تهديدات أمنية تحدق بالحدود التونسية-الليبية

تهديدات أمنية تحدق بالحدود التونسية-الليبية

يُعتبر خط ماجينو العسكري الفرنسي – الذي بُني في الثلاثينيات للتصدي للغزو الألماني المحتّم – مثالًا كلاسيكيًا على كيفية تسبب حس مزيف بالأمان بمخطط إستراتيجي فاشل. أما الخط الأقل شهرة فهو خط مارث الذي بُني في الفترة نفسها في تونس للدفاع عن الوصاية الفرنسية ضد الهجمات الآتية من ليبيا – التي كانت آنذاك مستعمرة تابعة لإيطاليا الفاشية، وقد تمّ تجاوزه على نحو مماثل خلال المعركة. والآن فإن عمليات نشر قوات الدول الأعضاء في حلف “الناتو” على طول خط دفاعي جديد في الصحراء التونسية بُني مرة جديدة لدرء خطر زعزعة الاستقرار المتأتي من ليبيا، تعيد إلى الأذهان هذين الفشلين المزدوجين.

في الوقت الراهن، تفصل الحدود التونسية-الليبية ديمقراطية تعاني من صعوبات ودولة منقسمة بين حكومتين متناحرتين، لا تسيطر أي منها فعليًا على الأرض الليبية. وقد سمح الفراغ في السلطة في هذه الأخيرة للكثير من الميليشيات المحلية والأجنبية إلى جانب عصابات تهريب سلع محظورة التي نمت وازدادت منذ أواخر الثمانينات – وهي متورطة في تجارة المخدرات والاتجار بالبشر ودعم الأنشطة الإرهابية بالعمل على طول الحدود التونسية-الليبية وبالإفلات من أي عقاب نسبيًا.

أما المشكلة الرئيسية التي هي على المحك فهي كيف يمكن للقوات التي تراقب الحدود منع تفاقم عدم الاستقرار الذي تتسبب به مجموعة من القوات الخبيثة العاملة على طول الحدود من دون تقويض حاجة السكان المحليين الذين يعيشون في المناطق الحدودية إلى التجارة وعمليات التبادل. ولا يشك أحد في أن الحدود تطرح تحديًا أمنيًا كبيرًا لتونس.وعلى الرغم من ازدياد ميزانية الدفاع التونسية والمساعدات الأجنبية التي تتلقاها البلاد من شركائها الإستراتيجيين، لا تزال الجماعات الإرهابية على غرار تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” و”الدولة الإسلامية” قادرة على تحدي القوات المسلحة المحلية من خلال صراع قليل الحدة إنما دموي.

غير أن الخط الدفاعي المبني بدعم من الولايات المتحدة وألمانيا لا يتعامل مع التهديد الإرهابي الفعلي. ففي الواقع، نجح المهربون والجماعات الإرهابية في تجاوز هذه المواقع الدفاعية منذ أواخر 2011. وبشكل خاص، ركّزت الجماعات الإرهابية أنشطتها على نقطة التقاء تونس وليبيا والجزائر حيث تسيطر على مناطق جبلية شاسعة وتستفيد من تواطؤ السكان المحليين. من ناحية، يعتمد التونسيون على الفوائد الاقتصادية التي تعود بها التجارة عبر الحدود، سواء كانت شرعية أو لا. ومن ناحية أخرى، ساهم الدعم الضمني الطويل الأمد للميليشيات في ليبيا منذ الثمانينات في تعزيز سيطرة هذه الجماعات على المنطقة.

علاوةً على ذلك، تعتبر الوسيلة المعتمدة حاليًا لمراقبة الحدود التونسية-الليبية عاملًا أساسيًا في خيبة الأمل إزاء السياسة المطبقة بعد الثورة. فالحدود المغلقة تضفي طابع الشرعية على الروايات المتطرفة بما أن العديد من التونسيين وكذلك الليبيين يعتبرون هذه الحدود إرثًا استعماريًا أكثر منها حدودًا داخلية، وبالأخص أولئك الذين يعيشون على طول الحدود المذكورة.

وعلى نحو مماثل، عزز الاستقطاب السياسي بين العلمانيين والإسلاميين بدوره الدعم الذي تتمتع به الجماعات المتطرفة في أوساط بعض الديمغرافيات. وقد روّجت المنظمات المتطرفة لحملة دعائية فعالة سلّطت الضوء على سياسة الحكومة المتصورة إزاء أعمال الشغب المندلعة لأسباب اجتماعية التي وضعت القوات المسلحة في موقف عدائي تجاه الشباب الساخط والمهمش اقتصاديًا. كما فشلت الحكومة في إيجاد رواية مضادة فعالة في مواجهة هذه الحملة الدعائية المتطرفة.

وبالفعل، سلّطت التحديات الاقتصادية الضوء على قيمة التهريب والتجارة غير الرسمية بالنسبة للكثير من التونسيين الذين يعيشون على الحدود الليبية وزادت السخط بعد تنامي عسكرة الحدود وإقفالها في صيف 2018. وبما أن الحكومة التونسية لا تزال عاجزة عن تقديم رؤية للتنمية الاقتصادية أو سياسة متماسكة تعالج التهديد الإرهابي المحلي وعودة المقاتلين الأجانب التونسيين من منطقة المشرق، يناضل القادة السياسيون لإدارة حاجات السكان الاقتصادية والاجتماعية.

أما في الداخل الليبي، فتغلغل المهربون أيضًا في نسيج المجتمع. وقد نظر النظام الليبي السابق إلى المهربين باعتبارهم داعمين ومقاتلين محتملين، على غرار “مجاهدي ميرغني” الذين هاجموا قرية قفصة التونسية عام 1980 بناء على وصية القذافي وقاتلت فيما بعد جنود صدام. وقد وفر قادة الوحدات العسكرية الليبية المنشورة قرب الحدود التونسية الدعم السياسي واللوجستي للمهربين، ما سمح لهم باقتناء سيارات رباعية الدفع، وباستيراد النفط بطريقة غير شرعية وبتوفير منتجات منخفضة التكلفة ومدعومة من ليبيا لقاء الطعام والكحول والمخدرات من تونس. وتمكن المهربون حتى من تنسيق تدفق المهاجرين غير الشرعيين، وهو واقع استغله القذافي كأداة لممارسة الضغط السياسي في أوروبا.

وقد ساهم طرفا النزاع الليبي في تنشيط حركة طرق التهريب البديلة لتلبية حاجاتهما اللوجستية الملحة. وقد وصل دفق كبير من الوقود والمعدات وشاحنات البيك-أب من الجزائر إلى ليبيا عبر تونس. وأصبح واضحًا أن عصابات السلع المحظورة – التي تتعاون مع الإرهابيين – لم تُدر التبادلات التجارية عبر الحدود فحسب بين شمال أفريقيا – بما فيها مصر – ومنطقة الساحل، بل أنها تسيطر أيضًا بفعالية على الاقتصاديات المحلية. وبدأت قرية العلمة الجزائرية بسوقها الذي شاءت السخرية أن يسمى “سوق دبي” تحل محل المدن الليبية على غرار زوارة أو مصراتة لتصبح مركزًا لاستيراد السلع المهربة إلى تونس. ويعتبر الخبراء الجزائريون هذه الديناميكية جزءًا غير رسمي من طريق الحرير الصيني الذي يساهم في “العولمة من الأسفل” ويؤثر على المجتمعات المحلية.

وتبقى الميليشيات الحدودية نقطة شائكة بشكل خاص في عملية السلام الليبية. فالمجتمع الليبي لا يزال متأثرًا بالنظام القبلي الذي استخدمه القذافي لفرض ديكتاتوريته من خلال رؤية فوضوية للاشتراكية العربية وممارسات ريعية واعتمده لاحقًا “المؤتمر الوطني العام”. وشعرت الأقلية الأمازيغية تمامًا كقبيلتي الطوارق والتبو بأنها مستبعدة من السلطة، التي استعادها المشير حفتر. ويثبت فشل خطط الوساطة الفرنسية الحديثة انعدام جدوى تنظيم انتخابات بدون شبكة متينة من مؤسسات الدولة القادرة على تطبيق نتائجها.

حلول محتملة

رغم وجود عدد من العوائق الكبيرة أمام منع الإرهاب والتهريب عبر الحدود التونسية-الليبية، ثمة الكثير من الخطوات أيضًا التي يمكن اتخاذها لزيادة فرص النجاح. على سبيل المثال، يمكن رفع التدريب الذي قدمه لواء سان ماركو الإيطالي إلى عناصر الجيش الليبي إلى مستوى أكثر طموحًا بهدف تشكيل نواة جيش ليبي جديد يقوم على إجراءات واضحة وشفافة لعملية التجنيد. وفي ظل إستراتيجية عسكرية جديدة قائمة تحسين القدرات الحربية لجهة الاستخبارات والمعلومات، يمكن أخيرًا أن تصبح القوات الليبية مدربة بما يكفي لمقاتلة الجماعات الإرهابية في معاقلها الحالية.

هذا وتُعتبر الجهود المحلية أساسية بدورها: فالحوار بين الممثلين المحليين المنتخبين على طراز الاجتماع بين رئيسي بلديتي زوارة وبنقردان قد يكون بديلًا ناجحًا عن الإخفاقات المتكررة للمفاوضات المركزية بين ليبيا وتونس.

كما يمكن تعزيز العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة مؤخرًا على كيانات وأفراد ليبيين وتركزيها في إطار جهود منسقة لتشجيع “حكومة الوفاق الوطني‎” الليبية على الاعتماد على قوة الميليشيات. فتأسيس جيش وطني وقوات أمنية جديدة هو بمثابة حجر الزاوية لأي خطة استقرار وسيتيح لـ “حكومة الوفاق الوطني‎” احتكار تجنيد العناصر المسلحة، بدلًا من الوضع الراهن حيث تدفع الحكومة الليبية رواتب الميليشيات المارقة التي تتحدى سلطتها. وتُظهر الاشتباكات التي حصلت في آب/أغسطس في طرابلس، إلى جانب خيار إيطاليا بالتنسيق مع الميليشيات المحلية في مسعى لمنع الهجرة، صعوبة السيطرة على هذه الميليشيات من دون سلطة جيش مركزي قوي.

وقد وصل التعاون العسكري بين الولايات المتحدة ودول شمال أفريقيا إلى مفترق طرق؛ وأصبح على الأطراف الاختيار بين بناء تحالف فعال ضد “الدولة الإسلامية” أو مواصلة حدّ أنفسها في إطار التعاون على نطاق صغير، ما يسمح ببروز غموض سياسي خطير قد يهدد محاربة الجماعات الإرهابية.

ويقوم دعم الجهات الفاعلة الإقليمية، المترافق مع تشجيع الإستراتيجيات الدقيقة لأمن الحدود على ضمانة واحدة بعدم سيطرة الإرهابيين على مساحات شاسعة من شمال غرب أفريقيا. وسيؤدي إطلاق “مبادرة التدخل الأوروبية” كبديل لحلف “الناتو” وتجديد الخطاب المعادي للغرب إلى استمرار التردد في العمل مع “الناتو” – وهو أمر ثبُت أساسًا من خلال رفض تونس لهبة “الناتو” المقدرة بقيمة 3.7 ملايين دولار والمصممة للتركيز على ضبط الحدود ومكافحة الإرهاب رغم أن الدولة أعربت سابقًا عن اهتمامها بالتعاون.

وعلى “الناتو” أن يتذكر أن دول شمال أفريقيا ستبقى على الأرجح تفضل برامج التعاون العسكرية المحض. غير أن الطريقة الحالية المعتمدة والقائمة على عسكرة الحدود التونسية-الليبية هي خط ماجينو الجديد في الصحراء، أي شعور مزيف بالأمن يجب إعادة تقييمه من قبل جميع الأطراف المعنية.

معهد واشنطن