في الشمال السوري أمران من العبث الجدال فيهما، ومضيعةٌ للوقت الخوض في بدائلهما، سيما أن هناك طاقات وجهود وأعمار صرفت لأجل ذلك. وعلى الرغم من ذلك، يوجد في الجانب الآخر هاو يحدثنا بتحليل طامح إلى تغييرها، لا تقليلاً من جهوده، ولا تبجيلاً للأعمار التي هدرت، لكن السياقات لا تجاري الأمزجة والرغبات.
لا يمكن فصل سياقات تأسيس حزب الاتحاد الديمقراطي عام 2003 في معاقل حزب العمال الكردستاني عن ظروف الولادة القيصرية التي خلفتها اتفاقية أضنة الأمنية 1998 بين سورية وتركيا، وما ترتب على ذلك من خروج زعيم الكردستاني، عبد الله أوجلان، من سورية واعتقاله، ومن ثم تسليمه لتركيا فيما يسميها أنصاره بـ “المؤامرة الدولية” على قائد “الشعب الكردي”. وهما تعبيران يحملان مضامين إيديولوجية كثيرة بشأن تمجيد القائد وبلوغه مصافي الأسطورة، ليستهدف دولياً كونه قائدا للشعب الكردي لا لتنظيم سياسي.
بدخول الاتفاقية طورها التنفيذي، شنت الأجهزة الأمنية السورية حملة اعتقالات في صفوف كوادر حزب العمال الكردستاني ليتم تسليمهم لتركيا، وضيّقت على نشاطاتهم حتى انتقل التنظيم إلى العمل السري، حيث تضاءل نفوذه كسائر التنظيمات السياسية الكردية السورية، لذلك قرّرت المنظومة الأم تأسيس حزب الاتحاد الديمقراطي عام 2003 استنادا على القاعدة الجماهيرية التي أوجدها الحزب الأم، على أن يتبنّى برنامجا سياسياً مقتبساً من أفكار أوجلان.
عقد حزب الاتحاد الديمقراطي عدّة مؤتمرات حزبية، وبيّن في كل مؤتمراته أنه جزء من العمال الكردستاني. وعلى سبيل المثال، في المؤتمر الثالث عام 2007 كان شعار المؤتمر “صحة القائد آبو صحتنا وحريته حريتنا”. كما جاء في بيانه الختامي “باعتبار صحة القائد آبو هي صحة الشعب الكردستاني برمته، وأن أي خطر ينال من حياة وصحة القائد، إنما يهدف في مضمونه إلى إبادة الشعب الكردي دون أي شك”.
يراكم الحزب خطاباً متطرفاً يمجد أوجلان ويرفعه إلى مصاف القديسين، ويعمّمها على أجنحته في سورية وإيران والعراق، فالعبارتان المقتبستان واضحتان، ولا يحتاجان إلى فيض شرح، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، حيث أن أحد الشعارات الأكثر انتشاراً في تظاهرات شمال سورية ضد تركيا، والمطالبة بفك “العزلة” عن أوجلان: “لا يمكننا العيش بدون القائد”، وكذلك “حرية القائد هي حرية الإنسانية”. وهذان الشعاران رئيسيان يرافقان كلمات قادة العمال الكردستاني وخطبه ومهرجانات واحتفالات الحزب في أوروبا والشتات أيضا.
الأمر الأول الذي وددت الإشارة إليه أنّ حزب العمال الكردستاني يملك رأساً واحداً في جبال قنديل، وهذا يستلهم قراره من زعيمه، عبد الله أوجلان، في سجن في جزيرة إيمرالي. بهذا المعنى، لا يمكن فصل الجسد عن الرأس، وكل المحاولات التي اشتغل عليها التحالف الدولي وروسيا عن سورنة حزب الاتحاد الديمقراطي، باءت بالفشل، بدءاً من مطالبتها مغادرة كوادر حزب العمال للأراضي السورية، وتسليم زمام الأمور للكرد السوريين، وانتهاءً بتأسيس حزب سوريا المستقبل، ليشغل موقع حزب العمال.
وتوصلنا هذه النقطة إلى الثانية، ونعني أن الاشتغال على فكرة الزعامة كلف الحزب كثيراً، واستطاع بناءها، على الرغم من تعرّضه لهزات كبيرة، فالزعيم أوجلان يشكل لأنصار منظومة العمال الكردستاني مصدر إلهام، ليس في تركيا وحسب، بل في العالم أجمع، بما في ذلك أنصار المنظومة في سورية. وهذه النقطة بمقدار ما تشكل نقطة ضعف هي نقطة قوة في قيادة وتنفيذ أي قرار يتخذه. لذلك، يستحق الرهان على استئناف مشروع السلام في تركيا العمل لتغيير ماهية العلاقة بين تركيا والإدارة الذاتية من مستويات العداء إلى التعاون وحسن الجوار، سيما أن لأوجلان مواقف كثيرة في مشروع المصالحة والتسوية في تركيا عقب اعتقاله ووقف إطلاق النار من جانب واحد، فحزب العمال الكردستاني اعتذر لأمهات ضحايا الجيش التركي وطالب بجمهورية ديمقراطية تركية.
لتركيا مصلحة رئيسة في مشروع التسوية مع العمال الكردستاني وجناحه التركي، أي حزب الشعوب الديمقراطية الممثل في البرلمان التركي. وإنّ وجود أوجلان نقطة قوة في سياق استئناف مشروع السلام في تركيا، كما أن مواطني شمال سورية لهم مصلحة كبرى في إبعاد شبح مماثل لتجربة عفرين، وإبعاد سيناريو عودة نظام الأسد أيضا.
حسين قاسم
العربي الجديد