العدالة التركي وشروط العودة الممكنة

العدالة التركي وشروط العودة الممكنة

images

ثلاثة محاور رئيسية تعصف بالمشهد السياسي التركي منذ صدمة نتائج الانتخابات النيابية التي أظهرت تراجعا كبير في نفوذ حزب العدالة التركي، رغم أنه بقي المتصدر وصاحب الفرصة الأولى في قيادة حكومة ائتلافية، ولكن هذه الصدمة -التي لا تقف عند تركيا بل كل المشرق الإسلامي- تولدت بسبب أن هذه النتائج جاءت في أوج حصاد الحزب لتجربة سياسية رائدة، رغم كل ما يُقال من أخطاء يرتكبها الحزب في طبيعة حركة الصعود السياسي.

كما أن النتائج جاءت في توقيت صعب للغاية في تاريخ صمود المشرق الإسلامي، أمام فوضى داخلية ورِدة استبدادية حصدت آمال الربيع العربي، وحروب أهلية وثورات جريحة، وموجة غير مسبوقة من أعاصير طائفية وجماعات عنف وحشي تتكاثر عناقيدها، في ظل مراقبة وتتبع لانهيارات كبرى تُعيد صياغة خرائط الشرق بعد مرحلة دامية لا تُعلم نهايتها، وكانت تركيا بتجربتها الديمقراطية هي أيقونة الأمل لعودة الشرق الإسلامي إلى الاستقرار وبناء مستقبل تقدمي، غاب عنه لمئات السنين، وغنمته سايكس بيكو بعد حين.

هذه الأسئلة الثلاثة هي:
1- هل هذه النتائج صناعة أطراف خارجية أم أخطاء داخلية.
2- لماذا الخشية من حصيلة النتائج، وهي طبيعة للحياة الديمقراطية التي اختارتها تركيا الجديدة، وهل تعني انهيارا كاملا لتجربة حزب العدالة التركي، أم أنها جولة تدريب حزبي قوية.
3- كيف سيخرج الحزب من هذه المعادلة الحرجة في صياغة طريق العبور إلى قوته بأدوات ديمقراطية قائمة على دعم الإرادة الشعبية.

والسؤال الثالث هو محور عنوان المقال، لكن وقبل العبور إلى الأسئلة المهمة التي يطرحها الشارع المسلم في الشرق وليس التوجه الإسلامي فحسب، حيث أضحت تركيا معقد آمال هذا الشرق، وملتقى شعوبه سياحة وسياسة؛ نقول إن أداء العدالة التركي على مستوى حقوق الفرد في العالم المعاصر واحترام شخصيته الوطنية وحقوقه الدستورية وبناء دولة مؤسسات تخدم الفرد، كان أنموذجا غير مسبوق في تجارب العالم الثالث.

كما أن تطور مواقف تركيا العدالة في مناصرة قضايا المسلمين واستقبالها للمضطهدين إنسانيا من ثورة سوريا الكبرى إلى كل طريد وصل أرضها من استبداد سياسي أو احتلال قمعي، كان يتصاعد ويقدم برامج متتالية آخرها تكليف الجيش التركي برعاية المسلمين الروهينغيا وإنقاذهم من قوارب الموت، وأهمها ذلك الزخم الذي تحولت فيه إسطنبول وأنقرة، إلى دفع سياسي ودعم إنساني وصراع لصالح القضية الفلسطينية، في أوج التخلي بل التآمر العربي عليها.

والأمر الأخير هو نجاح طليعة إسلامية عبر العمل السياسي العميق والتجربة الصعبة بقيادة تحالف وطني ديمقراطي، في دولة عاشت عهودا صعبة من الاستبداد الحزبي والتدخل العسكري، وحققت هذه الطليعة نجاحا لم تُحققه أي حركة إسلامية معاصرة، ودشنت للتجربة الإسلامية عهدا جديدا لأصول ممارسة الفكر السياسي بقواعده لا بعقول الوعاظ والتربويين الفضلاء الذين خسرت تجاربهم في العالم الإسلامي كثيرا.

وحين نعود للإجابة عن السؤال الأول نقول، إن الحضور الخارجي موجود وجسور الخشية من صعود العدالة التركي كانت حاضرة لدى الغرب خشية من قوة كبرى في الشرق الإسلامي، وحاضرة من القوى الإقليمية في طهران وتل أبيب، بما فيها رأس مال عربي خليجي شرس مناهض للعدالة، صب في أروقة الإعلام وفي مصالح بعض السياسيين.

واتحدت اللعبة بدفع حزب الشعوب الديمقراطي -وهو ما أكدناه سابقا في سلسلة المقالات عن انتخابات تركيا- ليسقط مشروع السلام الكردي ويتحول ركامه إلى أيقونة صراع، بدل أيقونة اتحاد وطني لتركيا الجديدة، وقوة للشرق الإسلامي المعاصر، لكن كل هذا التدخل ليس كما يتصوره بعض الخطاب العربي العاطفي، فالأخطاء الداخلية ومزاج المواطن التركي الصعب، وبأس الصراع في البناء السياسي التركي؛ كان هو الأكثر تأثيرا، وإن غذته هذه التدخلات.

أما السؤال الثاني فهو لماذا الخشية من هذه النتائج التي تثبت ديمقراطية تركيا ومصداقية وشفافية حزب العدالة، وهنا المخاوف ليست من نتائج التجربة، فممكن جدا أن تكون هذه التجربة جولة تدريب قوية للحزب وإعادة صناعته، وهذا وارد، لكن مشكلة تركيا -كما الشرق- أن البناء السياسي لا يزال هشا، وأن إمكانية نقض المسار الديمقراطي وعودة بأس العسكر ونظام القضاء المنحاز له -من خلال فجوة الصراع السياسي- لا يزال لها فرصة، كما أن قضايا محورية في التوازن الإسلامي كإسناد قضية سوريا، مهددة بالفعل في أيام لو أُقصي نفوذ حزب العدالة فجأة.

ومن هنا نعود للسؤال الثالث وهو محور المقال، وقد أخرنا هذا المقال الأخير في سلسلة مقالات الانتخابات التركية حتى يتسنى لنا عرض تصور واقعي، وسط زخم كبير من التحليلات السياسية، ولا ندعي أننا نملك معايير دقة كاملة، ولكنها تحاول قدر الاستطاعة سبر هذا المسار وخلاصاته القائمة، للقارئ العربي.

وهي قراءة شُكلت من خلال مراقبة المشهد ومحاولة فهم رأي الشارع العام والاستماع إلى قيادات من المعارضة والعدالة التركي على مدى عام كامل، والذين كان آخرهم السيد فاتح تونا في إسطنبول.

من الواضح أن جزءا من رسائل النتائج كان رسالة تأديب للحزب على بعض الأخطاء التي ارتكبها، ومنها عدم مواجهته لشخصيات وحالات فساد، من الطبيعي أن تنشأ في ظل حركة اقتصاد ضخم والحزب يمارس فيها مسلكا أقرب للمنهج الاقتصادي الليبرالي الحر، بحسب ما يتاح له من تطوير للوضع الاقتصادي التركي الذي تقدم كثيرا، لكن مصالح الفساد تتداخل بقوة وتحتاج إلى جولات تصحيح بعضها صعب لاستئصال بعض شخصياته، رغم كل الإنجازات الاقتصادية الكبيرة التي حققها العدالة.

كما أن فكرة النظام الرئاسي التي تبناها الرئيس أردوغان، وآمنت بها شريحة كبرى من قواعد الحزب، وتقدمت فرصها باعتبار أن الحياة السياسية الهشة تحتاج هذا النظام كأميركا، حتى تتقوى فيه فرص الاستقرار؛ هذا المشروع وضح أن هناك تخوفات جدية من بعض الشارع منه يجب أن تؤخذ بالحسبان، والانصراف عن المشروع حاليا وتركه لقرار ديمقراطي قوي وحاسم، سيساعد في إعادة لحمة الحزب وتنظيم صفوفه من جديد، وتحويل فترة الحكم الائتلافي التي لن تصمد لأربع سنوات بكل تأكيد، إلى مرحلة انتقالية يجدد فيها حزب العدالة بناءه ومراجعاته التي تحتاج إلى ثلاثة عناصر رئيسية:

1- ضرورة احتواء جناح الرئيس السابق عبد الله غل وفتح المسار السياسي الديمقراطي أمامه داخل الحزب، وإبقاء مساحة للتوافقات بين كتل الحزب الكبيرة، وترتيب صعود الصفوف الداخلية، وتقييم أداء رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو، وليس بالضرورة يكون الحل بعزله، لكن تفتح الخيارات كلها بحسب مصالح الحزب وتركيا الجديدة.

2- حملة تطهير للمتورطين اقتصاديا، حيث استخدم بقاؤهم للنيل من الحزب وتشويهه في الرأي العام وفي النيل من الرئيس أردوغان كأيقونة رمزية باقية للحزب، مما رسخ مخاوف الرأي العام من انحراف الحزب وخضوعه لمافيا اقتصادية كما يروج له خصومه، وهذا واقعيا غير صحيح.

3- حاجة الحزب لإعادة التعبئة والتنظيم كأحد شروط القوة الشعبية للبناء الديمقراطي في الوسط الإسلامي والوسط الوطني معا، ومد الجسور مع جماعات وأحزاب دينية صغيرة، ومنظمات مجتمع مدني تعزز رابطته القومية الحقوقية.

حينها وأيا كان طرف التحالف الذي سيُشكل معه العدالة حكومة ائتلاف، وهو الخيار الأفضل من إعادة انتخابات فورية، فإن هذه الفترة ستكون كفيلة بنجاح الحزب في كسب شريحة مهمة تُغير أرقام تقدمه وتوسع شعبيته لعهد تركي جديد.

مهنا الحبيل

الجزيرة