الانسحاب الأمريكى من بلاد الرمال والدماء

الانسحاب الأمريكى من بلاد الرمال والدماء

أعلن الرئيس دونالد ترامب فى 19 ديسمبر 2018 النصر على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وقرر انسحاب القوات الامريكية البالغ عددها 2200 من القوات الخاصة والمستشارين من سوريا أو كما وصفها هو بلاد الرمال والدماء. وكان هذا القرار مبعثًا لردود فعل دولية متنوعة ما بين مؤيد ومتحفظ ومعارض فمع أن الوجود العسكرى الأمريكى كان محدودًا من حيث العدد إلا أنه كان له وزن معنوى وسياسى لا يُستهان به. واختلف المعلقون فى تفسير دواعى هذا القرار وتداعياته, وبدأت تحركات سياسية ودبلوماسية من جانب الأطراف المنخرطة فى الصراع السورى للاستفادة مما حدث.

يتوقف الانسان أمام عملية صنع القرار الخارجى فى أكبر دولة فى العالم وما أصاب هذه العملية من عشوائية وعدم مشاركة المؤسسات ذات الصلة فيها. فمن الواضح أن وزير الدفاع لم يكن على علم بالقرار, وأنه لم يتم استشارته فيه فقدم استقالته أو أُقيل كما أعطى ترامب الانطباع بذلك. وإزاء الآثار السلبية المُحتملة لهذا القرار, سارع المسئولون الأمريكيون بتقديم توضيحات وتبريرات أدت إلى تعقيد المشهد بصورة أكبر. فرغم أن ترامب أشار الى أن الانسحاب سيكون فورًا, فقد تم التراجع عن ذلك وصرح وزير الخارجية الامريكى بأن الانسحاب سوف يكون متدرجًا دون تحديد سقف زمنى له. ووضع مستشار الرئيس للأمن القومى شروطًا للانسحاب فمرة قال إنه لن يتم قبل القضاء على بقايا داعش, ومرة أُخرى قال انه لن يتم إلا بعد خروج القوات الايرانية من سوريا. وأكد الاثنان أن القرار لا يعنى خروج أمريكا من المعركة وإنما سوف تستمر فيها بوسائل وأساليب أخري. وفى هذا اعتراف بأنه لم يتم القضاء على داعش بعد, والسؤال هو إذا لم تكن أمريكا قد نجحت فى تحقيق ذلك وقواتها على الأرض، فكيف تحقق ذلك بعد انسحابها..وجاء القرار مُفاجئًا لحلفاء الولايات المتحدة والذين لبعضهم قوات فى سوريا وهُم فرنسا وبريطانيا واستراليا ونيوزيلاندا, والتى كانت مشاركتهم جزءًا من التحالف الدولى ضد داعش بقيادة أمريكا. وعبر الرئيس الفرنسى عن غضبه مُشيرًا إلى أن العلاقة بين الحلفاء لا يجب أن تكون على هذا النحو, وأن الأمر كان يقتضى التشاور والتنسيق قبل اتخاذ ترامب قراره. وعلى الطرف الآخر, سارع الرئيس بوتين بتأييد القرار الأمريكى ووصفه بأنه صائب وهو رد فعل متوقع لأنه يفسح مجالًا أكبر لدور روسيا ويؤكد وضعها باعتبارها صاحبة اليد الأعلى فى إدارة المسألة السورية. وبنفس المنطق, وصف الرئيس أردوغان القرار بأنه سليم وأكد لترامب أن تُركيا تستطيع استكمال مهمة أمريكا لإتمام الحرب على داعش. وهو أيضًا رد فعل متوقع لأنه إذا تحقق ذلك فإنه يعنى اعتماد أمريكا على تركيا فى سوريا رغم كل مظاهر التوتر فى العلاقات بين واشنطن وأنقرة, ويُتيح لتركيا فرصة تنفيذ سياستها تجاه القوات الكردية المسلحة والتى تعتبرها تنظيمات ارهابية وامتدادًا لحزب العمال الكردستانى فى تركيا. أما بخصوص قيام تركيا بتصفية ما تبقى من جيوب داعش فهو أمر لا يمكن لأى باحث جاد أن يصدقه وهى النتيجة التى وصل إليها تقريرُ أصدرته مؤسسة راند الأمريكية عن الموضوع فى 2 يناير الحالي.

ويرجع ذلك لأن تُركيا لم تنخرط فى الحرب ضد داعش إلا متأخرًا وبشكل محدود فقد كانت قبل ذلك توفر لقوات داعش طريقًا آمنًا لدخول سوريا والخروج منها عبر الحدود, ووصلت الأسلحة والمؤن إليها عبر نفس الطريق, وكان لتنظيم داعش مندوبيه ومكاتبه الادارية فى عدد من المدن التركية بعلم من أجهزتها الأمنية. ثُم إن أقرب وجود لداعش فى سوريا يبعد عن القوات التركية ما يقرب من 300 ميل. فمن يصدق إذن أن تركيا سوف تواصل الحرب على داعش؟ فبالنسبة لها كانت الأولوية ومازالت هى محاربة التنظيمات الكُردية التى ادركت الآثار السلبية للقرار الامريكى عليها. و ارسلت فى اليوم الثانى مباشرة وفدا الى دمشق لاجراء مفاوضات مع الحكومة السورية وآخر الى قاعدة حميميم الروسية. وقامت بتسليم بعض مواقعها للجيش السورى لتحاشى هجوم تركيا عليها. اما بالنسبة لاسرائيل فقد كانت سريعة أيضًا فى التعامل مع القرار الأمريكى فالتقى نيتانياهو مع وزير الخارجية الأمريكى فى البرازيل على هامش الاحتفال بتنصيب رئيسها الجديد, وطلب فى اتصال له مع ترامب التريث فى تنفيذ القرار. وزار مستشار الأمن الأمريكى اسرائيل وتركيا للتشاور بشأن تداعيات القرار.

تبدو سوريا اليوم بعد القرار الأمريكى مثل لوحة شطرنج يتحرك فيها اللاعبون فى الوقت نفسه ومن خلال تحركاتهم يضعون قواعد جديدة للعبة أو ربما يكشفون عن قواعد كانت مخفية أو مستترة. وعلى سبيل المثال, ففى الاسابيع الماضية استكملت جبهة أحرار الشام – وهو الاسم الجديد لجماعة النصرة المدانة عالميا واقليميا باعتبارها تنظيما ارهابيا – إحكام قبضتها العسكرية على مدينة إدلب, وهزمت قوات جيش سوريا الحر ومنظمات أُخرى تحظى بالدعم التركي. والغريب أن يحدث هذا دون تدخل القوات التركية القريبة من ميدان المعركة . كما أن متابعة العلاقات الأمريكية التركية تثير الدهشة والغرابة, ففى نفس الأسبوع الذى هدد فيه الرئيس الامريكى بتحطيم الاقتصاد التركى تمت مكالمة تليفونية مع أردوغان اتسمت بالود, واتفق الرئيسان على رفع مستوى التعاون الاقتصادى بين البلدين. وتكتمل حلقات الدراما بسلسلة الغارات الجوية الإسرائيلية على سوريا لضرب المواقع الايرانية فيها, ولا يمكن أن يكون ذلك قد حدث دون تنسيق أو موافقة ضمنية من روسيا. فروسيا تدير شبكة معقدة من العلاقات السياسية والعسكرية مع ايران وتركيا واسرائيل, ومع النظام الحاكم, ولها قنوات اتصال مع تنظيمات المعارضة. فمن يحارب من فى سوريا ؟ فعلى أرضها يجتمع الاضداد وتتلاقى المتناقضات؟وكم فى السياسة من امور قد تبدو غريبة أو تستعصى على الفهم ولكن تصبح مفهومة عندما نأخذ المصالح والمنافع فى الحسبان. فتش عن المصلحة.

د.علي الدين هلال

الاهرام