العودة إلى أوروبا… هل تستردّ القارة العجوز مواطنيها “الداعشيين”؟

العودة إلى أوروبا… هل تستردّ القارة العجوز مواطنيها “الداعشيين”؟

هل أوروبا مستعدة لاستقبال مواطنيها ممن التحقوا بصفوف تنظيم “داعش” في مناطق النزاع، لا سيّما سورية والعراق، وعائلاتهم؟ وإلى أيّ حدّ تخشى القارة هؤلاء الأطفال، في ظلّ ما يُحكي عن “غسل لأدمغتهم”؟

قبيل الانسحاب الأميركي المفترض من سورية، يُثار نقاش أميركي – أوروبي حول مصير مئات من المعتقلين ومن النساء والأطفال الأوروبيين في مناطق تنظيم سيطرة “داعش” أو في سجون ومراكز اعتقال تسيطر عليها تنظيمات كردية في الشمال السوري. وكانت صحيفة “واشنطن بوست” قد أشارت في ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلى أكثر من ألف و248 طفلاً و584 امرأة من الذين فقدوا آباءهم وأزواجهنّ، إلى جانب مئات آخرين تنصّلت دولهم منهم في السنوات الماضية ورفضت استقبالهم. وفي حين تكثر المناشدات الفردية والجماعية لاستعادة أوروبا هؤلاء، وتعبير موقوفين عن ندمهم وإعلان اعتذارهم في خلال لقاءات مع محطات إعلامية من بلادهم، مثل الدنمارك، والكشف عن رغبتهم في العودة إلى بلدانهم، يتواصل الجدال الأوروبي حول ما يجب القيام به. وكان سياسيون أوروبيون قد عبّروا في خلال الفترة الماضية عن مخاوفهم من السماح لمقاتلي داعش بالعودة من دون أيّ رقابة، نظراً إلى ما يمثّله ذلك من خطر على المجتمعات الأوروبية. والسجال الأوروبي كان قد وصل قبل سنوات إلى حدّ طلب “تصفية جسدية” لمن تبقّى في سورية والعراق، مثلما عبّر في أكثر من مناسبة اليمين الدنماركي المحافظ والمتشدد وكذلك عدد من السياسيين والمشرّعين في فرنسا وبريطانيا. ثمّ جاء الطلب الأميركي أخيراً، المتزايد في فبراير/ شباط الحالي، تزامناً مع التحضير لخروج القوات الأميركية من سورية، ليخلق جواً مختلفاً بين الحلفاء الأوروبيين، على خلفية مخاوف من أن يفقد الأكراد، عند انسحاب الأميركيين، سيطرتهم الأمنية أو من أن يعود المتبقّون بطريقة غير منظمة إلى أوروبا.

في 31 يناير/ كانون الثاني الماضي، صرّحت وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه بعد الطلب الأميركي باستعادة الأوروبيين مواطنيهم، بأنّ باريس تتحضر لعملية استرداد مجموعة من مواطنيها المعتقلين لدى المليشيات الكردية. وذكرت لإذاعة “أر تيه أل” أنّ فرنسا “قرّرت أنّ التحكم في هؤلاء (المعتقلين) أمر مهم لها، عبر إعادتهم إليها”. أضافت بيلوبيه أنّ ترك هؤلاء بعد الانسحاب الأميركي “يمكن أن يمثّل خطراً علينا”. وتصريح الوزيرة يشبه كذلك بعض ما يذهب إليه سياسيون في دول الشمال الأوروبي، معبّرين عن مخاوفهم من “عودة فوضوية” لمن يطلقون عليهم وصف “جهاديون متطرّفون”. والتحوّل في الموقف الفرنسي الذي كان معارضاً لعودة من سافر إلى سورية، برّرته بيلوبيه بأنّ ثمّة أطفالاً كثيرين من بين هؤلاء، ومن المهمّ التعاطي مع ظروفهم. وهذا الموقف المتغيّر لم يرق بالتأكيد لليمين المتشدد، وقد عبّرت رئيسة حزب الجبهة الوطنية مارين لوبين عن غضبها إزاءه، عبر تغريدة على موقع “تويتر” قالت فيها إنّ التحضيرات لإعادة هؤلاء “تعسّف في استعمال السلطة”. وتحت ضغوط أميركية لاستعادة أوروبا مواطنيها “غير المرغوب فيهم”، خصوصاً في أثناء اجتماع “التحالف الدولي” وبحضور وزراء خارجية وسفراء من 74 دولة في واشنطن، الأسبوع الماضي، أبدى بعض السياسيين التقليديين ليونة، في حين أصرّ اليمين المتشدد على رفض عودة هؤلاء. ووفقاً لما نقلته وكالة “فرانس برس” في أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي عن مصدر “رفيع المستوى” في واشنطن، فإنّ “سحب المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم هو أفضل الحلول لتجنّب عودتهم إلى ساحة القتال”.

وفي هذه الأيام، تعيش دول أوروبية، من بينها ألمانيا وتلك الاسكندنافية، جدالاً حاداً. وبينما يحاول السياسيون والوزراء حلّ ما يعدّونه “مشكلة/ قضية دولية” تحتاج إلى حلّ منسّق، يتمسّك اليمين المتشدد بموقفه حول “استحالة قبول عودة من سافر للمشاركة في القتال”. واليمين المتشدد في الدنمارك، على سبيل المثال، يرفض حتى مناقشة عودة أطفال ونساء فقدوا آباءهم وأزواجهنّ في القتال. ويشدّد السياسي المحافظ، ناصر خضر، وهو مقرر الأمن والدفاع في برلمان الدنمارك، على تلك “الاستحالة”. وفي حين تُسجَّل محاولة للاتفاق على تلبية الطلب الأميركي ويتّجه مشرّعون من اليسار ويسار الوسط إلى ترك الباب مفتوحاً أمام عودة هؤلاء لمحاسبتهم أمام العدالة المحلية وإدخالهم في برامج إعادة الدمج، يُسلّط الضوء على “المأزق الأمني والاجتماعي”. فتقديرات الأجهزة الأمنية، خصوصاً في شمال أوروبا، ترى في هؤلاء “خطراً جدياً على الأمن في البلدان المعنية”. وهذا ما أكّده جهاز الاستخبارات الدنماركي في أحدث تقييم له في بداية فبراير/ شباط الجاري.

لكنّ الموقف الفرنسي المتغيّر، الذاهب في اتجاه إمكانية استعادة نحو 130 فرداً في البداية، من بينهم أطفال ونساء، يبدو لافتاً عند مقارنته بتصريحات سابقة لوزير الخارجية جان – إيف لو دريان صنّف هؤلاء في خلالها كـ”أعداء لفرنسا”. وهو ما تقوله الدنمارك، في حين يضيف سياسيون فيها تصنيف “خائنين”، مثلما يفعل القيادي في حزب الشعب الدنماركي مارتن هينركسن وكذلك البرلماني المحافظ ناصر خضر.

يطرح أوروبيون حلولاً من قبيل “وضع هؤلاء في سجون أوروبية وعزلهم عن المجتمع”، مثلما يدعو اليمين المتشدد في اسكندنافيا في حال اضطرت بلدانها إلى استقبالهم، وهو ما يتعارض مع “نموذج آرهوس” الدنماركي (نسبة إلى مدينة آرهوس الواقعة غرب وسط البلاد والتي سافر منها أكبر عدد من الشبان) الذي عُمل به منذ عامَي 2013 و2014 لـ”إعادة تأهيل” المراهقين الذين كانوا قد قصدوا سورية للقتال.

في السياق، يرى تور هامينغ، وهو خبير في مكافحة الإرهاب بالدنمارك، في خلال تصريحات صحافية، أهمية كبيرة في تغيّر الموقف الفرنسي الذي كان قد مثّل في السابق ضغطاً على مواقف الاتحاد الأوروبي وقد رفض استعادة المواطنين الفرنسيين. ويعيد الباحث تغيّر المواقف في أوروبا إلى “خشية من فقدان السيطرة والتحكّم في الذين يعودون، في حال خروجهم من المعتقلات وتحرّكهم بحرية في سورية ونحو تركيا وأوروبا. تلك تُعَدّ مشكلة كبيرة ونتائجها وخيمة للأوروبيين”.

يُذكَر أنّ وزير الداخلية الفرنسي، كريستوف كاستانير، كان قد صرّح أخيراً لمحطة “بي أف أم” بأنّ “هؤلاء مواطنون فرنسيون قبل أن يكونوا جهاديين”، موضحاً وجهة نظر بلاده المتطوّرة في السياق. وقال إنّ “هؤلاء المعتقلين والموقوفين بسبب الوجود الأميركي (في سورية) سوف يُطلق سراحهم وسوف يرغبون في العودة إلى فرنسا. بالتالي، سوف يُتابَع من يعود فوراً أمام القضاء”.

وتُطلَق دعوات أوروبية في هذه الأيام للبدء باستعادة الأطفال والنساء، كمرحلة أولى تجريبية، ومع هذا تبرز معضلات مشتركة حول كيفية التعامل مع العائدين. فدول عدّة، الدنمارك على سبيل المثال، تجد نفسها في وضع معقّد مع مواطنيها الذين لديهم أطفال أو مع الذين أنجبوا أطفالاً من مواطنيها، بحسب ما تنقل صحيفة “يولاندس بوستن” الدنماركية عن جهاز الاستخبارات الدنماركية ووزارة العدل في البلاد. تضيف أنّ “ثمّة متابعة دقيقة لاحتمال عودة أيّ من هؤلاء الموجودين في سورية أو العراق، بسبب ما قد يمثّلونه من تهديد للمصالح الدنماركية”. ويأتي ذلك في حين تتعالى الأصوات الحقوقية والسياسية المطالبة باستعادة هؤلاء بناء على مواد الدستور المتعلقة بمسؤولية الدولة عن مواطنيها، وسط دعوات أخرى مقابلة إلى تجريدهم من الجنسية وترحيلهم. والمعضلة التي تشكو منها الدنمارك وغيرها من دول الشمال الأوروبي هي أنّ الشبان والنساء الموجودين في “مناطق النزاع” تلك لا يعرفون مجتمعات أخرى غير مجتمعاتهم الأوروبية التي ولدوا وكبروا فيها، ومعظمهم مواطنون بالمولد وليس بالتجنيس. وتُعَدّ قضية “أطفال داعش الأوروبيين” واحدة من أكبر المعضلات التي يواجهها الأوروبيون. في الماضي، كان التركيز الأمني على التنظيمات المتطرفة يستهدف البالغين. لكن بعد نشوء “داعش” وسفر أوروبيين وأوروبيات إلى مناطق سيطرة هذا التنظيم مع أطفالهم أو إنجابهم هناك، فإنّ السلطات الأوروبية تخشى ممّا تسمّيه “غسيل الدماغ الذي تعرّض له هؤلاء”، بحسب هامينغ الذي يؤكد أنّ “ثمّة أسباباً جديّة بالفعل لتلك المخاوف على المدى الطويل”.

وفقاً لتقديرات السلطات الفرنسية، فإنّ نحو 500 قاصر فرنسي دون 15 عاماً موجودون في مناطق “داعش” أو في مراكز اعتقال. وفي السياق ذاته، كانت دراسة أوروبية قد نشرتها مجلة “وورلد بوليتكس ريفيو” قد أشارت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 إلى نحو 115 طفلاً بلجيكياً في مناطق النزاع تلك، معظمهم دون ستّة أعوام. وقد صرّحت مديرة مركز الأبحاث حول الإرهاب والتطرّف في مؤسسة هنري جاكسون، نيكيتا مالك، لصحيفة “ذي إندبندنت” البريطانية في أغسطس/ آب 2017، بأنّ “تنظيم داعش يهدد الغرب اليوم بجيل جهادي جديد ممّن مُسحت أدمغتهم، وهو ما باتت تذكره أعمالهم الدعائية (…)، بينما كان التركيز سابقاً على محاولة التأثير على النشء في المدارس وأماكن اللهو والتجمعات السكنية في الغرب”.

وكانت الدنمارك قد تابعت قضايا نساء دنماركيات سافرنَ مع أزواجهنّ وأطفالهنّ للانضمام إلى تنظيم “داعش”. على سبيل المثال، سافرت امرأة من مدينة آرهوس مع زوجها وطفلهما الأوّل، بينما كانت حاملاً بالثاني، للالتحاق بـ”داعش”. لكنّ زوجها قُتل في عام 2015 فاستعادتها أسرتها. خضعت المرأة إلى تحقيق من قبل الاستخبارات، وأكدت لها أنّ كلّ ما قامت به هو إعداد الطعام. بعد ذلك، تابعت البلدية (الشؤون الاجتماعية) قضيتها وقضية طفلَيها، فساعدتها على الخروج من تقييم “خطر على المجتمع” إلى مواطنة عادية مع طفلَيها.

لكنّ قصّة أحمد سالم تختلف عن حكاية تلك المرأة. فقد أدرجت السلطات الدنماركية اسمه على قائمة المطلوبين وأصدرت حكماً غيابياً بحقه، على خلفية دوره في محاولة قتل رسام الكاريكاتير كورت فسترغورد (صاحب الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة إلى النبي محمد في عام 2007). في وقت لاحق، علمت السلطات بأنّه صار أباً لطفلَين أو أكثر في أثناء وجوده في سورية، وذلك من خلال مراقبة حسابه على موقع “فيسبوك”، ووجدت أنّه “يدرّب أطفاله على التشدّد”. بالتالي، تعبّر السلطات عن خشيتها من أبناء مواطنها سالم، فهؤلاء دنماركيون بحكم أنّ والدهم دنماركي.

من جهتها، تعاني السويد من المعضلة نفسها، مع نحو 65 امرأة وفتاة سافرنَ إلى مناطق النزاع (ثمّة متزوّجات من بينهنّ وثمّة من تزوّجنَ هناك) وهنّ اليوم يعشنَ هناك مع أطفالهنّ. وبحسب تقديرات الخبير في شؤون مكافحة الإرهاب من أكاديمية الدفاع في استوكهولم، ماونوس رانستروب، فإنّ “نحو 30 طفلاً من أصول سويدية يقيمون اليوم مع أهاليهم في مناطق جماعات متطرّفة”، في حين يخشى الخبير نفسه من عملية “غسل الأدمغة” وما يمثّله هؤلاء من “خطر مستقبلي في أوروبا”.

في هذا الإطار، كان الطبيب السويدي المتخصص في الأمراض النفسية والعقلية، ياسين أكدال، والذي يشغل منصباً في التنسيقية الدولية ضد العنف والتطرف في استوكهولم والتي تُعنى بشؤون الأطفال، قد أكّد في حديث إلى التلفزيون السويدي أخيراً، أنّ بلده “غير مستعد بعد للتعاطي مع هذا التحدّي المستجدّ، خصوصاً مع غياب آليات التعاطي مع العائدين من القصّر، وهذا أمر سيئ جداً”. بالنسبة إلى أكدال، فإنّ “التعامل مع قضية القصر العائدين تتطلب وقتاً طويلاً، واليوم فقط بدأنا إعداد بنية لهذا الأمر الذي لا يحتمل التأجيل”. ويقترح على السلطات السويدية إجراءات عدّة، منها “عملية مسح نفسي وفحص أفضل للصدمات تشبه ما تقوم به الدنمارك”.

العربي الجديد