نهار الجمعة المقبل، الذي بات موعداً ثابتاً للتظاهرات الشعبية الواسعة في الجزائر، سوف يكون الفيصل في الحكم على الإجراءات التي اتخذها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أثر عودته من العلاج في جنيف. فإما أن تقبل الجماهير بهذه التطورات وتعتبر مقترحات بوتفليقة خطوة إلى الأمام على طريق الاستجابة لمطالبها، وإما أن تعتبرها تحايلاً جديداً من الرئيس وبطانته الحاكمة للالتفاف على قضايا أكثر جوهرية تتجاوز التنازل عن الترشح لعهدة خامسة، وتخص سلطة الفساد ومافيا الجنرالات وحكم الأيدي الخفية وسوء توزيع الثروات الوطنية، وسواها من مظاهر اعتلال عميق تمس عيش المواطن الجزائري وكرامته الإنسانية والوطنية.
صحيح أن الرئيس عدل عن إصرار سابق على الترشح لعهدة خامسة، وأقر بأن وضعه الصحي لا يسمح له إلا بأداء «الواجب الأخير» الذي يتمثل في «إرساء أسس جمهورية جديدة»، وقبل استقالة حكومة أحمد أويحيى البغيضة في ناظر الشارع الشعبي والتي تجسد انحطاط النظام. ولكن من الصحيح في المقابل أن رسالة بوتفليقة الأخيرة، المنسوبة إليه في كل حال، لم تتطرق أبداً إلى الفساد وإفقار البلد ومشكلات الاقتصاد والبطالة وهدر الموارد، ولم تتضمن أدنى إشارة إلى شعارات التغيير التي رُفعت خلال تظاهرات مليونية عمّت مختلف مدن الجزائر وبلداتها، وكان تكليف وزير الداخلية السابق برئاسة الحكومة الانتقالية بمثابة نذير بأن النظام يعتزم مواصلة إنتاج ذاته طبقاً للقيم والمكونات ذاتها التي رفضها الشعب.
كذلك فإن رسالة بوتفليقة الثانية تبدو أشبه بنسخة ثانية تحمل تعديلات طفيفة فقط على رسالته الأولى التي أذاعها مدير حملته الانتخابية ساعة إعلان ترشحه لعهدة خامسة، وهذا على نحو دقيق ما يمكن أن يشكل إهانة للإرادة الشعبية واستهانة بالحراك الجماهيري العارم. ذلك لأن بوتفليقة في قرار تأجيل انتخابات 18 نيسان/ أبريل المقبل إنما يحقق فعلياً الرغبة التي سبق أن أعرب عنها في الرسالة الأولى، أي تعهده في حال انتخابه هذه المرة أن ينظم دورة انتخابات جديدة خلال سنة لا يترشح فيها، وبالتالي فإنه اليوم منح نفسه فترة تمديد تلقائية تنتهي إلى النتيجة ذاتها عملياً.
وأما تشكيل «الندوة الوطنية الجامعة المستقلة» فإنه دليل جديد على استمرار بوتفليقة والبطانة الحاكمة معه في الممارسة الفوقية للسلطة دون التشاور مع الشعب ودون إخضاع القرارات لرقابة هيئات شعبية منتخبة بحرية، خاصة وأن رسالة بوتفليقة لا تنطوي على أي إيضاحات حول معايير اختيار رئيس وأعضاء هذه الندوة، وضمانات تمثيلها للمجتمع الجزائري و«مختلف ما فيه من الـمشارب والـمذاهب». هذا بالإضافة إلى الصلاحيات الواسعة التي منحها بوتفليقة للندوة، التي سوف «تتمتع بكل السلطات اللازمة» مثل إعداد دستور جديد وطرحه على الاستفتاء الشعبي، وتحديد موعد للانتخابات الرئاسية المقبلة والإشراف عليها، بما يعني إلغاء دور لجنة الانتخابات الوطنية الحالية التي يُفترض أن تكون هيئة مستقلة.
وهكذا قد تكون البطانة الحاكمة اضطرت للانحناء أمام الإرادة الشعبية فأخلت بوتفليقة من الساحة، لكنها في الآن ذاته اعتمدت سلسلة إجراءات تكفل الإبقاء على النظام وإعادة إنتاجه في شروط أكثر انفراداً وتسلطاً. ولسوف يكون نهار الجمعة المقبل مناسبة سانحة لكي يبرهن الشعب الجزائري على أنه لم ينتفض بحثاً عن انتصار جزئي أو ناقص، بل من أجل تغيير جوهري عميق وشامل.
القدس العربي