في سنوات ما قبل الانتفاضة السورية، كانت النكتة بالنسبة للسوريين بمثابة لغة بديلة رمزية، غالباً ما اعتمدوها للرد على واقعهم البائس، أو تكذيب خطاب السلطة. ومن بين النكت التي كثر تداولها، نكتة حول مجند أرمني في الجيش السوري. ففي أحد الأيام أراد ضابط امتحان ولائه العسكري، فسأله: أرتين تخيّل نفسك خط الجبهة، وهجم العدو الإسرائيلي واحتلها، ماذا تفعل؟ رد المجند: سيدي انسحب إلى القنيطرة وأقاوم، قال الضابط وماذا لو احتلوا المنطقة كلها؟ المجند: سأنسحب إلى دمشق. الضابط: وفي حال سقطت دمشق. المجند: انسحب إلى حمص. الضابط وماذا لو احتلوا حمص. وأرتين يرد بجوابه المعتاد.. وهكذا بقي الضابط يتلاعب بأعصاب أرتين حتى وصل الانسحاب إلى حلب.
يعود المفكر والسياسي السوري برهان غليون، في كتابه الجديد «عطب الذات»، ليذكّرنا بعبرة هذه الحادثة، فأرتين لم يعد مجنّداً وحسب، بل غدا الاسم المستعار للسوريين العاديين في علاقتهم بأطياف المعارضة السياسية السورية، التي بقيت مخلصة لقبائلها أو لثأرها الأيديولوجي مع الآخرين على حساب تكوين جسم سياسي موحّد، لتخسر لاحقاً كل شيء. يحاول غليون أن يروي لنا في الذكرى الثامنة للانتفاضة السورية مشاهد من يومياته فيها، بدءاً برواية تفاصيل دقيقة عن بعض الشخصيات الرئيسية في المعارضة، خطابهم وطرقهم في إدارة الحوار، أو بالأحرى أساليبهم في خلق عراك بالأيدي داخل الجلسات؛ مروراً بتحليل بدايات انطلاق الانتفاضة السورية، وأسباب أسلمتها لاحقاً، وغيرها من الأحداث التي عاصرها خلال سنوات الثورة. صحيح أن رائحة المرارة بقيت مطاردة لنا في مجمل محطاتها، بيد أنها لم تخل أحياناً من طرافة وحس فكاهة، بقي يمتاز بها هذا الرجل، كما ينقل المقربون عنه.
من باب دريب إلى السوربون
بعبور سريع لمقدمة الكتاب، يتبين لنا أن هموم غليون في عالم السياسة اليومي قد حكمت ربما طريقة سرده للانتفاضة السورية. فبدلاً من حديثنا عن انطلاق الاحتجاجات في الحريقة في دمشق ولاحقاً في شوارع درعا، نراه يعود لحكاية مرحلة الشباب وبداياته الأولى مع عالم السياسة.
في فترة الستينيات، كان طالباً؛ وكانت باحة دار المعلمين في دمشق تمثّل آنذاك مكاناً مثالياً للتجمع والنقاش حول الأفكار. في مساء أحد الأيام، دعاه أحد أصدقائه لحضور حلقة لأنصار الحزب الشيوعي، حيث سيكون الحديث عن مفهوم البروليتاريا عند ماركس. كان أحد الرفاق الشيوعيين يتحدث بأسلوب حماسي عن زمن البروليتاريا الموعود؛ يقاطعه أحد الشباب قائلاً «منذ سنوات ونحن نتحدث في البروليتاريا، ليتنا نقابل أحداً منهم ونتعرف عليه في الحقيقة» نظر مسؤول الحلقة باستغراب؛ ربما تفاجأ من السؤال؛ أو لكونه لم يرَ بروليتاريا سوى في كتب ماركس وبعض الروايات. كان الطالب غليون في هذه الأثناء يتابع مصدوماً هذا المشهد. ربما فكّر أن يدعوهم إلى حيّه «باب الدريب»، أحد الأحياء العمالية الأكثر فقراً في حمص، للقاء البروليتاريا؛ سيعدّل لاحقاً عن هذه الرغبة؛ إذ لا فائدة تُرجى من هذه الدعوة، فالمسألة ليست العثور على بروليتاري حقيقي، بل هي «محنة اليسار الشيوعي وأزمته في الوقت نفسه». قرر غليون، بعد هذه الحادثة، عدم رؤية زميله الشيوعي. كانت الأحزاب السورية تعتقد آنذاك أن الإيمان بأفكار الحزب هو السبيل لبناء الأوطان. كانت أيديولوجيتهم بمثابة أسوار تقولب أفكارنا، كما رآها غليون الفتي. «لم يكن أمامي وأمام شباب تلك الفترة سوى الهجرة من عالم السياسة السوري إلى عالم قوى المنظمات الفلسطينية الصاعدة في المشرق». بقيت العوالم هي ذاتها؛ صور ماركس ولينين معلقة على جدران مكاتب قادة قواعد المقاتلين الفلسطينين،التابعين للجبهة الديمقراطية في غور الأردن؛ هذه الصور ظلت بمثابة حاجز بين هؤلاء اليساريين «الطفوليين» وعالم الفلاحين الفقراء الذين عاشوا في المكان ذاته. ستتزامن خيبة غليون من اليسار، مع بدء تحضير الأسد لانقلابه على أصدقائه البعثيين؛ أُقفِلت كل الأبواب؛ قرّر الرحيل إلى فرنسا لاستكمال دراسته وأبحاثه في السوربون، بدل أن يمضيها في سجون الأسد.
مع نهاية التسعينيات، شعر الأسد بدنو أجله، حاول تخفيف القبضة الأمنية؛ أتاح الفرصة لبعض الشخصيات الدينية والثقافية العودة للبلاد. كان قد أفرج قبلها بسنوات عن بعض معتقلي تدمر. إذ اعتقد أن هذه الإجراءات قد تخفّف من احتقان الشارع.
كان الأسد يتحول من رئيس قاس وهمجي إلى أب وقائد؛ كانت شوارع المدن الرئيسية تشهد ظاهرة لم تعرفها في السابق عنوانها «تقديس الأسد»، وفق تعبير ليزا وادين في كتابها «السيطرة الغامضة»، صوره وتماثيله في كل الأرجاء. شوارع ومشافي ومكتبات عامة تحمل اسمه.
مع نهاية التسعينيات، شعر الأسد بدنو أجله، حاول تخفيف القبضة الأمنية؛ أتاح الفرصة لبعض الشخصيات الدينية والثقافية العودة للبلاد. كان قد أفرج قبلها بسنوات عن بعض معتقلي تدمر. إذ اعتقد أن هذه الإجراءات قد تخفّف من احتقان الشارع. كان ولده ما زال شاباً، متهوراً، لا يبالي أحياناً بأسلوب الأب في إدارة الأمور، والتعامل مع الحلفاء الإقليميين. وفي هذه الأجواء، ستُتاح لغليون العودة لمدينته، لم يعد شاباً صغيراً، بل بات، كما تُردِّد بعض الأخبار، استاذاً في جامعة السوربون الفرنسية، كثيرون ربما لم يسمعوا عنها؛ أو ربما عرفوها من خلال ربطها بهذا الشاب. مع كل عطلة صيفية، أخذ غليون يكرّر زيارته لسوريا. لم يكن مصدِّقاً أنه يسير في شوارع حمص مرة أخرى، كان العالم يتغير، وسوريا أيضاً. وكان الكثير قد قرأ له وتأثّر بكتبه حول الطائفية والديمقراطية، وبعض حواراته الأخرى التي أصدرها عن دار الفكر الواقعة في حي البرامكة في دمشق. أخذ يستعيد علاقاته ببعض رجال المعارضة وتنظيماتها. «سوريا بأكملها تتحول إلى ساحة عامة للنقاش والمداولة وبلورة الأفكار والمقترحات والمطالب والتعبير الحر والجريء والصافي عنها. لم تبق بلدة ولا حي من دون أن يتنادى مثقفوه لإنشاء منتدى ودعوة المثقفين لإحياء النقاش السياسي فيه. كانت تلك من دون شك لحظة ولادة السياسة بعد موتها الطويل في سوريا الجديدة».
رياض الترك وحسن عبد العظيم
سيُتاح لغليون في هذه الزيارات اللقاء برياض الترك. الذي كان، كما يدوّن في كتابه، صاحب شخصية مميزة؛ شجاعاً لا يخشى شيئاً، ولا يهاب المغامرة، يعيش جلّ وقته تحت الأرض، لكنه لا يخاف التحليق في الفضاءات الشاهقة، جاهزاً دائماً للعراك والسير على حافة الهاوية. رجل راديكالي في دمه، وعدو لا يُضاهى لنظام الأسد. بيد أن ما لفت نظره في المقابل أن «مانديلا سوريا» لم يكن يمتلك القدرة على التسامح والمصالحة التاريخية. «كان في الوقت نفسه، وفي العمق، رجلاً قاسياً لا يرحم مساعديه، ولا منافسيه أبداً، أوتوقراطي نموذجي، ووسواسي مسكون بالظنون، لا يطمئن لأحد، حتى نفسه». أما حسن عبد العظيم، الذي احتلّ منصب الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي، مكان الراحل جمال الأتاسي، فقد كان عكس سلفه تماماً. من ريف دمشق، مغموس بثقافة الأرض، رجل متأن بطيء الحركة، حيسوب، يكره المخاطرة، مهما كانت، ويفضل السير بمحاذاة الجدار، ويتجنب المعابر غير المطروقة والشعاب الصعبة، إصلاحي يكره العنف والمواجهة، يبحث عن الحلول الوسط و«تحت الوسط»، ويمارس التقية إلى هذا الحد أو ذاك، كي يضمن الاستمرار والعمل السياسي، في كل الظروف، ويبرع في تدوير الزوايا.
لم تبق بلدة ولا حي من دون أن يتنادى مثقفوه لإنشاء منتدى ودعوة المثقفين لإحياء النقاش السياسي فيه. كانت تلك من دون شك لحظة ولادة السياسة بعد موتها الطويل في سوريا الجديدة.
إعلان دمشق
يقف الأمريكيون على تخوم بغداد؛ وتغدو الأجواء في المدن السورية مشحونة؛ شباب من دوما، من دير الزور، القامشلي، ودرعا يتطوّعون للقتال في لجان الدفاع الشعبية العراقية. العالم بأجمعه مرعوب ويتحسس رأسه. في هذه الأثناء، كانت هناك محاولات لجمع المعارضة؛ ربما تكون الفترة الأنسب لفرض إصلاحات على النظام الذي بات على مرمى حجر من الدبابات الأمريكية؛ اجتمعت قوى معارضة من الداخل والخارج تحت مسمى «إعلان دمشق». من بين ما يرويه غليون في كتابه عن تلك الفترة حادثة طريفة جرت أثناء الإعداد لوثيقة الإعلان، وهي حادثة قد تعكس حالة المفارقة التي ما تزال تعيشها أوساط المعارضة إلى يومنا هذا. أرسل له رياض الترك النص الأخير للبيان المُزمع إصداره للإعلام.. دُهِش أثناء قراءته لإحدى الفقرات التي تشير إلى أن الإسلام ديانة الأغلبية من السوريين، وينبغي أن يحظَ باهتمام خاص. أخبر رياض بضرورة إلغائها، وضرورة تأكيد البيان على علمانية الدولة كبديل عن طائفية النظام، كما نصحه بأن «يستخدم العبارة التي استخدمها مؤسسو الدولة الأوائل التي تقول: «الدين لله والوطن للجميع»؛ في هذه الأثناء أخذ يتواصل مع صدر الدين البيانوني، كان في موقع المرشد لجماعة الإخوان المسلمين آنذاك؛ ليسأله عن موضوع الفقرة، وإن كانوا يصرون على ورودها في الإعلان؛ جاء رد البيانوني مفاجئاً: «أبداً. لسنا نحن الذين وضعناها ولا نطالب بوجودها ولا نتمسك بها». عاد لرياض لكن الأخير بموقفه الصلب كان قد حسم الأمر «لا نستطيع حذف الفقرة لأن الوقت قد تأخر؛ برهان: هذه ذريعة واهية. الخطأ ينبغي أن يُصحّح، ولا شيء يدعو للعجلة من أجل يوم إضافي. رياض: جورج صبرا هو الذي وضعها وهو مصر عليها»؛ برهان: إذن لن أوقع على البيان».
حجاب علماني في دمشق:
لاحقاً، سيزُجّ بقادة الإعلان في السجون؛ عادت ثقة النظام بنفسه بعد سنوات من الحصار؛ يزحف الريف السوري باتجاه العاصمة دمشق. قرى كاملة أخذت تخلو من أهلها في ظل الجفاف. في مقابل هذا المشهد؛ يشهد حي الشعلان، الذي كان يتردد عليه غليون أحياناً للقاء بعض الأصدقاء في أحد محاله، الذي حمل اسم ماركة معولمة، فتيات يرتدين أشكالاً جديدة من الحجاب؛ نكت هنا وهناك تقاوم الرواية الرسمية؛ حشود في الشوارع تتابع بشغف وتهريج وصراخ مباريات كأس العالم لعام 2008؛ بعد عقود من منع التظاهر وفض أي اجتماع صغير؛ شباب ورجال يتابعون بحسرة نتائج الانتخابات البرلمانية الديمقراطية في الكويت؛ أحدهم يصرخ في منزله: ديمقراطية في نظام ملكي! ونحن لماذا؟
في هذه الأثناء سيتحدث غليون في مؤتمر الفكر العربي المُنعقد في عام 2010 عن ثورة عربية «فالحديث عن إصلاح اقتصادي من دون إصلاح سياسي هو محاولة للتهرب من الموضوع، والالتفاف عليه، لأنه لا إصلاح اقتصادي من دون إصلاح سياسي، هو في الحقيقة موجهه ومحركه».
لأجاك الدور يا دكتور
لم يمض أسبوع على انتصار الثورة التونسية حتى اندلعت شرارة الثورة المصرية التي أكدت على اتجاه التاريخ هذا وعززته، وساهمت في تغيير موازين القوى واتجاهات الفكر والممارسة في الأقطار العربية الأخرى، وشجّعت على انطلاق ثوراتها السياسية. سقط مبارك؛ وجاء الدور على نظام الأسد، أسابيع، أشهر وننتهي ونعيش زمن الحرية؛ بدأت تتشكل تنسيقيات هنا وهناك؛ معتقلون يدخلون السجون ويخرجون بعد أيام؛ في هذه الأثناء، فشلت كل المحاولات لتشكيل جسم سياسي يعبر عن تطلعات الشباب. وأمام الفشل تلو الفشل، وزيادة حدة العنف، ستتوصل القوى إلى تشكيل المجلس الوطني في الخارج. يصف لنا غليون لحظة تأسيسه «كان المجلس زواجاً بالإكراه قبلنا به لتجنب خروج الأمور عن السيطرة، على أمل أن تساعد الإنجازات على تجاوز الخلافات وتعزيز وحدة المعارضة». في هذه الأثناء وجد ابن السوربون نفسه على رأس هذا المجلس. «ما له وما لعالم السياسة»، هذه العبارة التي كررها كثيرون في سياق تعليقهم على تعيينه. لم يكن سهلاً كما يذكر في كتابه «أن يجد أكاديمي ومثقف يعيش في الغربة منذ أكثر من أربعين عاماً، نفسه، بين ليلة وضحاها، في قلب الصراعات السياسية السورية والإقليمية والدولية، مدفوعاً لتنسيق أعمال واحدة من أكبر الثورات الشعبية».
عش الدبابير
كان المجلس يتكون من ثلاث قوى رئيسية: إعلان دمشق، وجماعة الإخوان المسلمين، ومجموعة العمل الوطني أو مجموعة الـ74 التي انقسمت هي نفسها إلى مجموعتين بعد أسابيع من ولادة المجلس على خلفية تمثيلها في القيادة. كان الإعلان، كما يصفه غليون، يعتبر نفسه القائد الفعلي للمجلس. كان مهووساً بمدة ولاية الرئيس التي يجب ألا تزيد عن شهر واحد، «ما يعني ببساطة عدم السماح بتكوين مركز قيادة حقيقي للمجلس، وتحويل الرئاسة إلى وظيفة رمزية خالية من المضمون، أي في الواقع إلغاؤها».
لم يكن واقع الأحزاب الكردية أفضل حالاً من الأحزاب السورية الأخرى. شعر غليون، في أول لقاء بهم، بأن هذه الأحزاب تريد أن تحل القضية الكردية برمتها بخطوة واحدة.
كانت القوة الثانية المؤثرة في المجلس جماعة الإخوان المسلمين. كانوا قد اعتادوا خلال العقود الطويلة الماضية من صراعاتهم السياسية على العمل المنفرد؛ كان يراقبهم وهم يمزجون بين عقائدية جامدة ومنهج براغماتي يجعل مسيرتهم تكتسي بشكل متزايد طابعاً انتهازياً. أما مجموعة العمل الوطني، التي دخلت المجلس الوطني باسم «كتلة الـ 74»، فقد وجد غليون أن سلوكها أقرب إلى سلوك «اللوبي» ومجموعة الضغط منها إلى دور الشريك في بناء إطار وطني جامع وممثل لمختلف التيارات الفكرية والسياسية المشاركة في الانتفاضة الشعبية الديمقراطية للمساهمة في الرد على تحديات تاريخية كبرى، تكاد لا ترى منها شيئاً. قائد هذا اللوبي، أحمد رمضان، لا يهتم سوى بالعلاقات العامة والاتصالات الدولية والسياسية، والدخول في مفاوضات ليس لأجل الحل، بل لتمرير الوقت ليس إلا.
في المقابل، لم يكن واقع الأحزاب الكردية أفضل حالاً من الأحزاب السورية الأخرى. شعر غليون، في أول لقاء بهم، بأن هذه الأحزاب تريد أن تحل القضية الكردية برمتها بخطوة واحدة. وفي محاولة لإصلاح البين، قادته الدروب إلى أربيل الكردية في 13 يناير/كانون الثاني 2012 على إثر دعوة مسعود بارزاني.
استُقبِل وفد المجلس بحفاوة بالغة؛ أكد بارزاني خلال الجلسة على أنه لا يمكن مقارنة وضع الكرد في سوريا بوضعهم في العراق، وأنه «لا يرى ما يمكن أن نقدمه (المجلس الوطني السوري) أكثر من ذلك». بعد شهرين سيقرأ غليون في صحيفة «الحياة» اللندنية مقابلة للرئيس بارزاني نفسه يقول فيها إن العرب لا يزالون ينكرون على الأكراد حقوقهم. وأنه قابل برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري في أربيل، ولم يعترف بالحقوق الكردية «إلا برؤوس شفاهه».
سرعان ما ستزداد خطورة حقل الألغام هذا بعد تعرضه كما يذكر لـ«الطعنة الأكبر» التي وُجِهت للمعارضة وللثورة من الجهة التي لم يكن أحد منا يتوقعها. «كان الشيخ السلفي عدنان العرعور، المُقيم في الرياض في المملكة السعودية، قد بدأ يستقطب قطاعاً واسعاً من الرأي العام الشعبي المؤيد للثورة، بتدخلاته المنتظمة على عدة قنوات فضائية، وبشكل خاص على قناة «وصال» التي تبثُ من الرياض. وبينما كانت المعارضة السياسية التقليدية تحرق الوقت في نقاشات داخل الغرف المغلقة للتوصل إلى اتفاق يفضي إلى توحيد الرؤية والجهد لدعم الانتفاضة، احتل الشيخ العرعور الفضائيات بخطاب ناري أظهره كما لو كان الخصم الرئيسي للأسد ونظامه، مستخدماً لغة عامية بسيطة وانتقادات لاذعة تخاطب الوعي الجماهيري أكثر بكثير من لغة السياسة النخبوية». لن تسمح هذه الظروف لغليون باستكمال عمله؛ في ظل إصرار كل الأطراف على النظر للمجلس وكأنه غنيمة حرب، وليس جسماً ممثلاً للانتفاضة.
عاد غليون وحيداً مرة ثانية؛ أخذ يدوّن في هذه الأثناء كل ما شهده في هذا المجلس. ربما الثأر، كما ظن البعض، ما دفع به لكتابة القسم الأول من كتابه؛ أو لعله ما عاد مبالياً بعالم السياسة؛ إلا أنه مع الاطلاع على القسم الآخر من هذا الكتاب، قد لا نبالغ إن قلنا إنه يبقى الأهم، والأكثر إشكالية وخلافاً مقارنة بفصول الاعتراف، أو تصفية الحسابات، التي تبقى أحد شيم السياسة. فقد حاول غليون في هذا القسم إعادة كتابة سردية الثورة السورية والمآلات التي شهدتها. بدءاً بأسلمة الثورة وتدخّل الدول العربية، مروراً بقراءته للمشهد الدولي مما استخلصه في اللقاءات التي جمعته بلافروف وجون كيري. كذلك لا ينسى في هذا السياق دور سجناء صيدنايا والإسلاميين والجهاديين في تحويل مسارات الثورة. كما ضم تحليلاً متوازناً حيال الدورين السعودي والقطري. إذ لا يخفي غليون الدور الكبير الذي لعبه السعوديون على صعيد نسج علاقات للمجلس مع القوى الدولية.
قد تكون لنا عودة إلى هذا القسم، لا سيما وأننا نرى أن سردية غليون، ورغم اتفاقنا مع بعض محطاتها؛ أهملت المرور في بعض التفاصيل التي كانت ستغني من سرديته. قد يكون معذوراً في نسيان بعض التفاصيل، فسردية الثورة اليوم أو يومياتها تحتاج إلى جهود جماعية وإلى إعادة تدوين. لم تخل بعض المحطات من تكرار، كما بدا لنا أن بعضها الآخر قد طبعها التحليل الآني (خاصة قراءته للموقف التركي)؛ إذ بدت لنا طازجة؛ مقارنة بذاكرة ونفَس الفصول الأولى التي بدا فيها غليون أكثر قرباً من أجواء تلك الفترة.
يختتم غليون كتابه بتوجيه نقد قاس للنخب السياسية السورية؛ «فهي نخبة من دون هوية ولا ذات. لا كفاءات واضحة، في الغالب، ولا مرجعيات مشتركة عامة، ولا وعي متسق ولا إرادة، إنما تمحور على الذات الفردية، وتطلّع للمغانم والمكاسب، وتأفف من الواجبات الاجتماعية، وبالتالي انقسام وتنافس وعداء متعدد الأشكال وكراهية متبادلة» ربما لذلك تاهت أو ضاعت الانتفاضة السورية كما حدث مع قادة جيش صديقنا أرتين الأرمني.
القدس العربي