في ديسبمر 2010 بعد حادثة البوعزيزي ببضعة أيام، نشرتُ مقالا على الموقع عن الوضع في اليمن بعنوان: “صراع البقاء بين اليمن وعلي عبد الله صالح”، كشفتُ فيه جوانب من حالة الانسداد في ذلك البلد العربي العريق، وانتهيتُ إلى خلاصة هي أن “الصراع الأكبر في اليمن اليوم ليس صراع التجزئة بين شمال وجنوب، أو صراع الطائفية بين سنَّة وزيدية، أو صراع القوة بين القاعدة وأميركا.. وإنما هو صراع البقاء بين اليمن وعلي عبد الله صالح.”
لم تكن الشرارة التي اندلعت في تونس قبل نشر المقال بأيام قد أسفرت عن وجهها في شكل ثورة عارمة في تونس ولا في غيرها، ولا كنتُ أتصور أن تلك الشرارة ستسري في الجسد العربي كله، بما فيه اليمن. لكن كان من الواضح لي يومها أن اليمن يسير في طريق كارثة سياسية وإنسانية.
وأتمنى ألا أعود إلى مقالي هذا بعد ثمان سنين، ثم أجد السودان في حال مأساوي كحال اليمن اليوم، كما أتمنى ألا تكون ثمار صراع البقاء بين السودان وعمر البشير مماثلة لما تكشَّف عنه صراع البقاء بين اليمن وعلي عبد الله صالح من ثمار مريرة. وتتسم حالة عمر البشير بمفارقة غريبة في سياق الحالة العربية الراهنة: فبينما تتصدر الحركات الإسلامية ثورات الشعوب في جل البلدان العربية، وتوفر الرافعة الاجتماعية والأخلاقية لحركة التغيير في تلك البلدان، تمْسِك الحركة الإسلامية في السودان بزمام السلطة منذ نحو ثلاثة عقود.
إذا كانت وراء الانقلاب العسكري على البشير قوى الثورة المضادة العربية (السعودية والإمارات ومصر) فستكون المصيبة مضاعَفة
إن أسوأ الظلمة المستبدين –من منظور إسلامي- هو الذي يسوّغ ظلمه واستبداده بلغة إسلامية، فيظلم الأمة والملة معاً، كما يفعل الآن عمر حسن البشير اليوم. ويبدو البشير مزيجا غريبا من الجهل بالشرع الإسلامي وتجاهل التاريخ السوداني. والحقيقة أني ما رأيتُ أقلَّ فقهاً في دين الإسلام من عمر البشير، حين يطلق يد شرطته لقتل المتظاهرين السلميين بدم بارد، ثم يعتبر ذلك قصاصا شرعيا! وكأنه لا يدرك أن القصاص في شريعة الإسلام يستلزم تقديمَ اتهام ابتداءً، وتحقيقا نزيها محايداً، ثم حكما قضائيا عادلاً، لا إطلاق الرصاص العشوائي على مسلمين مسالمين.. أو حين يعزِّي السودانيين في أزمتهم الاقتصادية الحالية بأن الصحابة رضي الله عنهم اضطروا لأكل أوراق الشجر، وهو كلام صحيح، لكن سببه كان حصار المشركين، لا تحكُّم قادة سارقين.
أما تجاهل تاريخ السودان المعاصر، فهو غفلة البشير عن أن شعب السودان هو الشعب الوحيد من بين الشعوب العربية الذي أطاح بحاكمه العسكري مرتين، لكن البشير لم يتعلم –فيما يبدو- من سقوط عبُّود والنميري رغم أنه يفترض أن يكون أحسن منهما تعليما، ولا تعلَّم من زهد سوار الذهب وكرامته، رغم ما يرفعه من شعارات الإسلام وقيمه السياسية الخالدة على مدى ثلاثة عقود، ومن هذه القيم السياسية “منْع طلب الإمارة والحرص عليها.”
وتبدو المسارات المحتملة في السودان اليوم منحصرة في أربعة مسارات:
أولها: مسار التوافق الوطني على إجراءات انتقال سياسي سلمي بين القوى السياسية السودانية في السلطة والمعارضة، تبدأ بتخلي البشير (فعلاً لا قولاً) عن حُلم فترة رئاسية جديدة، والالتزام بالأفق الزمني الدستوري لعام 2020، ثم تشكيل ائتلاف حكومي يركز على تحسين الظروف المعيشية، وعلى بناء التوافقات السياسية والإصلاحات الدستورية، وتقليص سلطات البشير واختزالها في الجانب البروتوكولي، تمهيداً لانسحابه من المشهد السياسي بعد انتهاء فترة ولايته الحالية في العام القادم، مع إعطائه الضمانات التي تحميه من المثول أمام محكمة الجنايات الدولية مقابل تخليه عن السلطة، باعتبار إنقاذ المستقبل أهمَّ -شرعاً وعقلاً- من المحاسبة على الماضي. وهذا المسار هو أفضل المسارات في تقديري، وهو أرفقُ بالسودان وشعبه، وأخفُّ ثمنا في الدماء والأموال، لكن نجاحه يستلزم الكثير من الحكمة السياسية، وأولها تخلي البشير وبطانته عن حُلم البقاء في السلطة بعد أن أصبح الأمر مستحيلاً إلا على أشلاء السوداء، وتخلِّي المعارضين السودانيين –خصوصا ذوو المنزع اليساري- عن حُلم اجتثاث الحركة الإسلامية على طريقة اجتثاث حزب البعث العراقي، فأيّ مسعى اجتثاثيٍّ ضد أي قوة سياسية أو اجتماعية سيفشَل، وسيُفشِل معه مطامح الشعب السوداني إلى التحرر من الفساد والاستبداد.
ثانيها: مسار الانقلاب العسكري الديمقراطي من داخل بنية السلطة السودانية، على شاكلة انقلاب سوار الذهب عام 1985، يقوده ضباط الجيش الموالين للجناح الدستوري من الحركة الإسلامية السودانية الذي كان دائما يدافع عن ضرورة العودة إلى الديمقراطية في السودان. وستكون غاية هذا المسار -إن حدث- إنقاذ السودان من (ثورة الإنقاذ) بإرجاعه إلى الحكم المدني الديمقراطي، وإنقاذ الحركة الإسلامية السودانية من اللوثة الأخلاقية التي جرَّتها عليها مصادرة البشير لرصيدها الأخلاقي ورسالتها الإسلامية، واتخاذ كل ذلك مطية لحكم عسكري مستبد فاسد. وبما أن الحركة الإسلامية ذات حضور كثيف في الجيش والأمن منذ انقلاب عام 1989، وفيها طيفٌ واسع ومتنوع من الآراء الآن حول مصائر السودان ومستقبله السياسي، فإن هذا المسار ممكن وواردٌ، إذا اتسم الإسلاميون الدستوريون في السودان بالشجاعة والمبادرة وسعَة الخيال السياسي. وهو مسارٌ أسوأ من المسار الأول، وأفضل من المسارين الثالث والرابع.
ثالثها: مسار الانقلاب العسكري الاستبدادي من داخل بنية السلطة السودانية على شاكلة انقلاب السيسي، يقوده ضباط الأمن الموالون للسعودية والإمارات ومصر، وينتهي بتنصيب نسخة سودانية من السيسي في الخرطوم، يتم من خلالها سحب السودان إلى معسكر الثورة المضادة والتطبيع والتبعية. وإذا كان لهذا المسار أن يتم فسيكون علي أيدي ضباط أمنٍ فرضتْ الإمارات والسعودية على البشير تصعيدَهم في الأعوام الأخيرة مقابل دعمهم المالي له. ولا يزال بعض هؤلاء يتصدرون المشهد الأمني والعسكري (وحتى السياسي والإعلامي) في السودان إلى اليوم، وبعضهم ممَّن اتُّهموا بارتكاب جرائم حرب في دارفور من قبل، وعُرفوا بدورهم في تصفية الجناح الدستوري في الحركة الإسلامية السوادنية الذي كان يقوده الدكتور حسن الترابي -وهو الجناح الذي كان يطمح إلى إرجاع السودان للحكم المدني منذ منتصف التسعينات- وتغليب الجناح الانقلابي المتشبث بالسلطة العسكرية وتأبيدها، وهو الجناح الذي يقوده عمر البشير وعلي عثمان طه وغيرهما. وهذا المسار الثالث ممكن وواردٌ أيضا، خصوصا إذا ساءت الحالة الاجتماعية أكثر، وتمادى البشير في قتل المتظاهرين، مما قد يدفع الشعب إلى القبول بأي بديل عنه مهما يكن سيئا.
رابعها: مسار الانفجار الشامل، الذي يجعل السودان دولة فاشلة، ويمزق شعبه شرَّ ممزَّق، ويفتح الباب للنزعات المناطقية والقبلية للازدهار بعد أن تتخلخل بنية الدولة، وتتآكل السلطة المركزية. وهذا المسار كارثيٌّ على السودان، وعلى الجوار العربي والأفريقي، وعلى أوربا أيضا، لأنه سيزيد من فيض اللجوء والكوارث الإنسانية على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط عبر الأراضي الليبية المتاخمة للسودان. ومن أعراض قِصَر النظر وسوء التقدير والأنانية السياسية لدى عمر البشير أنه يهدد السودانيين بهذا المسار الكارثي، ويقدِّمه بديلا وحيدا عن بقائه في السلطة، اتباعاً للمقولة الفرنسية سيئة الصيت: “مِن بعدي الطوفان” Après moi, le déluge، وهي مقولة منسوبة لملك فرنسا (لويس الخامس عشر). وقد تم تفسير هذه المقولة بمعنيين: معنى التهديد والوعيد الذي يهدد صاحبه بحلول الكوارث بالشعب إذا ثار عليه وأسقطه، ومعنى الوعد والتنبؤ بحلول تلك الكوارث بالشعب في حالة غيابه، وكأن مصائر الأمم مرتبطة بشخصه العابر.. ويبدو أن البشير مؤمن بهذه المقولة بمعنييْها السيئيْن كليهما.
إن بادرتْ الحركة الإسلامية إلى التخلص من البشير وأركان حكمه، وأرجعتْ أمر الشعب السوداني إليه دون وصاية، فيمكنها المحافظة على الحد الأدنى من ماء وجهها، ورصيدها الأخلاقي المتآكل
فإذا تأملنا المسارات الأربعة، وقارنا بينها من حيث الإمكان والتوقع، فالذي يترجح لدينا أن المسار الأول متوسط الاحتمال، رغم أنه المسار الأسلم والأحكم للسودان وأهله، لكن قد تعوقه عوائق منها: نفاذ صبر الشعب مع البشير، والضائقة المرهِقة التي يعيشها اليوم، وافتراق كلمة القوى السياسية السودانية، ثم خوف البشير من المثول أمام محكمة الجنايات الدولية، ووفرة المتملقين والمتسلقين من حوله، ممن يريدون تغيير الدستور لتأبيد حكمه.
أما المسار الثاني والثالث (وكلاهما انقلاب عسكري لكن بدوافع متباينة) فهما راجحَا الاحتمال من الناحية العملية، بحكم طغيان الطابع العسكري على الحياة السودانية في العقود الثلاثة الماضية، والصراع المكتوم بين القوى الإسلامية في السودان والقوى الإقليمية التي تتبنى منهج الثورة المضادة. لكن تحرير السودان من انقلاب عسكري قديم بانقلاب عسكري جديد -حتى ولو كانت وراءه دوافع ديمقراطية- مخاطرة كبيرة، وهو رجوع إلى الباب الذي دخل منه البشير أصلا، وأدخل عبره السودان في نفق مظلم. أما إذا كانت وراء الانقلاب العسكري على البشير قوى الثورة المضادة العربية (السعودية والإمارات ومصر) فستكون المصيبة مضاعَفة، وسيكون البديل أسوأ من البشير، لأنه سيجمع بين سوأة القمع الداخلي والعمالة الخارجية.
أما مسار الانفجار الشامل، فإن عبرة التاريخ السياسي السوداني الحديث تجعله مستبعَداً، حتى ولو أراد البشير تطبيقه كما طبَّقه صديقه بشار الأسد. لأن الجيش السوداني والقوى السياسية السودانية لن تترك الأمور على أعنَّـتها كما يشتهي البشير، بل ستخلِّص السودان منه حالما تبدو بوادر سيره في هذا المسار الكارثي. وقد تخلص الشعب والجيش في السودان من قادة عسكريين من قبلُ، حالما وضعوا البلاد على حافة الهاوية.
وتبقى الحركة الإسلامية في السودان بألوانها وظلالها المختلفة –الموالية والمعارضة- هي العنصر الأهم في المعادلة السياسية السودانية، وهي المرجِّح الأكبر للخروج من حالة التأرجح والانتقال السياسي الأليم الذي بدأ الآن في السودان. ومن المفارقات أن الحركة الإسلامية في السودان هي الداء والدواء: فهي المسؤولة عن جلب عمر البشير إلى السلطة، وبالتالي عن كل المصائب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عن حكمه، وهي الأحسن تأهيلاً وخبرة وقدرة على تخليص السودان من عمر البشير، بحكم تحكمها في الدولة السودانية العميقة.
فإن بادرتْ الحركة الإسلامية إلى التخلص من البشير وأركان حكمه، وأرجعتْ أمر الشعب السوداني إليه دون وصاية، فيمكنها المحافظة على الحد الأدنى من ماء وجهها، ورصيدها الأخلاقي المتآكل، وعلى مساحة لها في المستقبل السياسي السوداني. وإن لم تبادر إلى ذلك فستتحول وَقوداً لحرب أهلية تدمِّر ما بقيَ من السودان، أو تكون الضحية الأولى لاجتثاث سياسي مُريع تنفِّذه أيدٍ سودانية بقرار من صُنَّاع لعبة الأمم الدوليين، ورعاية من الثورة المضادة العربية، على نحو ما حدث للحركة الإسلامية في مصر. وفي الحالتين سيكون ذلك نهاية الحركة الإسلامية في السودان ومكتسباتها لأجيال قادمة، فلا يبقى منها سوى ظلٍّ باهت لحُلْم نبيل خذَله أصحابه يوم التطبيق وحين جَــدَّ الجِدُّ.
وعوداً على بدء أقول عن السودان ما قتله عن اليمن منذ ثمان سنين: فالصراع الأكبر في السودان اليوم ليس الصراع الداخلي بين الإسلاميين والعلمانيين، أو الصراع الإقليمي بين الثورة والثورة المضادة، وإنما هو صراع البقاء بين السودان وعمر البشير.
الجزيرة