عرفات والخميني.. كيف انقلب دعم فتح للثورة الإيرانية ضدها

واشنطن – عند الحديث عن علاقة إيران بالقضية الفلسطينية، يطرح مباشرة ملف تبعية حركة حماس لإيران. لكن، لعلاقة اليوم جانب آخر منسي تأثيراته مازالت ماثلة بعد أربعين عاما من قيام الجمهورية الإسلامية في إيران التي كان لمنظمة التحرير الفلسطينية دور في تطور نظامها ودعم مؤسسها آية الله الخميني، وفي تشكيل الحرس الثوري الإيراني، كما في ترسيخ الدور الإيراني في لبنان منذ الحرب الأهلية.

يكشف عن البعض من هذه التفاصيل، التي ضاعت بين سطور الأجندة الإيرانية في المنطقة وما تتسبّب فيه من صراعات ومشاكل وفوضى، الباحث اللبناني طوني بدران في تحليل نشرته مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، ضمن سلسلة لتغطية الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية، وما أحيط بهذا الحدث المفصلي.

يركز التحليل على علاقة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بالخميني، ويروي معلومات حول دعم حركة فتح للثورة الإيرانية، ودورها في تسليح الشيعة، وكيف أن حركة أمل وبعض قيادات حزب الله والحرس الثوري الإيراني هم “من خريجي” معسكرات التدريب التابعة لحركة فتح.

***

عندما وصل ياسر عرفات إلى طهران في 17 فبراير 1979، كأول “زعيم أجنبي” دُعي لزيارة إيران بعد أيام قليلة من انتصار الثورة الإسلامية. وصف عرفات هذه الزيارة بأنها بمثابة زيارة “بيته”. كان عرفات يضمر شيئا من وراء كلماته المنمّقة. فبعد أن أمضى عقدا في تطوير وتعزيز العلاقات مع جميع القوى الكبرى في ذلك الوقت، من الماركسيين إلى الإسلاميين، الذين أطاحوا بالشاه، أصبح لديه سبب وجيه للشعور بأن له دورا في انتصار الثورة.

خلال الأيام العصيبة التي شهدتها إيران بين سنة 1967 و1979، كان الفلسطينيون حاضرين. وكانوا جزءا من الثورة وساهموا في تشكيل نظام الخميني. بالنسبة لياسر عرفات، مثّل النظام الثوري في إيران فرصة لحصول الفلسطينيين على حليف قوي جديد.

بالإضافة إلى ذلك، رأى عرفات فرصة للعب دور الوسيط بين إيران والعرب، وتشجيعهما على تجنّب الصراع مع بعضهما البعض، والعمل لصالح دعم كفاح الفلسطينيين ضد إسرائيل. ومع ذلك، سرعان ما أصبح من الواضح أن طموح عرفات غير قابل للتحقيق، وأنه سيصبح في الواقع خطرا على القضية الفلسطينية.

بدأت العلاقة بين الفصائل الثورية الإيرانية والفلسطينيين في أواخر الستينات بالتوازي مع صعود عرفات في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية. في سنة 1963، وبعد حملة القمع التي شنتها الحكومة الإيرانية ضد المعارضة، قررت هذه الأخيرة اعتماد أساليب حرب العصابات ضد الشاه.

ومع نهاية العقد، تواصلت فصائل المعارضة الإيرانية مع ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في دول إقليمية بما فيها قطر وحتى العراق حيث كان آية الله الخميني يعيش منذ 1965. سرعان ما وجدت التنظيمات الماركسية الإيرانية طريقها إلى معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن وجنوب اليمن. بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967، جعلت سلسلة من عمليات منظمة التحرير الفلسطينية من عرفات نجما إعلاميا.

كانت ليبيا مصدرا مهما لتمويل الخميني ولحركة مجاهدي خلق. ثم أصبحت حليفا فاعلا مع اندلاع الحرب بين الجمهورية الإسلامية المولودة حديثا وصدام حسين، والذي قدم نفسه على أنه سيف العرب ضد الفرس، وسعى إلى سحق جارته الثورية

وعانت منظمة التحرير من هزيمة عسكرية وسياسية كبيرة في 1970، عندما تصادمت مع الجيش الأردني في الأردن. ثم طردت المنظمات العسكرية الفلسطينية، في ما أصبح يعرف باسم “أيلول الأسود”.

كان لبنان البلد الوحيد الذي قدم للفلسطينيين المهزومين القدرة على العمل بحرية تحت غطاء عربي، وتم ذلك من خلال اتفاق القاهرة سنة 1969. ولأن موقف منظمة التحرير الفلسطينية في هذا البلد الصغير لم يكن له مثيل في أي مكان آخر في العالم العربي خلال السبعينات، فقد أصبح لبنان الموقع الذي وقع فيه الجزء الأكبر من لقاءات الثوريين الإيرانيين مع الفلسطينيين.

حتى قبل انهيار نظام لبنان، واندلاع الحرب الأهلية، والتي تمت تغذيتها في جزء منها بالأسلحة والطموحات الفلسطينية، أصبحت البلاد ساحة تدريب للثوار من جميع أنحاء العالم، ومغناطيسا للكوادر من الفصائل الثورية الإيرانية، من الماركسيين إلى الثيوقراطيين وغيرهم.

عملت الجماعات اليسارية الفلسطينية، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع الفصائل الإيرانية اليسارية، مثل الفدائيين الماركسيين، من أمثال منظمة فدائيي خلق الإيرانية المسلحة، وأيضا تعاملت مع جماعات شيوعية صغيرة أخرى.

في المقابل، عملت حركة فتح مع الجميع. كان خليل الوزير، المعروف أيضا باسمه الحركي أبوجهاد، منسق هذه الأنشطة، وكان اليد اليمنى لياسر عرفات والقائد العسكري الرئيسي لحركة فتح.

لبنان همزة الوصل

لم يكن عدد المقاتلين الذين تدرّبوا في لبنان مع الفلسطينيين كبيرا. لكن الكوادر الإيرانية في لبنان تعلّمت مهارات مفيدة واشترت أسلحة ومعدات وهرّبتها إلى إيران. وأشار تقييم استخباراتي أميركي سنة 1977 إلى “كمية الأسلحة المتطورة المتاحة للإرهابيين”، والتي تضمنت “بنادق هجومية، وصواريخ خفيفة خارقة للدروع (أر.بي.جي)، وربما قذائف هاون، الأمر الذي يتيح لهم مرونة كبيرة في تكتيكاتهم”.

لكن تكتيكات حرب العصابات التي نفذتها الجماعات اليسارية الإيرانية لم يكن لها نجاح يذكر في النضال الثوري داخل إيران. لكن هذه التكتيكات ستلعب دورا في الفترة الانتقالية في أعقاب انهيار نظام الشاه رضا بهلوي.

كانت فصائل المعارضة الإيرانية الرئيسية الثلاثة العاملة في لبنان هي: حركة حرية إيران، التي غالبا ما توصف بأنها حداثية إسلامية؛ وحركة مجاهدي خلق الإيرانية؛ والإسلاميون المنقادون لآية الله الخميني. لكن عمل منظمة التحرير الفلسطينية مع جميعها لا يعني أن ياسر عرفات صنفها على نفس المستوى. لم تطور منظمة التحرير الفلسطينية أي علاقة جديّة مع حركة حرية إيران، حليفة الزعيم الديني الشيعي الإيراني-اللبناني موسى الصدر.

أقامت منظمة التحرير الفلسطينية علاقات عمل وثيقة مع الخميني. وكانت أهم ثلاث شخصيات نشطة في لبنان في تعاملها مع منظمة التحرير الفلسطينية هي محمد صالح الحسيني، الذي كان ناشطا في العراق حيث اتصل مع فتح قبل مجيئه إلى لبنان في 1970، وجلال الدين فارسي، وهو ناشط إسلامي ترشح للرئاسة في 1980 ضمن التيار التقليدي (قبل أن يستبعد بسبب أصله الأفغاني)، ومحمد منتظري، ابن رجل الدين البارز آية الله حسين علي منتظري، الذي كان له دور قيادي في تطوير فكرة إنشاء الحرس الثوري الإسلامي.

وقدم العضو في حركة التحرير الفلسطينية أنيس نقاش، الذي قام بالتنسيق مع هؤلاء الثوريين الإيرانيين الثلاثة، سردا لهذه العلاقة. وتحدث عن خوف حلفائه الخمينيين من انقلاب بعد فوزهم، كقوة دافعة لتأسيس فيلق الحرس الثوري. وقد تبنى الفكرة. وادّعى نقاش أن جلال الدين فارسي اتصل به، وطلب منه صياغة الخطة لتشكيل الدعامة الأساسية للنظام الخميني.

قد يكون تشكيل الحرس الثوري الإيراني أكبر مساهمة منفردة قدمتها منظمة التحرير الفلسطينية إلى الثورة الإيرانية. بعد الثورة، طلب منتظري من عرفات إرسال مقاتلي فتح إلى إيران لتدريب المجندين الجدد في الحرس الثوري، لكن ذلك لم يحدث بسبب معارضة أفراد من الحكومة المؤقتة.

بدت التقارير التي تشير إلى وجود فلسطيني كبير في إيران مبالغا فيها. في الوقت الذي قد يتخيل فيه الفلسطينيون، وأعداؤهم، نفوذا كبيرا لمنظمة التحرير الفلسطينية داخل إيران، لا يوجد دليل على حقيقة ذلك.

كان لبنان ساحة القتال الرئيسية التي التقى فيها الفلسطينيون والإيرانيون. كان النّشطاء الخمينيون في لبنان معادين لحركة حرية إيران وحليفهم موسى الصدر، الذي تحولت علاقته مع الفلسطينيين إلى عداوة. أدى العداء المتبادل بين الخمينيين والفلسطينيين مع الصدر في سنة 1978 إلى “مقتل” رجل الدين الشيعي اللبناني في ليبيا، وهي الدولة التي أقام الخمينيون علاقات مع زعيمها في ذلك الوقت معمر القذافي، بمساعدة من الأطراف الفلسطينية.

وأوضح مساعد عرفات علي حسن سلامة لضابط وكالة المخابرات المركزية روبرت أيمس، أنه كان من المفترض أن يلتقي الصدر مع آية الله محمد بهشتي، أحد كبار مساعدي الخميني، لتسوية الخلافات تحت رعاية القذافي في طرابلس. وصل الصدر، لكن بهشتي لم يأتِ. ووفقا لسلامة، طلب بهشتي من القذافي أن يحتجز الصدر، الذي وصفه بأنه عميل غربي و”تهديد للخميني”.

في لبنان، وجهت دوائر الصدر أصابع الاتهام إلى حلفاء عرفات، جلال الدين فارسي ومحمد صالح الحسيني. وفقا لهذه الدوائر، قال حسيني لمسؤول من حركة أمل “صديقك لن يعود”.

بالإضافة إلى دورها في تصفية الصدر، كانت ليبيا مصدرا مهما لتمويل الخميني ولحركة مجاهدي خلق في نفس الوقت. ثم أصبحت حليفا فاعلا مع اندلاع الحرب بين الجمهورية الإسلامية المولودة حديثا وصدّام حسين، والذي قدم نفسه على أنه سيف العرب ضد الفرس، وسعى إلى سحق جارته الثورية.

أدّت جملة التحالفات والتّنافسات القاتلة التي تشابكت في لبنان إلى نشوء صراع على السلطة في فترة انتقالية دامت سنتين بعد انتصار الثورة، حيث تحرك الخمينيون لتعزيز قبضتهم على السلطة.

فهم ياسر عرفات أن للخمينيين قدرة على التعبئة الشعبية بين القوى الثورية داخل إيران. لكنه كان يتطلع إلى إبقاء قنوات متعددة مفتوحة، أثناء محاولته الاستفادة من العلاقات المتناقضة. بعد الثورة نفسها، حافظ على صلاته مع حركة مجاهدي خلق، التي كانت تخوض معركة عنيفة مع فصائل الخميني بين 1979 و1981. وتجمّع ذلك في الحزب الجمهوري الإسلامي، الذي أطلق على نفسه اسم حزب الله.

وأوضح هاني فحص، وهو رجل دين شيعي لبناني عمل مع حركة فتح كحلقة وصل بينها وبين الإيرانيين، أن ياسر عرفات واصل علاقته مع مجاهدي خلق كوسيلة لـ“وخز” النظام الإيراني الجديد إذا أراد شيئا ما أو إذا كان مستاء منهم. كان هزّ الدول العربية أسلوبا راسخا عند ياسر عرفات، واعتقد أنه يمكن أن يتكرّر مع إيران.

قمع النظام الإيراني الجديد التمرّد الكردي في سنة 1980، ولاحظ وزير الدفاع آنذاك، مصطفى تشمران، الذي قضى بعض الوقت في لبنان وكان حليفا مقربا من موسى الصدر، أن نفس أساليب حرب العصابات التي استخدمها الفلسطينيون وحلفاؤهم ضد ميليشيا أمل في لبنان كانت حاضرة في مواجهة الأكراد.

ومع ذلك، فإن تواصل العلاقات بين ياسر عرفات ومجاهدي خلق في الوقت الذي يخوضون فيه معركة دامية مع الحزب الجمهوري الإسلامي، ومحاولاته التدخل في الشؤون الإيرانية الداخلية، لم يعجب الخميني الذي لم يكن راضيا على تصرفات الزعيم الفلسطيني ورأى فيها نوعا من التهديد. وسرعان ما تمّ صد محاولات منظمة التحرير الفلسطينية للتدخل في المجال السياسي الإيراني، بطرق واضحة.

ممنوع التدخل

يروي هاني فحص طرفة حول المرّة التي قدم فيها رأيه، خلال محادثة بين محمد صالح الحسيني وجلال الدين فارسي عن الشؤون الخارجية الإيرانية، مشيرا إلى أن الحسيني رد عليه بأن المسائل الإيرانية لا تعنيه.

لم تكن حادثة فحص استثناء. امتد هذا الموقف لعرفات وآخرين. وأشارت مذكرة وكالة الاستخبارات المركزية، سنة 1980، إلى عمليات مراقبة مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في إيران. لم يسمح النظام الجديد لعرفات وجماعته بأن يتدخلوا في الشؤون الإيرانية.

لم تكن محاولة عرفات لممارسة السياسة داخل إيران الوحيدة التي أفسدت علاقته مع الخميني. منذ البداية، حاول عرفات الاستفادة من علاقاته مع النظام الجديد بمحاولة التوسط في أزمة رهائن السفارة الأميركية في إيران التي دامت 444 يوما.

أغضب تدخل عرفات الخميني، وزاد من شكوكه في الزعيم الفلسطيني. وعندما أرسل عرفات أحد كبار مساعديه، أبوالوليد (سعد صايل)، إلى طهران للتوسّط بناء على طلب الأميركيين، رفض الخميني استقباله.

عمّقت الحرب العراقية-الإيرانية مأزق رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. لم يستطع عرفات الوقوف مع إيران وإدانة العراق. فقد كان من شأن ذلك أن يفقده دعم العرب، وخاصة دول الخليج الغنية التي دعمت صدّام حسين.

مرة أخرى، حاول عرفات التوسط. لم يكلف الخميني، المشغول بخوض حرب قتل فيها نصف مليون جندي معظمهم من الإيرانيين، نفسه عناء التعامل معه. إذا كان عرفات يعتقد أنه يستطيع ركوب حصانين في آن واحد، وتحقيق التوازن بين إيران والعرب، فسرعان ما تم تخليصه من هذه الفكرة.

عملت الجماعات اليسارية الفلسطينية مع الفصائل الإيرانية اليسارية، ومع جماعات شيوعية صغيرة أخرى. في المقابل، عملت حركة فتح مع الجميع. كان خليل الوزير، المعروف أيضا باسمه الحركي أبوجهاد، منسق هذه الأنشطة

في نهاية 1981، كان عرفات قد فقد مكانته في طهران. وزاد اغتيال اثنين من أقرب حلفائه الإيرانيين هما محمد منتظري ومحمد صالح الحسيني، تلك السنة من سوء وضعه.

داخل لبنان، كان حزب الله بدأ في دمج نفسه، واستخدم بعض الأطراف، مثل الحسيني علاقاتهم مع حركة فتح لتجنيد كوادر جديدة من الشباب الشيعي اللبناني (من بينهم عماد مغنية). تلقى المجندون تدريبا عسكريا في معسكرات فتح، لكنهم أصبحوا جزءا من تشكيل خمينيّ منفصل، سمّي على اسم سلفه الإيراني.

في سنة 1982، طرد الجيش الإسرائيلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. وتحولت قيادتها إلى تونس. وبحلول ذلك الوقت، أقام الإيرانيون بنية بديلة داخل لبنان، وهي المعروفة اليوم باسم حزب الله.

بعد انطلاق الانتفاضة الثانية، تواصل ياسر عرفات مع إيران بحثا عن الأسلحة. قام بشراء ناقلة “كارين أي”، في لبنان، وقام الإيرانيون بتحميلها بـ50 طنا من الأسلحة، ولعب عماد مغنية دورا أساسيا في العملية. ثم اعترض جيش الدفاع الإسرائيلي السفينة في يناير 2002.

إنّ فكرة عرفات بموازنة الإيرانيين والعرب في معسكر كبير معاد للإسرائيليين في الدول الإقليمية لم تلقَ نجاحا على أرض الواقع. ومع ذلك، فإن رغبته في رؤية إيران تدعم الكفاح المسلح الفلسطيني أصبحت حقيقة، حيث أصبحت طهران فعليا الراعي الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، للخيار العسكري الفلسطيني من خلال دعمها المباشر لحركة الجهاد الإسلامي وعلاقاتها الاستراتيجية مع حركة حماس.

من خلال إقامة علاقات مع الخمينيين، فقد ساعد عرفات على تحقيق عكس حلمه. حوّلت إيران الفصائل الفلسطينية إلى وكلاء لها، وحصرت منظمة التحرير الفلسطينية في الهامش الإقليمي.

العرب