أصبحت استخدامات العنف والقوة في سلوكيات الكثير من الأنظمة العربية هي الطريق الأكثر وضوحا لحماية النظام السياسي وضمان استقراره الشكلي. لكن التاريخ يؤكد لنا بأن استمرار أي نظام سياسي مرتبط بالعدل أولا وبالإعمار والنهضة ثانيا. وإذا دققنا سنجد أن العدل غير ممكن بلا مساحة من الحرية تسمح بمسائلة السياسيين ومواجهة الفساد، وأن ذلك كله غير ممكن بلا طرق متفق عليها لتغير القادة بعد أن يمضوا وقتا في السلطة. النظام السياسي القمعي وغير العابئ بحاجات الناس والذي يقوم على الاستئثار هو نوع من الأنظمة التي تعاند الطبيعة البشرية، فالنظام السوفيتي سقط بفضل قتل كل المساحات وسوء التخطيط. إن الديكتاتورية في تاريخ الشعوب أدت لردود فعل معارضة. لم يختلف الأمر بين الأنظمة أكانت رأسمالية أم اشتراكية أم شيوعية أم من العالم الثالث. يؤكد لنا التاريخ الأوروبي مثلا بأن مجتمعاته لم تتأقلم مع السلطة المطلقة مما أدى للثورة وراء الأخرى ولنشوء النظام الديمقراطي الأكثر مساءلة وتلبية والأقل عنفا. ما زالت ملايين بل مئات الملايين من الناس عبر الكوكب تعيش تحت سلطات مطلقة وأنظمة ديكتاتورية، لكن ذلك لا يعني الاستقرار المتوسط والبعيد وفي حالات القريب مضمون لهذه الأنظمة، ما زالت فرضية أن السلطة المطلقة مفسدة مقولة صائبة ومعبرة عن شروط الحياة السياسية.
الأغرب في الواقع الإنساني أنه بإمكان السلطة المطلقة أن تؤدي للتنمية والعمران، كما فعل أكثر من ديكتاتور منهم ستالين وهتلر وموسوليني وغيرهم، لكن ما تلبث تلك الحالة إلا وتؤدي لنقيضها المدمر. في بداياتها تسعى السلطة المطلقة للتخلص من أعدائها، لهذا تقدم خدمات ورفاها مزيفا وتوظيفا شكليا وقرارات تبدو شعبية ريثما تنجح في تأكيد سلطتها وتصفية أعدائها ومنافسيها. من خصائص السلطة المطلقة صناعة القرار بلا حوار مجتمعي فالهرمية من الأعلى للأسفل هي أساس النظام السلطوي. لكن كل سلطة مطلقة تتحول مع الوقت لمصدر لا حدود له لمراكمة الثروة والقوة لفئة جديدة مما يفتح الباب للفساد.
لقد نشأ الحكم المطلق في البلدان العربية بعد سقوط الدولة العثمانية 1917، كانت المناطق العربية التابعة للدولة العثمانية في الجزيرة العربية أم في بلاد الشام من أكثر المناطق ضعفا في التعليم والمؤسسات والاقتصاد. وعندما نشأت الدولة العربية الحديثة في ظل تقسيم المناطق العربية وقعت تحت الاستعمار والسيطرة الغربية. وما أن انتهت السيطرة الغربية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية 1946، إلا وتوجهت كل دولة عربية نحو النظام السلطوي الذي لا يسائل إلا بما يسمح به الحاكم. وقد نشأت تلك الديكتاتوريات في ظل الحاجة لتوحيد الهوية الوطنية لدول مفككة من الداخل، لكن نشأت في الوقت نفسه في ظل تدفق القدرات النفطية لكل المنطقة العربية مما دفعها لعدم الحاجة للاحتكام لمنطق الاقتصاد الذي يعتمد على إنتاج الشعوب، كما أن الدولة العربية الحديثة وقعت ضحية العسكرة ودور الجيوش المرتبط بالصراع مع إسرائيل. لهذا بالتحديد لم يقع التغيير في الكثير من بلدان العرب في النصف الثاني من القرن العشرين إلا عبر الانقلاب والتصفيات.
كل سلطة مطلقة تتحول مع الوقت إلى مصدر لا حدود له لمراكمة الثروة والقوة لفئة جديدة مما يفتح الباب للفساد
و مع انتشار حركة التعليم منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين نمت الطبقة الوسطى العربية التي بحثت عن حقوق ثابتة مستقلة عن رغبات الحاكم والسلطة. بل بدأت تلك الطبقات المتعلمة في المجتمع العربي والفئات الجديدة النامية من حضن التعليم والعولمة خاصة من فئات الشباب العربي تكتشف ضرورة عدم التعسف وبناء مساحة للحريات في ظل مؤسسات وطنية مستقلة عن النظام السياسي. لم يصل هذا الوعي لحد الانفجار إلا في مرحلة الربيع العربي في العام 2011، وهو ما زال حتى اللحظة في 2019 يبحث عن المساحة التي يتنفس من خلالها.
إن فرضية أن العرب لا يمكن أن يتم التعامل معهم إلا بالقوة تنتشر بين قطاع كبير من القادة في البلدان العربية، وأن قطاعا من العرب يطرح كل يوم بأن الشخصية العربية تتطلب الحاكم الحازم الديكتاتور الذي لا يهتز قيد أنملة عندما يصادر حقوق ويأمر بإعدامات ويقرر فرض قوانين حتى وإن كانت من العصر السابق للتاريخ. لكن في الوقت نفسه ما يجب التنبه إليه أن هذه الديكتاتورية هي المدخل للدولة الفاشلة والفوضى كما حصل مع عدد من القادة العرب المستبدين. كما أن معظم الناس في المجتمعات العربية تمقت الظلم بكل أنواعه والتعسف بكل حالاته.
لو دققنا في شروط الاستقرار سنكتشف بأنه لا يوجد استقرار بلا شرعية مستمدة من القبول الطوعي للمواطنين بسلطة الدولة والحكومة وقراراتها. لكن الجانب الشائك في الحالة العربية اليوم مرتبط بتآكل هذا القبول، فأعداد المواطنين الذين لا يثقون بالنظام وبالقرارات التي يصدرها في تزايد ملحوظ، وهذا يؤدي مع الوقت لظاهرة التمرد على الأجهزة. وبسبب التمرد والرفض ترتفع حاجة النظام للاعتماد على الأمن والجيش والمخابرات وذلك لضمان الاستقرار. لهذا من الطبيعي في مرحلة تآكل الشرعية الرسمية العربية أن تمتلئ السجون بالمفكرين والشخصيات الدينية والمدنية وبرجال الأعمال والشباب والشابات من كل الأطياف. فكلما ابتعد النظام عن شروط الاستقرار، كتلك التي تتعلق بالحالة الاقتصادية والعمل والحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية والحريات والحقوق، كلما ارتفعت حدة التمرد مما يؤدي لمزيد من القمع الرسمي ضد الشعب. هذا المشهد العربي يختلف جذريا عن عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين. لقد دخل العرب في مرحلة جديدة تتطلب تغيرا حقيقيا في بنى السلطات الرسمية، فالشرعية لن تعود بلا صياغة شكل جديد وديمقراطي للعلاقة بين الدولة والمواطن وبين النظام والشعب.
د.شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي