يعود مصطلح «معاداة السامية» بأصوله إلى النظريّات العرقيّة التي نشأت مع الفتوحات والغزوات الأوروبية التي احتاجت إلى «تصنيف» البشر بشكل يعطي طابعا «علميا» لأفكار التفوق الحضاريّ، وقد استمدّت بعض أشهر تلك النظريات، تسميات «الكتاب المقدس» لأبناء النبي نوح الذين خرجت منهم أعراق مختلفة، وقد صار تعبير «الساميّة» في أوروبا رديفاً لليهود منذ عام 1879، ورغم انكشاف تهافت تلك النظريات العرقية علميّاً فإن المصطلح ما زال مستخدماً بذاك المعنى.
من غير المفيد، لهذا السبب، مماحكة هذا المصطلح بدعوى أنه يشمل الشعوب التي تتكلم اللغات «الساميّة» كالعرب والآشوريين والكنعانيين والآراميين، فهذا المصطلح الذي يخصّ اليهود فقط تم تثبيته في قوانين دول غربيّة نافذة اعتمدت تعريف «التحالف الدولي لتذكر الهولوكوست»، وهذا التعريف لا يستبعد العرب والشعوب «الساميّة» الأخرى فحسب بل يمكن ترجمته (وتطبيقه) باعتباره تعريفا مناهضاً للفلسطينيين.
الدفاع عن «الساميّة» إذن، بالتعريف المذكور، لا يشمل الفلسطينيين بالتأكيد بل ويستخدم أيضاً لمناهضة حقوقهم المشروعة بالخلاص من الاحتلال الذي يرزح فوق بلادهم.
أحد أشكال «معاداة الساميّة» في التعريف الدوليّ هو «إنكار حق الشعب اليهودي في تحقيق المصير» وبالتالي فإن معاداة الصهيونية التي قامت على فكرة إقامة دولة للشعب اليهودي هو «معاداة للساميّة»، وحسب السيناتور الأمريكي تشك شومر فإن «فكرة أن كل البشر يمكنهم السعي للدفاع عن حقهم بتقرير مصيرهم ما عدا اليهود هو معاداة للساميّة»، وهو ما كرره دافيد هاريس، رئيس اللجنة الأمريكية اليهودية: «إنكار حق اليهود، من بين كل البشر على الأرض، بتقرير مصيرهم هو تمييز عنصريّ ضدهم».
وبناء على ذلك، يتساءل الكاتب بيتر باينارت: «كل البشر على الأرض؟: ماذا بالنسبة للكرد والباسك والكاتالان والاسكتلنديين والكشميريين والتايبيتيين والابخازيين والأوسيتيين واللومبارد والإيغبو والأويغور والتاميل والكيبيكيين وعشرات الشعوب الأخرى؟».
يعرف قادة المنظومة الدوليّة، والذين كان آخرهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذين يعتبرون إنكار حق اليهود في وطن هو معاداة للسامية وشكلا من أشكال العنصرية، هذه الأمثلة من دون شكّ، ولكنّ أسوأ إنكار ممكن لحقّ شعب في تقرير مصيره وبناء دولة ووطن له بالتأكيد هو حق الشعب الفلسطيني نفسه الذي لا ينكر عليه مناداته بدولة في أرض أجداده التي عاش فيها آلاف السنين فحسب بل إن هذه المناداة تعتبر «معاداة للسامية».
خضع حزب العمال البريطاني منذ فترة استلام جيرمي كوربين لعمليات ضغط سياسية وإعلامية ضخمة لإجباره على اعتماد التعريف الآنف الذكر لـ«معاداة الساميّة»، وإذا كان وراء الحملة مزاعم حقيقية من «كره اليهود»، فالأكيد أن جزءاً من رافعي رايتها يهمّهم المضيّ أكثر لإخضاع كوربين وجناحه السياسي لجعله يتنكّر لأي شكل من أشكال التعاطف مع الفلسطينيين أو مع حقهم في تقرير مصيرهم وتشكيل دولة على أراضيهم التي تحتلها إسرائيل.
في مقابلة على إحدى محطات التلفزيون البريطاني، وخلال حوار مع أحد قادة حزب العمال، قدّم المذيع «دليلا دامغا» على وجود «اللاسامية» في حزب العمال حيث أظهر تغريدة نشرها قسم من شباب الحزب Young Labour تقول بالضبط: «تعيش فلسطين»، وهو ما دفع القائد العمالي للاستنكار بسرعة مطالبا برفع التغريدة الخطيرة!
الحملة إذن لا تتعلق بكره اليهود فحسب بل تتعلق بجعل كره الفلسطينيين والعرب والمسلمين سياسة رسميّة بريطانية، وبجعل مجرد وجود الفلسطيني على قيد الحياة أمراً «معادياً للسامية».
القدس العربي