بالكاد كان الغبار قد انقشع عن الحملة الأخيرة في العام الماضي لتدمير “خلافة” تنظيم «الدولة الإسلامية» حتى بدأ الحديث عن طرد القوات الأمريكية ينتشر داخل مجلس النواب العراقي الجديد. فهذه المشاعر المتغلغلة لم تكن مفاجئة في هيئة تضمنت لأول مرة عدداً كبيراً من أعضاء الميليشيات التي غالباً ما تكون معادية للولايات المتحدة. ومع ذلك، فقد تفاقمت هذه المشاعر إلى أن أصبحت رأياً عاماً في أعقاب تحركات البيت الأبيض التي أثارت بعمق الانفعالات الشديدة الحساسية للنعرة القومية التي تزدهر داخل كيان العراق السياسي. فعندما حصلت محاولة لاحقة للمطالبة برحيل القوات الأمريكية على خمسين توقيعاً في البرلمان، أثار ذلك شبح عام 2011، عندما أدّت الكراهية القومية دوراً رئيسياً في فشل الاتفاق الثنائي الرامي إلى الحفاظ على وجود عسكري أمريكي صغير في البلاد. ويعتمد حدوث ذلك مرة أخرى على المسار القريب المدى للمشاعر القومية [لأعضاء] مجلس النواب، وقدرة إيران على استغلال هذا الشعور، وفحوى رد فعل واشنطن.
ما هو الدافع وراء الدعوة إلى طرد القوات الأمريكية؟
سيحدد عنصران رئيسيان ما إذا كانت مسودة مشروع القانون الحالي لمجلس النواب المتعلقة بسحب القوات الأمريكية ستكتسب زخماً أم لا. العنصر الأول هو النفوذ الإيراني. فمنظور الأمن القومي لطهران يفضّل عراقاً معزولاً، وضعيفاً مؤسسياً، ومرهوناً بالمساعدة الإيرانية – وهو هدف يعززه الدور الكبير الذي لعبته الميليشيات الشيعية أثناء الحرب ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية» وبعدها. وتقف في وجه هذا الهدف الإيراني مهمة عسكرية أمريكية تهدف إلى تعزيز مهنية قوات الأمن العراقية، بينما تعمل هذه المهمة أيضاً على تعزيز علاقة بغداد بواشنطن. وتبعاً لذلك، فحيث تؤدي العقوبات الأمريكية إلى تضييق الخناق على إيران، ستزداد مصلحة الجمهورية الإسلامية في إظهار قوتها في العراق. كما أن حدوث نزاع ثنائي مرير حول تصويت مجلس النواب سيلائم مشروع القانون بشكل جيد.
أمّا الدافع الثاني المحتمل فهو الشعور المتزايد بالوطنية والسيادة بين الطبقة السياسية العراقية (أبرزها مقتدى الصدر) والجمهور الأوسع. فهذا الاتجاه الشعبوي الواسع النطاق هو قوة فاعلة للغاية، كما أثبتت الأفعال الغوغائية في أيلول/سبتمبر 2018 في البصرة. ومع ذلك، لا يصبّ الشعب اهتمامه في الغالب على وجود القوات الأمريكية، بل على القضايا الاقتصادية المتصلة بحياتهم اليومية والفساد. وتمثل هذه القضايا منطقة الراحة السياسية لمقتدى الصدر، على الرغم من مواقفه العرضية المناهضة لـ “جميع القوات الأجنبية”.
وفي المقابل، فإن تركيبة مجلس النواب تجعله أكثر عرضة للحماسة القومية التي تستهدف على وجه التحديد الوجود العسكري الأمريكي. فهناك 200 عضو من أصل 329 عضواً يشغلون مناصبهم للمرة الأولى، وحوالي 50 إلى 60 منهم ينتمون إلى شبكة ميليشيا «قوات الحشد الشعبي». ومثل هؤلاء الأعضاء مشحونون أصلاً بأحداثٍ مثل رحلة الرئيس الأمريكي ترامب إلى العراق في كانون الأول/ديسمبر، عندما زار “قاعدة الأسد الجوية” من دون أن يلتقي بأي مسؤول سياسي عراقي. وسرعان ما استغلت طهران هذا الحدث – حيث انعكس ذلك في 28 كانون الأول/ديسمبر، عندما شكّك السفير الإيراني أيرج مسجدي بشكل واضح في دوافع واشنطن في إبقاء القوات الأمريكية في العراق، ثم ادعى أن القوات الإيرانية قد غادرت بالفعل.
وحتى الآن، لم ينتقل الكثير من مشاعر الانسحاب المحمومة التي يتمتع بها مجلس النواب إلى الشعب، وهو ما قد يشكل كبحاً مؤقتاً للإجراءات التشريعية المثيرة. ومع ذلك، قد تفشل بسهولة عملية الكبح إذا اتخذت واشنطن المزيد من الخطوات “الاستفزازية”، أو إذا صممت إيران ووكلاؤها على ممارسة ضغوطاً أكبر في البرلمان.
ما الذي سيحدث بعد ذلك؟
السيناريو الأول: فشل مجلس النواب في إحراز أي تقدّم في مسودة مشروع القانون
الاحتمالات: النتيجة الأكثر ترجيحاً – في الوقت الحالي
الآثار: فائدة كبيرة
الرد: يجب على بغداد أن تساعد في تحقيق هذا السيناريو بينما تبقى واشنطن هادئة
إنّ مشروع القانون الذي يدعو إلى انسحاب الولايات المتحدة قد لا يبصر النور في حال تناول مجلس النواب قضايا ملحة أخرى تسترعي انتباهه (مثل البصرة، وهي إحدى المسائل الملحة العديدة التي ناقشها المدير السابق لمجلس الأمن القومي الأمريكي دوغلاس أوليفانت في مقال نشره في موقع “وور أون ذي روكس” في 16 كانون الثاني/يناير). ويبدو ذلك أمراً محتملاً في الوقت الحالي لأنه على عكس عام 2011، فإن القوات الأمريكية بعيدة عن الأنظار إلى حد كبير كما أنها أصبحت قضية هامشية بالنسبة للشعب. فلفترة من الوقت، شكّل التنديد بالقوات الأمريكية المسألة الوحيدة التي يمكن أن تجد فيها الكتلتان الشيعيتان الرئيسيتان – تحالف “سائرون” بزعامة الصدر وتحالف “الفتح” بزعامة هادي العامري – أرضية مشتركة، إلاّ أنّ تركيزهما ينصبّ في مكان آخر بينما يعملان على شغل المقاعد القليلة الأخيرة للحكومة الجديدة.
كما أن العملية المرهقة جداً لمجلس النواب الخاصة بطرح مشروع القانون قد عرقلت بالمثل زخم الفصائل المعادية لأمريكا. فلم يتم بعد اقتراح أي مسودة مشروع قانون بصورة رسمية. وحتى لو تم تقديمها، فقد لا تصمد أمام اللجان البرلمانية ذات الصلة، التي تكون ملزمة بالتشاور مع الوزارات والمؤسسات المعنية.
ولا تزال إيران تميل بشدة إلى المضي قدماً في السيناريو الثاني أو الثالث، وهو الأمر بالنسبة لحلفائها في مجلس النواب. ومع ذلك، ينبغي على الرئيس برهم صالح ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي بذل مجهود هادئ بل مركز لتوجيه الأعضاء الرئيسيين لمجلس النواب بعيداً عن صياغة القانون المعني بشكل رسمي. إذ يعرف هذين الزعيميْن العراقييْن المتمرسيْن بشكل أفضل من معظم الآخرين بما ستخسره البلاد إذا ما تم إيقاف المهمة العسكرية الأمريكية بصورة مفاجئة.
السيناريو الثاني: تمرير مجلس النواب مشروع قانون أقل وطأة
الاحتمالات: أمر مستبعد
الآثار: غير مرغوب فيها إلى خطيرة
الرد: تتولى بغداد زمام القيادة، وتمارس واشنطن الدبلوماسية الصبورة وتتجنب ردود الفعل الانفعالية
يمكن أن يقر مجلس النواب تشريعاً أو يتخذ قراراً غير ملزم يُرشد الحكومة “بتشديد” الشروط التي يعمل بموجبها المستشارون الأمريكيون. وبصرف النظر عن اللهجة المشحونة، يمكن لمثل هذا القانون أن يطلب من الحكومة ببساطة القيام بما تفعله أصلاً (أي ضمان احترام القوات الأمريكية لسيادة بغداد والعمل بالتنسيق الكامل مع القوات العراقية). أمّا الاحتمال الأكثر إشكالية فهو الطلب من الحكومة الدخول في ترتيبات رسمية لتأمين الظروف نفسها، بما يتجاوز الرسائل المتبادلة من عام 2014 التي طلبت بغداد بموجبها من القوات الأمريكية العودة ومقاتلة تنظيم «الدولة الإسلامية». فمن شأن هذا التطور أن يتجنّب ضرورة الحصول على أصوات ثلثي أعضاء مجلس النواب للموافقة على “اتفاقية وضع القوات” [بين الولايات المتحدة والعراق].
لقد حاول رئيس الوزراء السابق نوري المالكي تجنب هذا الخطر ذاته في عام 2011 من خلال سعيه الحصول على تصويت مسبق بين الزعماء السياسيين الرئيسين في العراق، إلاّ أنّ مسألة السيادة البالغة الحساسية المتمثلة في الحصانة القضائية للقوات الأمريكية قضت على مسودة الاتفاق. وفي الوقت الحالي، تتجنب إدارة ترامب بحكمة اتباع مثل هذا المسار، لكن يجب على بغداد أن تأخذ زمام المبادرة في درء التهديدات الأخرى – وتحديداً من خلال التأكيد على أن القوات الأمريكية لا تعمل في العراق سوى من خلال [موافقة] حكومتها السيادية، وعن طريق ردع النداءات الداعية إلى التفاوض على ترتيب أكثر رسمية، الذي يمكن أن يحدّ من [إمكانية استمرار] الولايات المتحدة في تعزيز قدرات القوات العراقية في مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي بدأ يظهر من جديد. كما يكمن التحدي في إقناع الزعماء الأمريكيين بتجاهل اللغة الاستفزازية المعادية لأمريكا المستخدمة في مجلس النواب العراقي والسماح لبغداد بقيادة زمام الأمور لتجنب صبّ الزيت على النار الشعبية.
السيناريو الثالث: تمرير مشروع قانون يقضي بطرد القوات الأمريكية
الاحتمالات: من غير المرجح في الوقت الحالي، ولكن من شبه المؤكد أن يعود إلى الواجهة مرة أخرى
الآثار: كارثية إذا بالغت واشنطن في رد فعلها
الرد: يبلّغ رئيس الوزراء العراقي مجلس النواب بأن الحكومة ليست في وضع يسمح لها بسن القانون لأسباب تتعلق بالأمن القومي، في حين يحثّ المستشارون الأمريكيون الرئيس ترامب على الامتناع عن الانتقام غير المجدي.
من المرجح أن يبرز هذا السيناريو الأسوأ احتمالاً نتيجة للضغط الأمريكي على إيران أكثر من بروزه بسبب الديناميكيات العراقية الداخلية – على الرغم من أنه يمكن أن يتحقق إذا ارتكبت واشنطن خطأً دبلوماسياً آخر من شأنه أن يستفز مجلس النواب. ويقيناً، أن هذه النتيجة لن تترك رئيس الوزراء مكبّل اليدين، لأن باستطاعة الحكومة تحدي دستورية القانون الجديد في المحكمة أو حث المؤسسة الأمنية على الادعاء بصورة شرعية بأنها لا تستطيع تنفيذ القانون. ومع ذلك، سيظل السيناريو الثالث يهدد المصالح الأمريكية العراقية من خلال إرساله إشارة سياسية استفزازية إلى واشنطن، حيث من المؤكد تقريباً أن يؤدي تمرير مشروع القانون الصاخب إلى دفع الرئيس ترامب إلى إصدار قرار، ربما عن طريق “تويتر، يقضي بالانسحاب الفوري للقوات الأمريكية والمساعدات التي تقدمها، تماماً كما فعل مع سوريا.
الخلاصة
سيختبر كل سيناريو من هذه السيناريوهات فطانة الزعماء الأمريكيين والعراقيين الملتزمين بشراكة أمنية دائمة، حيث يُعد حسن التعامل مع هذه السيناريوهات أمراً ضرورياً لضمان مصالح الأمن القومي للبلدين. فبالإضافة إلى تعزيز قدرة العراق على كبح عودة ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية»، تحرص العلاقة مع وزارة الدفاع الأمريكية على ترسيخ انخراط مجموعة واسعة من الجهات الدولية الفاعلة في الجهد الأوسع نطاقاً لإعادة دمج البلاد في المجتمع الإقليمي. فمن شأن إخراج العراق من عزلته ومساعدته على استعادة الاستقرار، من خلال تعميق العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الأردن ومصر ودول الخليج، أن يمنح العراق الوسائل اللازمة لاستعادة السيادة الكاملة على شؤونه ومقاومة التدخل الإيراني. وفي حين أن العديد من الشخصيات العراقية التي كانت في موقع [بارز] على مسرح الأحداث السياسية في عام 2011 التي أنهت الوجود العسكري الأمريكي لا تزال تحتل مراكز هامة، إلّا أن هناك مجموعة مختلفة تماماً من صنّاع السياسة في واشنطن الذين من المقرر أن يكرروا – أو، على أمل، أن يتجنبوا – ذلك الخطأ.
معهد واشنطن