بعد قرن على اتفاق سايكس بيكو لاقتسام المشرق بين بريطانيا وفرنسا، تعيش المنطقة أسوأ أحوالها من القتل والفرقة والتدمير الذي لم يقتصر على الإنشاءات الحديثة، بل امتدّ بشراسة إلى معالم التراث الإنسانيّ، ما يوحي بالنيّة لمحو هويّة هذه الأرجاء، وإنكار مساهماتها في خدمة البشريّة.
هي رقعة جغرافيّة تميّزتْ بتنوّعها على العصور، وباستيعابها الغزوات الخارجيّة وتحويل بقاياها إلى عناصر فاعلة في النسيج الاجتماعيّ لناسها، فهي غير عنصريّة بطبيعتها، ومنفتحة على الآخر بحكم واقعها التاريخيّ والجغرافيّ، وقد دفعتْ أثماناً باهظةً من دماء أهلها حين وقعتْ فريسةً لاجتياحات جماعات قاسية أتتها من الشرق والشمال والجنوب، وأخيراً من الغرب، فأيّ مصير لبلاد الشام والرافدين، ما عرف حيناً بسورية الطبيعيّة وحيناً بالهلال الخصيب؟ ماذا ينتظر أهلها الذين تهرق دماؤهم بسخاء بأيدي الحلفاء والأعداء؟ ألا تستثير هذه المحنة أذهان مثقّفينا وقادة الرأي للتصدّي للانحطاط المرعب، ووضع أفكارهم في خدمة الجماعة؟
في كلّ مرة تتغيّر خطوط المواجهة بين المتقاتلين في سورية والعراق، يشحذ العارفون أفكارهم للتنبّؤ بما يحضّر لنا من مشاريع فرز وتقسيم، ونشارك جميعاً في التذاكي والنقاش وكأنّ الأمر فيلم مشوّق تدور أحداثه بعيداً عنا، لا حدث مروع يهدّد مصيرنا ووجودنا.
تجاورنا الجمهوريّة الإسلامية من الشرق بثمانين مليوناً من السكان، يريد مرشدها أن يصبحوا مئة وخمسين مليوناً في وقت قريب، يحكمها نظام توتاليتاريٌّ قوميٌّ، يستعمل الإسلام لخدمة طموحاته الجامحة، ولتعمية جماهيره اللاهثة وراء أحلام مستحيلة. يهدر الدماء العربيّة من دون حساب ويزرع شقاقاً لم تعرفْه منطقتنا على مدى الزمن.
وتجاورنا من الشمال تركيا بثمانين مليوناً من البشر. توجّهات أحزابها اليمينية والإسلامية قومية بجوهرها، وأحلام الإمبراطورية السالفة تستثيرها حالات الضعف المقيمة فينا، والانكفاء التركيّ عن التمدّد قد لا يطول. ويقيم بين ظهرانينا الكيان الصهيونيّ الخطير، وهو يزداد تطرّفاً، ومخطّطاته أصلاً بحقّ المنطقة وأهلها مظلمة ومدمّرة، وقد خبرناها طيلة سبعة عقود، فغدت «الدولة المسخ» قوةً إقليميّةً وعالميّةً لها دورها وسطوتها في عواصم القرار، بينما تسقط دول الجوار في الاندثار المدوي. فأيّ مستقبل لمنطقتنا المنكوبة، المسلوبة الإرادة بالانقسام وضياع الهويّة؟
أيديولوجيّات الإسلام السياسيّ، على الضفّتين، أثبتت إفلاسها وفشلها كمشروع قابل للتطبيق، أو للقبول به حتى من أشدّ المؤمنين تمسّكاً بالدين وشعائره. ولعلّها الإيجابيّة الوحيدة، والمهمة في هذه المرحلة الداكنة، لبناء المستقبل محرّراً من أوهام سيطرت على بعض العقول والقلوب طويلاً.
واحترام حقوق الإنسان، وحياة الجماعات، واعتماد العقل وقبول الآخر، هي عناصر يبنى عليها لنشوء الأمم وتحقيق المواطنة الصحيحة، وغير ذلك مبرّرات للظلاميين الجدد ولديكتاتوريات خبرنا خطورتها ودورها الهدّام في حياة شعوبها ومصائرها.
سيأتي يوم، عساه قريباً، يسكت فيه المدفع ويتوقّف القتل، وسيعي الجميع مدى الخسارة التي حلّتْ بكلّ فرقاء النزاع. سيكتشفون أنّ أحداً لا يستطيع إلغاء أحد. ستظهر لهم فظاعة الجرائم التي ارتكبوها، وسيبحثون عن صيغة لمستقبل المنطقة المهدّمة وأهلها التعساء.
فلنمارس أحلام اليقظة، ونتصوّر أيّ مصير نريد لهذه البلاد، ولو أنّ في ذلك مخالفة لعاداتنا المزمنة والمقيمة بانتظار ما يحضّر لنا في الخارج، والقبول بما يفرض علينا وكأنه قدر لا يردّ. علينا أن نقرّ بأن المشرق وحدة جغرافيّة ومجتمعيّة، ولو ان العلاقات بين دوله كانت دائماً حذرة ومتوتّرة. فلتبق الكيانات القائمة كما هي، وليشكّلْ مجلس أعلى للتعاون والتنمية، يكون له تأثير وازن في الحكومات. تمارس اللامركزية الواسعة داخل دوله ليشعر الجميع بأهمية وفعاليّة ممارسة الديموقراطيّة في إدارة الشؤون المحليّة، وللتخلّص من مشاعر الحذر بين المكوّنات. إلى جانب ذلك تكون للاتحاد هيئات لحماية حقوق الإنسان والجماعات تعزّزها المحاكم المختصّة في أداء مهماتها. لا قيمة للمؤسسات إذا لم تكنْ محكومة بالديموقراطية، ففي جعبتنا الكثير من التجارب المرّة التي يمكن أن تشكّل رصيداً لتعزيز الحسّ السليم والممارسات العقلانيّة على مستوى الأفراد والجماعات.
للمشرق الذي يسكنه حالياً سبعون مليوناً من البشر، تراث حضاريٌّ متين، ولو أن بنيته الحاضرة هشّة ومنهكة، وله في امتداداته العربية في الجزيرة ووادي النيل وشمال افريقيا قوة تعضده في مواجهة مشكلاته الداخليّة والخارجيّة. أما الصهيونيّة فمجابهتها تكون بالالتفات الى أحوالنا الداخلية لتقويم الاعوجاجات في مفاهيمنا ومؤسساتنا. إنّ اليهود المشككين في إيديولوجية إسرائيل، لم يجدوا فينا ولدينا أيّ بديل يمكن القبول به للتخلّي عما هم فيه. التراث الحضاريّ والإنسانيّ العريق الذي نعتزّ به لم تعبّر عنه أنظمتنا ولا أحزابنا ولا أدبيّاتنا. فإذا غيّرنا ما بأنفسنا نغيّر في محيطنا.
إنّ ايجاد الإرادة الجامعة مرهون بتجديد وإنهاء عوامل التفرقة، فنحن في منطقة غادرت هويّتها، ليصبح أهلها مجموعات متقاتلة، ووجدت في انتماءاتها القبلية والعشائرية والمذهبية ملجأً يحصّنها إزاء الآخرين.
نحتاج إلى الفكر الموحّد والموجّه، ومسؤولية المثقفين كبيرة في هذا الوقت، فالجماهير المندفعة وراء غرائزها ستعود مهزومة خائبة، ولا بدّ من بناء قاعدة صلبة من المبادئ والقيم، لنسترشد العقل واحترام الإنسان وحقّه في الحياة والحرية والكرامة، وهي مقولات بسيطة وبديهيّة. هجرناها.
التفكير خلال المعمعة بمستقبل واعد ليس ترفاً، إنه مسؤولية الطليعيين إزاء أهلهم وأوطانهم.
نهاد محمود
الحياة