في مئويتها.. كيف أجهضت البرجوازية المصرية طموحات ثورة 1919؟

في مئويتها.. كيف أجهضت البرجوازية المصرية طموحات ثورة 1919؟

“لو لم تكن البرجوازية ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ تقودهم وتحدد خطواتهم لكان باستطاعتهم أن يحققوا استقلال مصر ﺍﻟﺘﺎﻡ، حيث لا حماية ﻟﻤﺼﺎﻟﺢ إنجلترا ﺃﻭ ﻏﻴﺭﻫﺎ”. هكذا لخص الكاتب صلاح عيسى في كتابه “البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة” دور تلك الطبقة الاجتماعية في تحجيم مسار وتبعات ثورة 1919.
وتلك الفرضية لم يخلص لها عيسى وغيره ممن أرّخوا لتلك الحقبة من فراغ؛ فأحداث الثورة التي اندلعت قبل مئة عام -في التاسع من مارس/آذار 1919- تؤكد الدور الخطير الذي لعبته البرجوازية المصرية في رسم الطريق الثوري للطبقات الفقيرة.

وما يزيد من غرائبية مشاهد تلك الثورة أن السبب المباشر لاندلاعها هو إقدام سلطة الاحتلال البريطاني على نفي مجموعة من أبناء الطبقة البرجوازية المصرية.

صحيح أن أسباب الثورة كانت قائمة وضاربة في جذور تاريخ وجود الاحتلال البريطاني بمصر لعقود، لكن اشتعالها في هذا التاريخ جاء نتيجة مباشرة لنفي زعيم الحركة الوطنية -وقتئذ- سعد زغلول وثلاثة من رفاقه، إلى مالطا.

مصالح البرجوازية
بعد نحو ثلاثين عاما من الاحتلال البريطاني لمصر، ضجر المصريون من سياسات الاحتلال التي وصلت ذروتها القمعية مع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914.

بداية، أُعلنت الأحكام العرفية مع اندلاع الحرب، وصدرت قوانين تجرم التجمهر والإضراب، ثم صدرت حزمة من القرارات تخص مساهمة المصريين في تكاليف الحرب التي كان المحتل طرفا فيها.

صودرت المحاصيل الزراعية والماشية، وأجبر الفلاحون على زراعة محاصيل تناسب احتياجات الحرب، وتم تجنيد مئات الآلاف من أبناء الريف بشكل قسري ليشاركوا في الأعمال المعاونة خلف خطوط القتال.

إلى ذلك، نقصت السلع الأساسية في الأسواق، وما توافر منها زادت أسعاره بشكل أرهق الطبقات الفقيرة، وامتدت الأمور للطبقة البرجوازية التي هي في الأساس مالكة للأراضي الزراعية والمصانع.

وبينما كان الفقراء ينفضون التراب عن صدورهم المكتومة بالثورة، كانت الطبقة البرجوازية من الذكاء المدفوع بحماية مصالحها تدير المشهد الثوري برمته لصالحها.

فيقول صلاح عيسى في كتابه “ظلت ﺍﻟﺒﺭجوازية حريصة ﻋﻠﻰ تطويع حركة ﺍﻟﺠﻤﺎﻫﻴﺭ ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ ﻓﻲ ﺇﻁﺎﺭ ﻁﺎﻗﺘﻬﺎ ﺍﻟﻤﺤﺩﻭﺩﺓ ﻭﻟﺨﺩمة ﺃﻫﺩﺍﻓﻬﺎ ﻓﻲ مشاركة الاستعمار ﺍﻟﺴﻠﻁﺔ ﺃﻭ الانفراد بها”.

وفي ذلك استخدمت الجماهير الفقيرة فزاعة تخيف بها أعداءها، سواء الاحتلال أو الملك؛ فتقدم بعض الزعماء الوطنيين، وعلى رأسهم سعد زغلول، وجميعهم من البرجوازيين، بطلب تشكيل وفد ليمثل مصر في مؤتمر الصلح بباريس ليطالب باستقلال بلدهم.

رفض المندوب السامي البريطاني سفر الوفد، وعلى وقع إصرار الزعماء الوطنيين على موقفهم اضطرت سلطة الاحتلال إلى نفي سعد زغلول ومحمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي إلى مالطا، في الثامن من مارس/آذار 1919، وكان هذا التصرف بمثابة الشرارة التي فجرت غضب المصريين وأشعلت ثورتهم.

الوطنية الأليفة
لعبت البرجوازية من أجل مصالحها على جميع الأطراف المتصارعة وقتئذ، ففي كتابه “الوطنية الأليفة.. الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار” يوضح تميم البرغوثي أن “هذه النخبة تقدم لعموم السكان الأصليين وعد التحرر، وتقدم للقوة الغازية وعد الحفاظ على المصالح الاستعمارية الحيوية”.

تميم البرغوثي تحدث عن تأرجح النخبة بين وعد التحرر ووعد الحفاظ على المصالح الاستعمارية (الجزيرة) والتفاوض هو الورقة التي لعبت بها تلك الطبقة على الجانبين؛ فبينما الشارع الفقير مشتعل بالثورة، أدرك البرجوازيون خطورة ترك الخيوط للفقراء، فطرحوا المفاوضة كحل بين الثوار والإنجليز.
والأمور تصبح أكثر وضوحا من خلال واقعة سردها فكري أباظة في كتابه “الضاحك الباكي”، حيث امتد غضب الفلاحين من الاعتداء على ممتلكات الأجانب خلال الثورة إلى أملاك الطبقة البرجوازية.

ويسرد أباظة كيف حاول ﺍﻟﻔﻼحوﻥ الاستيلاء ﻋﻠﻰ ممتلكات محمود باشا سليمان -وكان ابنه ضمن الوفد الذي يسعى لاستقلال مصر- ﻭحاول بعض ﺍﻟﻤﺜﻘﻔﻴﻥ صد الفلاحين ﻋﻥ ﺫﻟﻙ، من منطق استفهامي “كيف تريدون حرق ممتلكات محمود باشا وابنه يسعى لاستقلال مصر؟”، وكان رد الفلاحين “ﺇﻥ الباشا لم يوزع علينا أرفة العيش”.

التفاوض
ولم يُخف الرجل الذي نُفي إلى مالطا بعدما طلب السفر إلى باريس لعرض قضية استقلال بلده على قوى إمبريالية بالأساس، توجهه التفاوضي من البداية؛ ﻓﺴﻌﺩ ﺯﻏﻠﻭل ﻫﻭ الذي قال للسير رجنالد ونجت، في نوفمبر/تشرين الثاني 1918، ﺇﻥ مصر التي تطلب استقلالها تعد إنجلترا بعدم المساس بمصالحها.

ووعد بأن تعطي مصر لإنجلترا ضمانة في طريقها للهند، وهي قناة السويس، بل وتجعل لها دون غيرها حق احتلالها عند الاقتضاء.

ﻭﻫﻭ ﺍﻟﺫﻱ قال في إحدى جلسات مجلس النواب “ﺃﺭﻯ ﺃﻥ الطريق المفتوحة أمامي ﻟﺘﺤﻘﻴﻕ ﻏﺭﺽ الأمة وغايتها ﻫﻲ المفاوضة”. ثم لجأ الرجل نفسه لتحكيم سلطات محتلة عن طريق مؤتمر دولي.

لذا، فعندما نفي سعد زغلول ورفاقه كان طبيعيا أن يكمل باقي البرجوازيين مسار توجه زعيمهم.

في اليوم التالي لترحيل سعد زغلول ورفاقه، توجه وفد من طلبة الجامعة -وهم الذين سيشعلون فتيل الثورة بعد ذلك- إلى أحد أعضاء الوفد، عبد العزيز فهمي، يسألونه عن رد الفعل الذي يجب أن يقوموا به، فطلب منهم العودة إلى جامعاتهم وعدم “اللعب بالنار” كي لا يزيدوا غضب الإنجليز.

كذلك أرسل بعض أعضاء الوفد، الذين سيسافرون بعد ذلك إلى باريس، برقيات إلى السلطان فؤاد الأول يؤكدون أنه لا صلة لهم بأعمال الجماهير.

وفي 24 مارس/آذار، حذر الوزراء والأعيان المصريين من الآثار المترتبة على قطع خطوط السكك الحديدية ومهاجمة الممتلكات.

واستحلفوا الثائرين باسم مصلحة الوطن الهدوء حتى يستطيع من وصفوهم “بالذين يخدمون الوطن عبر الطرق المشروعة” المضي قدما في مساعيهم.

وأمام ثورة الطبقات الفقيرة والعاملة، اضطرت إنجلترا للإفراج عن سعد زغلول، وسمحت لوفد مصري بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس، ليعرض عليه قضية استقلال مصر.

وكان طبيعيا ألا يستجب أعضاء مؤتمر الصلح لمطالب الوفد المصري؛ فعاد المصريون لثورتهم واضطرت بريطانيا لإصدار تصريح 28 فبراير/شباط 1922، الذي نصّ على إلغاء الحماية البريطانية عن مصر، وإعلان مصر دولة مستقلة، وصدور أول دستور مصري، وتشكيل أول وزارة برئاسة سعد زغلول.

ولكن ما جرى على أرض الواقع هو بقاء الإنجليز في مصر، ولم تتحرك الأوضاع قليلا ناحية جلاء الاحتلال سوى مع توقيع معاهدة 1936، لكن آخر جندي إنجليزي رحل عن أرض مصر عام 1956.

الجزيرة