ربما كان يوم الجمعة 22 فبراير/شباط هو الأطول في حياة الرئيس السوداني عمر البشير وهو ينقلب على حاضنته السياسية، ولا يدانيه إلا يوم الجمعة 30 يونيو/حزيران 1989 عندما وصل إلى السلطة عبر انقلاب عسكري.
سلسلة من الاجتماعات المتلاحقة عقدها البشير في جمعته الطويلة شملت اللجنة العليا للحوار والبعثات الدبلوماسية والوزراء والمكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، وانتهى يومه بخطابه في القصر الرئاسي.
لكن أكثر من عشرة قرارات أصدرها البشير في النهاية لم تشف غليل الشارع، بل إن العديد من أحياء الخرطوم شهدت احتجاجات قبل وبعد الخطاب.
ومنذ أن بث مدير الأمن والمخابرات صلاح قوش تسريبات مساء الجمعة بشأن قرارات الرئيس، خرج أهالي حي بري القريب من وسط الخرطوم للتظاهر.
قرارات البشير
قدم البشير حزمة قرارات في محاولة لاحتواء الاحتقان الذي سيطر على البلاد جراء احتجاجات ظلت مستمرة لأكثر من شهرين.
وأبرز ما قرره الرئيس فرض حالة الطوارئ لعام وحل الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات وتأجيل نظر البرلمان في التعديلات الدستورية، رغم أن التسريبات الصادرة عن قوش كانت تشير إلى إلغاء النظر في هذه التعديلات التي تتيح للبشير الترشح لولاية ثالثة.
كما أعلن البشير وقوفه في منصة قومية وعلى مسافة واحدة من الجميع موالين ومعارضين، واستيعاب الشباب كمتغير جديد.
وإن كانت لغة البشير قد بدت تصالحية أكثر مما مضى، لكنه في الوقت ذاته اتهم البعض بالقفز في مقدمة الاحتجاجات واستغلالها لتحقيق أجندة صفرية، في إشارة إلى إسقاطه وإسقاط نظامه.
وسيكون البشير وحزبه الذي تخلى عنه أمام تحدي الشارع الذي ربما شعر بأنه يحقق نقاطا على حساب الحكومة ويحاصرها في خانة تقلل من مناوراتها، وفي البال التنازلات التي ساقها الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وسرعت من سقوطه.
رجل المهام
مدير جهاز الأمن صلاح قوش يبدو أنه سيكون رجل المرحلة الجديدة وهو يمهد لقرارات البشير قبيل ساعات فقط من خطاب البشير بدلا من الحكومة أو الحزب الحاكم، وفي ذلك مغازٍ على غرار بث القنوات السودانية للأغاني الوطنية وكأن ثمة انقلابا في الطريق.
ومهام قوش السياسية لم تتبد اليوم فقط، ففي بداية الاحتجاجات وجه الرجل انتقادات لأداء الجهاز التنفيذي وتضييق السلطات على الشباب في ارتياد شارع النيل مما تسبب بالاحتجاجات.
ثم ظهر مدير الأمن مجددا الأربعاء الماضي في ثوب السياسي وهو يقول إن “أي مبادرة سياسية طرحت في الساحة لحل مشاكل الوضع الحالي تخرج عن الشرعية القائمة الآن لا مكان لها”.
وربما تصريحات الرجل الأخيرة وخاصة دوره في إعلان قرارات الرئيس هي ما عززت توقعات بأنه سيحوز منصب رئيس مجلس الوزراء في حكومة الكفاءات الرشيقة التي أعلن تشكيلها البشير.
تجمع المهنيين
وتضع تصريحات قوش عن “الشرعية القائمة”، متبوعة بموقف تجمع المهنيين السودانيين وحلفائه من القوى السياسية المعارضة الداعي إلى تنحي البشير، البلاد على طريق مسدود.
ولم ينتظر تجمع المهنيين الذي يتبنى مواكب التنحي منذ 26 ديسمبر/كانون الأول، خطاب البشير، ووصف الإجراءات بأنها محاولة للالتفاف على مطالب السودانيين بتنحي النظام ورئيسه ولن تجد منهم سوى المزيد من الاحتجاجات السلمية.
وألحق التجمع الذي اعتقلت جل قياداته ويدير نشاطه من تحت الأرض، هذا الموقف بنداء للسودانيين للخروج والتظاهر في كل المدن والأحياء، “فساعة النصر دنت والنظام في حالة انهيار”.
ومن ثم تبارى حلفاؤه من قوى المعارضة في رفض قرارات البشير، حيث دعا حزب البعث العربي الاشتراكي السودانيين للخروج إلى الشوارع والاستمرار في “تصعيد الانتفاضة حتى إسقاط النظام وبدائله الزائفة”.
كما رفض حزب الأمة بقيادة مبارك الفاضل أي حلول لا تخاطب جوهر الأزمة السودانية وتلتف على مطالب ثورة السودانيين، مطالبا بتنحي الرئيس البشير.
رائحة أميركية
وصول مدير شؤون أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي سيريل سارتور إلى الخرطوم هذا الأسبوع دون أن تكون هناك جولة حوار بين البلدين عزز تحليلات المراقبين بأن القرارات التي أعلنها البشير اليوم ما هي إلا وصفة أميركية.
وصرح سارتور لوكالة الصحافة الفرنسية بأنه “من غير المقبول مطلقا أن تستخدم قوات الأمن القوة المفرطة لقمع المتظاهرين، إضافة إلى التوقيفات من دون اتهامات وكذلك اللجوء إلى العنف والتعذيب”، مؤكدا أن ذلك يهدد عملية التفاوض بشأن شطب السودان من قائمة الإرهاب.
وقبلها قال المسؤول الأميركي إن الحكومة السودانية ستكون قادرة على إيجاد حلول ولن يفرض حل خارجي عليها.
بيد أن الوصفة التي قدمها الرئيس البشير ستكون عرضة للمقارنات، فالرجل سبق أن قال إنه لن يترشح في انتخابات العام 2015 لكنه ترشح، وكان قبل مساء الجمعة يتطلع لدورة رئاسية أخرى بخوض انتخابات 2020.
وقرار البشير بتأجيل نظر البرلمان في التعديلات الدستورية لن يكون عاصما من تعديلها مستقبلا.
الحزب الحاكم
تخلي الرئيس البشير عن حزبه “المؤتمر الوطني” عوضا عن تنحيه من السلطة سيضع الحزب الذي تمتع بالسلطة لنحو ثلاثين عاما أمام واقع جديد، فالسيناريو الذي طرحه البشير لم يناقش داخل الحزب مسبقا وتفاجأ مثله مثل غيره بهذه القرارات.
وكان اجتماع البشير مع المكتب القيادي لحزبه هو الأطول ضمن سلسلة اجتماعات عقدها منذ الساعة الخامسة عصرا، حيث تسبب الاجتماع الذي استقوى فيه بدعوة ولاة الولايات في تأخير زمن الخطاب لنحو ساعتين.
وعلى الأقل يبدو أن البشير متوافق مع حزبه حيال ما أصدره من قرارات ما لم يصدر عن الأخير أي تململ، لكن ما السبيل لإحراز التوافق مع شباب الاحتجاجات وتخفيف حالة الاحتقان؟ فما زالت الجامعات مغلقة ومواقع التواصل الاجتماعي محظورة.
وصحيح أن مواكب التنحي لم تكن ضخمة فقد قمعتها قوات الأمن والشرطة بشدة ولكنها كانت قليلة ومتصلة، حالها كحال المثل السوداني الشهير “جبل الكحل تهده المراويد”.
المصدر : الجزيرة