لا توجد دولة فى العالم ترسم حدودها الدولية مع الدول المجاورة لها وفقاً لاحتياجاتها الأمنية أو ما تراه مصالح وطنية عليا، وتعطى لنفسها كل الحق وكل المبررات للتوسع فى أراضى الغير وفقاً لما تفرضه تلك الاحتياجات, ضاربة عرض الحقائق بما يفرضه القانون الدولى والمواثيق الدولية من قواعد لترسيم الحدود بين الدول. إسرائيل وحدها بين كل دول العالم لا تحترم هذه القواعد وتعطى لنفسها كل الحق للتوسع والتمدد الجغرافى واحتلال أراضى الغير دون أى وجه حق، ولا تحترم فى ذلك غير ما تراه من مطالب أمنية ومبررات مصلحية. ولذلك فإنها ترفض أن يكون احتلالها لأرض الغير احتلالاً، وتراه تحريراً، ومن ثم لا تعطى حقوقاً للشعب الذى تحتل أرضه.
فعلت ذلك منذ حرب 1948. فإذا كان مجلس الأمن قد أصدر قرار تقسيم فلسطين بين إسرائيل والشعب الفلسطينى فإن إسرائيل لم تحترم الحدود التى حددها قرار مجلس الأمن لحدود دولة إسرائيل وظلت تتوسع على حساب الأرض التى حددها قرار مجلس الأمن لقيام دولة فلسطينية. وبعدوانها المدبر مع الولايات المتحدة عام 1967 احتلت أراضى جديدة من مصر وسوريا ولبنان واحتلت كل أرض فلسطين المتبقية (الضفة الغربية وقطاع غزة) ومنذ هذا العدوان ظلت إسرائيل تساوم على الانسحاب من تلك الأراضى التى احتلتها. ساومت مصر على سيناء وحصلت على كل ما تريده من ضمانات أمنية مقابل انسحابها من سيناء، لكنها ترفض الآن الانسحاب من الأراضى الفلسطينية المحتلة التى تتوسع وتستوطن فيها حسب احتياجاتها الأمنية وتعمل كل ما يمكنها لإجهاض اقتراح حل الدولتين، وترفض بالمطلق قيام أى دولة فلسطينية فى الأراضى التى احتلتها عام 1967، كما أنها ترفض الانسحاب من الأراضى اللبنانية المحتلة وأصدرت فى 14/12/1981 قانوناً يقضى بضم هضبة الجولان السورية إلى السيادة الإسرائيلية وتسعى بكل السبل للحصول على اعتراف دولى بتلك السيادة على الجولان. اكتفت إسرائيل، مؤقتاً بفرض سيادتها على الجولان بعد أن صدمت بإجماع دولى يرفض بشدة قرارها بضم الجولان. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية ضمن الدول الرافضة للقرار الإسرائيلى لكن إسرائيل لم تفقد الأمل فى إحداث تغير فى الموقف الأمريكي، وعندما تفجرت الأزمة فى سوريا عام 2011 أعطت إسرائيل أولوية للحصول على مكاسب جديدة داخل سوريا نفسها هذه المرة، فقد كانت حريصة على أن تؤول هذه الأزمة إلى تدمير الدولة السورية على نحو ما سبق أن حدث للعراق، ومن ثم إخراج سوريا نهائياً من معادلة الصراع ضد إسرائيل، كما حرصت على أن تؤدى هذه الأزمة إلى تفكيك الدولة السورية بما يمكنها من التوسع فى الجنوب السوري، وإيجاد أمر واقع جديد يعطيها القدرة على المزيد من التوسع أو على الأقل تأسيس كيان عميل فى الجنوب السورى تسيطر عليه المنظمات الإرهابية الموالية والعميلة يكون بمثابة حزام أمن يحمى الحدود الإسرائيلية الشمالية، على غرار ما فعلت سابقاً فى الجنوب اللبناني. وفى ذات الوقت نجحت فى التوصل إلى توافق مع روسيا دعمته الولايات المتحدة، يقضى بمنع وصول أى قوات إيرانية أو قوات تابعة لحزب الله إلى الجنوب السوري، بل إنها طورت فيما بعد مطالبها بعد نجاح الجيش السورى فى تحرير كل مناطق الجنوب، عندما أعلنت تخوفها من دخول الجيش السورى إلى الجنوب، إذ إنها رأت أن التزام روسيا وسوريا باتفاقية فصل القوات الموقعة عام 1974 بين إسرائيل وسوريا لم يعد كافياً، لأن القوات الإيرانية يمكن أن تدخل إلى الجنوب السورى مرتدية سترات الجيش السورى وفق ما عبر عنه عاموس غلبوع فى صحيفة «معاريف» بقوله «إذا كنا نأتى لنقول علناً أن كل ما نريده هو أن يحترم السوريون اتفاق الفصل فإننا نكون عملياً نسمح للإيرانيين بالمرابطة على جدارنا فى هضبة الجولان»، والحل عندهم هو: ألا يدخل الجيش السورى نهائياً إلى الجنوب من أجل «المصلحة الأمنية الإسرائيلية»، وفى ذات الوقت لم ينس الإسرائيليون مسعاهم للحصول على اعتراف دولى نهائى بضم هضبة الجولان المحتلة إلى السيادة الإسرائيلية، باعتباره المطلب الأساسى للأمن الإسرائيلى بالنسبة لـ «الجبهة الشمالية». من هنا جاء تجديد مطلب الاعتراف الدولى والأمريكى على وجه الخصوص بضم الجولان، وجاءت الفرصة سانحة لإسرائيل بحدوث تحول مهم فى الموقف الأمريكى التاريخى الرافض لقرار ضم الجولان. فاستكمالاً لقرارات إدارة دونالد ترامب الاسترضائية لإسرائيل بعد قرار الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، وبعد قرار هذه الإدارة بوقف تمويل «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (أونروا) كخطوة لتصفية حق عودة اللاجئين، واستعداداً لطرح ما يسمونه بـ «صفقة القرن» فقد غيرت واشنطن تصويتها الرافض للقرار الذى يُعرض سنوياً على الجمعية العامة للأمم المتحدة ويجدد الرفض الدولى لقرار إسرائيل ضم الجولان، واتخذت هذه المرة موقف «الامتناع عن التصويت». المبررات التى قدمتها نيكى هايلى رئيسة الوفد الأمريكى بالأمم المتحدة لهذا التغير الجديد فى الموقف الأمريكى حفزت الحكومة الإسرائيلية لوضع خطة تحرك جديدة بخصوص الجولان على النحو الذى عبر عنه جلعاد أردان وزير الأمن بقوله: «إن التحرك الآن مهم للغاية»، مضيفاً أن: «ما من عاقل يرى أنه يجب إعطاؤها (الجولان) للأسد وإيران». وكانت نيكى هايلى قد وصفت ذلك القرار السنوى الذى يدين الاحتلال الإسرائيلى للجولان ويرفض شرعيته بأنه «قرار متحيز بوضوح ضد إسرائيل»، ولعل هذا ما شجع بنيامين نيتانياهو على أن يطلب من جون بولتون مستشار الأمن القومى الأمريكي، الذى جاء إلى المنطقة لمعالجة تداعيات قرار الرئيس ترامب بسحب القوات العسكرية من سوريا، اعترافاً أمريكياً بضم الجولان كثمن يجب أن تحصل عليه إسرائيل جراء الانسحاب العسكرى الأمريكى من سوريا، ضمن مطالب أخرى تقدم بها نيتانياهو لجون بولتون ولوزير الخارجية مايك بومبيو من أبرزها الإسراع فى تأسيس التحالف الإقليمى الإستراتيجى المقترح «الناتو العربي» باعتبار أن كل هذه المطالب ضرورية لأمن إسرائيل. خطورة هذا المطلب الإسرائيلى أنه يأتى هذه المرة فى ظروف مواتية دولية وإقليمية ترى أن أى تسوية للأزمة السورية لابد أن تتضمن ضمانات للأمن الإسرائيلي، لكن الأخطر أنه يأتى فى ظروف مأساوية للنظام العربى الذى مازال متردداً فى إعادة دمج سوريا وعودتها إلى الجامعة العربية، فى الوقت الذى مازال منفتحاً فيه على دعوة تأسيس «الحلف الإقليمي»
الاهرام