ذكرى استقلال البوسنة.. كيف تحولت إرادة الاستقلال إلى مبرر للإبادة؟

ذكرى استقلال البوسنة.. كيف تحولت إرادة الاستقلال إلى مبرر للإبادة؟

في مثل هذا اليوم قبل 27 عاما أعلنت نتائج الاستفتاء بموافقة الأغلبية الساحقة على استقلال البوسنة والهرسك عن جمهورية يوغسلافيا الاتحادية، ليكون هذا اليوم أحد أكثر أيام الاستقلال العالمية تكلفة في التاريخ، إذ كان نقطة البداية للفظائع التي ذهب ضحيتها آلاف المسلمين الأوروبيين على مرأى العالم.

كانت البوسنة والهرسك جمهورية مهمة من اتحاد الجمهوريات اليوغسلافية الشعبية الذي تأسس عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، والذي كان يضم أيضا صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود ومقدونيا.

ومع أن الاتحاد كان يميل نحو المعسكر الشيوعي في البداية فقد قرر رئيسه جوزيف تيتو عام 1948 الانفكاك عنه، وأصبح أحد مؤسسي منظمة عدم الانحياز التي نأت بنفسها عن الحرب الباردة.

ومع ظهور بوادر انهيار الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1990 انفصلت على الفور كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا إثر انتخابات حرة، في حين حاولت صربيا الإمساك بزمام الاتحاد وإبقاءه تحت سيطرتها المركزية، وإذا كانت قد أبدت تسامحا نسبيا مع استقلال تلك الجمهوريات الثلاث فإنها لم تكن مستعدة لتقبل استقلال البوسنة بأغلبيتها المسلمة.

مسلمون أوروبيون
كانت البوسنة والهرسك حالة استثنائية في ظل الدولة العثمانية المسلمة بدءا من القرن الـ15، فمع أن العثمانيين فتحوا معظم أوروبا الشرقية ووصلوا إلى أبواب فيينا لكن معظم شعوب تلك المناطق لم تعتنق الإسلام بكثافة، باستثناء الشعب السلافي في البوسنة والهرسك الذي دخل في الإسلام أفواجا، ولعل ذلك يعود إلى المعاملة الطيبة التي خصهم بها العثمانيون في منطقة البلقان.

وفي أواخر القرن الـ17 بدأ الانحسار العثماني عن وسط أوروبا، وباتت البوسنة في واجهة الصراع مع الممالك المسيحية، وأدت تنازلات العثمانيين للدويلات المسيحية الناشئة إلى مناوشات وثورات، وتزايد تدخل القوى العظمى بذريعة حماية الأقليات المسيحية حتى اضطر العثمانيون عام 1878 للتنازل عن البوسنة إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية.

وبات مسلمو البوسنة محاصرين من الكروات الكاثوليك والصرب الأرثوذكس، وخضعت أراضيهم لتغييرات ديمغرافية معقدة جعلت منها ساحة فسيفسائية للقوميات والطوائف المتداخلة.

ومع قرب انهيار الدولة العثمانية في بدايات القرن العشرين أصبحت البوسنة والهرسك موقعا حساسا للخلافات بين روسيا وبلغاريا وصربيا والنمسا والمجر في صفقات إعادة رسم خريطة النفوذ، وتوجت تلك التوترات عام 1914 باغتيال ولي العهد النمساوي على يد شاب صربي في سراييفو، مشعلا بذلك الحرب العالمية الأولى.

حاول البوسنيون المسلمون طوال تلك الحقب النأي بنفسهم عن الصراعات والحروب، لكنهم وجدوا أنفسهم مرارا في قلب الأزمات التي عصفت بالقارة العجوز إبان انتقالها العنيف إلى عصر الحداثة، وكان الصراع الطائفي يتجدد في تلك المنطقة الحساسة مع اندلاع كل حرب جديدة.

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية ساد التفاؤل بالركون إلى الهدوء تحت القيادة الاشتراكية الموحدة، وعلى الرغم من نشوء أجيال عدة منذ منتصف الأربعينيات على ثقافة السلم والتعايش في ظل نظام علماني، ومع ارتفاع مستوى التعليم والتحضر فإنه سرعان ما انفجرت بوابة العنف الوحشي، مستعيدة أحقادا تعود إلى مئات السنين الخالية، وذلك بمجرد إفصاح البوسنيين عن نوايا الاستقلال.

الاستقلال الدموي
في عام 1990 تشكل في سراييفو برلمان بوسني تهيمن عليه ثلاثة أحزاب على أساس عرقي وطائفي بهدف طرد الشيوعيين، لكن الحزب الصربي الديمقراطي سعى منذ البداية إلى منع أي استقلال للبوسنة عن الاتحاد اليوغسلافي الذي تهيمن عليه صربيا، وبدأ الحزب بتسليح الأقلية الصربية المقيمة في البوسنة، ثم أعلن الانشقاق وتشكيل برلمانه الخاص داخل البوسنة نفسها، وفعل الحزب الكرواتي الشيء ذاته عسكريا وسياسيا داخل الكيان البوسني أيضا.

وفي مثل هذا اليوم من عام 1991 عقدت مباحثات سرية بين رئيس كرواتيا فرانيو تودجمان ورئيس صربيا (الاتحاد اليوغسلافي) سلوبودان ميلوسيفيتش لتقسيم البوسنة بينهما، فقرر البوسنيون تنظيم استفتاء للاستقلال.

وفي مثل هذا اليوم من عام 1992 أعلنت نتائج الاستفتاء الذي قاطعه معظم الصربيين والكروات بالبوسنة، ومع ذلك أدلى 63.4٪ من الناخبين المسجلين بأصواتهم، ووافق 99.7٪ منهم على الاستقلال، ليصبح المفكر الإسلامي علي عزت بيغوفيتش أول رئيس للجمهورية المستقلة.

اعترفت الولايات المتحدة والسوق الأوروبية المشتركة بالبوسنة والهرسك دولة مستقلة، لكن الصرب والكروات لم يكتفوا برفض النتيجة، بل بدأت المناوشات العسكرية في الأقاليم التي تكثر فيها أعراقهم، وتشكل جيش جمهورية صرب البوسنة بدعم مباشر من صربيا (الاتحاد اليوغسلافي) الذي قاد حملة شعواء لانتزاع أكبر قدر ممكن الأراضي وإبادة سكانها المسلمين.

استمرت هذه الحرب في قلب أوروبا لمدة ثلاث سنوات ونصف، وقتل فيها أكثر من مئة ألف شخص، معظمهم مدنيون مسلمون، واغتصبت فيها ما بين 20 و50 ألف امرأة بوسنية، لتشكل صدمة للعالم المتحضر.

وحتى اليوم، ما زالت بذور الخلاف قائمة في البوسنة التي يديرها مجلس رئاسي يمثل الطوائف والأعراق الثلاثة، وما زالت جراح أهالي الضحايا تنزف بانتظار إنصافهم، فمع أن رئيس كرواتيا إيفو يوسيبوفيتس اعتذر عام 2010 للبوسنة ما زالت صربيا ترفض الاعتراف بدورها في تلك الجرائم، وما زال الخطاب اليميني المتطرف يتصاعد في أوروبا كلها.

الجزيرة