لم يبق أحد إلا وظلم غزة وكأنها ابنة لقيطة يريد العالم أن يتخلص منها. أوجعتها حروب الكيان الصهيوني المتواصلة وحصارهم لها برا وبحرا وجوا، لكنها لم تستسلم وظلت واقفة. أحبطها فشل وصول سفن الحرية التي كانت مقبلة لتخترق الحصار، لكن المدفعية والطائرات والزوارق الحربية الصهيونية أوقفتها في عرض البحر. صرخت غزة كلها مع صرخة هدى غالية التي وصلت عنان السماء عندما رأت قذائف زوارق العدو تنهال على عائلتها، فتعجن دماءهم بالرمال… قهرها قناص مصري يطلق النار على إسحق حسان المختل عقليا عندما عبر البحر عاريا باتجاه مصر فسدد الجندي بندقيته، وأثبت أنه قادر على قتله بطلقة واحدة.
قهرتها الأنفاق التي تنهال على رؤوس اليائسين فتدفن ستة منهم أحياء دفعة واحدة. غزة بكت بدموع ساخنة على الممرضة رزان النجار، عندما سدد القناص الجبان طلقته إلى قلبها. قهرتها السلطة الفلسطينية التي قررت أن تعاقب الناس كلهم مكايدة في حماس، فقطعت رواتبهم وحرمت أطفالهم من لقمة عيش ناشفة، وألحقت بتلك العقوبة قطع الكهرباء عنهم، إلا من أربع ساعات يوميا، فاضطرت عائلة صبيح في مخيم الشاطئ أن تنام على ضوء الشموع، التي أشعلت في الليل حريقا أدى إلى موت ثلاثة أطفال في عمر الزهور. كيف لغزة أن تداري آلامها وهي ترى يوميا مرضى يموتون على معبر رفح بانتظار الإذن من ضابط على الطرف الآخر. هل بقيت طريقة قهر لم تستعمل ضد غزة، إلا أنها ظلت واقفة كأشجار النخيل لا تنحني إلا لربها.
اكتملت دوائر الظلم من الخارج ضد غزة، والآن جاء دور ظلم ذوي القربى من الداخل. وكأن سكان غزة لا يكفيهم ما هم فيه من قهر وألم وإحباط، فتقدمت هذه المرة حركة حماس ورجال الأمن الأشاوس ليأخذوا حصتهم من أهل غزة، تكسيرا وضربا واعتقالا ومداهمات وإساءات واتهامات. والحجة القديمة الجديدة ككل طغاة الأرض: مؤامرة خارجية ضد حماس، يحركها عباس وماجد فرج، أي هراء هذا؟ وهل وفر لهم عباس لقمة عيش كريمة حتى يسمعوا له؟ البداية كانت في إطلاق حملة «بدنا نعيش». حملة مجسدة في مسيرات ألوفية احتجاجا على تصرفات حركة حماس وفرضها أشكالا جديدة من الضرائب على الفقراء المطحونين. حملة سلمية أطلقها الجوعى والمحاصرون والعاطلون صارخين – حرية- عيش- كرامة. حركة احتجاج حضارية استلهموها من مظاهرات إخوتهم في الجزائر، حيث شاهدوا كيف يتصرف رجال الأمن والشرطة مع المتظاهرين. وإذا كان للجزائريين عشرة أسباب أو أكثر للخروج إلى الشوارع، فأبناء غزة لديهم مئة سبب وسبب للخروج والاحتجاج والصراخ، كي تسمعهم أقاصي الدنيا وتعرف كم لحق بهم من ظلم وقهر من كل الأطراف الخارجية والداخلية: إسرائيل تحاصرهم وتمطرهم بوابل من القذائف، وسلطة رام الله قطعت عنهم الرواتب والكهرباء، ونظام السيسي أغلق المنفذ الوحيد الذي يربطهم بالعالم الخارجي. والآن جاء دور حركة حماس لتدلي بدلوها في مفاقمة معاناة الغزيين الأبطال الذي يقدمون لحماس أولادهم مقاتلين وشهداء وأسرى وجرحى. تبرير حماس للتصدي للمظاهرات السلمية بالهراوات والتعذيب والاعتقالات ومداهمة البيوت واعتقال الصحافيين وناشطي حقوق الإنسان يرتكز على نظرية المؤامرة من سلطة رام الله.
حرب وراء حرب
هل تستحق غزة كل هذا الوجع وهي التي خاضت أربع حروب منذ عام 2006 وتحت ظل ظروف إعجازية، بعد فرض الحصار الشامل براً وبحراً وجواً على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ عام 2007. هل تذكرون عملية أمطار الصيف من يونيو إلى نوفمبر 2006 بعد أسر جلعاد شاليط، التي ذهب ضحيتها أكثر من 400 شهيد، بمن فيهم عائلات أبيدت بأسرها؟ وهل تذكرون عملية الرصاص المصبوب من 27 ديسمبر 2008 إلى 18 يناير 2009 والتي راح ضحيتها نحو 1400 شهيد؟ أم عملية عامود السحاب من 14 إلى 22 نوفمبر 2012 التي خلفت 105 شهداء و971 جريحاً؟ لكن عملية الجرف الصامد، أطول الحروب العربية الإسرائيلية لم تجف دماء شهدائها بعد. استمر القتال 50 يوما في صيف 2014، وتركت تلك الحرب 2143 شهيداً، من بينهم 540 طفلاً و11128 جريحاً. إن كانت سلطة رام الله قد نسيت تلك الحروب، فأهل غزة ما زالوا يعيشون آثارها. وإن كانت حماس قد نسيت تلك الحروب فالأولى بها أن تتقاعد وتجلس على الرف. كيف لمن يملك سلطة الأمر الواقع يجرؤ أن يهين غزاويا واحدا أو يعتقله؟ كيف تجرؤ سلطة حماس أن تتصدى بالهراوات لحراك الجماهير الغزاوية ومطالبها العادلة؟ ثم تزيد الطين بلّة فتتشكك بمقاصد الحراك؟ إن هذه التهم مرفوضة ومدانة سياسياً ووطنياً وأخلاقياً وإنسانياً. وجيد أن صرخت الفصائل والمجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان والأفراد والكتاب والصحافيون ضد هذا القمع ما أدى إلى فرملة حماس قليلا.
كيف يمكن إعلاء شأن المقاومة والصمود أمام جبهة الأعداء الواسعة، وفي الوقت نفسه تنتهج حركة حماس سياسة الاعتقال والترهيب ومداهمة البيوت وإخضاع الناس بالقوة، ومنعهم عن التعبير عن مطالبهم العادية في تأمين لقمة العيش بالقوة، بل وزيادة في نكأ الجراح يتم فرض مزيد من الضرائب لمفاقمة المعاناة. فهل هذه الإجراءات تخدم المقاومة؟ أم تلحق الضرر بها. هل بهذه الإجراءات يمكن التصدي لصفقة القرن المقبلة لتنهي القضية الفلسطينية؟ هل تعزيز صمود شعبنا الفلسطيني في مواجهة السياسات الصهيوأمريكية يكون بتخويف الجماهير وكتم أنفاسها والنزول بالهراوي على رؤوس المحتجين. نود أن نؤكد لحماس والسلطة ولجميع من يسير على أساليب الطغاة، أن الشعبية لا تأتي من الخوف وكتم الأصوات وأن الإلتفاف الجماهيري لا يكون إلا في ظل الحرية والكرامة والاحترام وتلبية الحد الأدنى من العيش الكريم. ولا يقولن أحد إننا ننتصر لموقف السلطة فخلافاتنا مع السلطة أوسع من قضية كتم الأفواه ومنع المسيرات والنزول بالهراوات على المواطنين، كما حدث مؤخرا في الخليل وقبلها على دوار المنارة في رام الله. خلافنا معها يتعلق بشكل أساسي على مسيرة أوسلو والاتفاقيات التي وعدوا أكثر من مرة بإلغائها ولم يفعلوا. خلافاتنا حول التنسيق الأمني والارتهان للعدو، والتفرد بالقرار، وتهميش منظمة التحرير وإفراغها من محتواها، وانتشار ثقافة الفساد والمحسوبيات والوساطة، وإهدار المال العام وغير ذلك الكثير، بل أكثر من هذا لقد انتقدنا كلمة الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة في سبتمبر الماضي عندما تعرض في كلمته لحركة حماس مهددا ومتوعدا. لكننا في الوقت نفسه لن نظل صامتين أمام هذه الانتهاكات الجسيمة التي أثارت غضب الشعب الفلسطيني بكامله.
ما العمل
لتلك الأسباب فإننا ندعو السلطتين في الضفة وغزة للخروج من المأزق القاتل التي تعيشه القضية الفلسطينية متبعين المبادئ التالية:
أولاً، إن إخضاع الشعب الفلسطيني وكتم أنفاسه والتصدي للاحتجاجات السلمية، كيفما وأينما حدثت، إنما يضر بالقضية الفلسطينية، ولا يخدم مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية ويسيء لفتح وحماس كلتيهما ويضعف قدراتهما على التصدي لصفقة القرن إذا كانتا جادتين في أقوالهما.
ثانياً، من حق الشعب الفلسطيني بكافة تشكيلاته أن يتظاهر سلميا، وأن يعبر عن رأيه بحرية، وأن ينتقد السلطتين بصوت عال وأن يطالب بإسقاطهما إذا رأى أن ذلك أنفع للقضية المركزية. ومن حقه كذلك أن يفضح الفساد والمفسدين والمفرطين والمتآمرين والمنسقين والمتجبرين، وكل من يحتل موقعا قياديا لا يسخره لدور وطني يصب في إنهاء الاحتلال وتحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة وبناء دولته المستقلة ذات السيادة الناجزة.
إخضاع الشعب الفلسطيني وكتم أنفاسه والتصدي للاحتجاجات السلمية، يضر بالقضية الفلسطينية، ويسيء لفتح وحماس
ثالثا، التجربة الفاشلة لسلطتي غزة والضفة تؤكد على ضرورة استعادة حركتنا الوطنية لطابعها، كحركة تحرر وطني يقوم على رؤية وطنية موحدة ترتكز على وحدة الشعب ووحدة الهدف ووحدة وسائل تحقيق الهدف، وحصر مهام السلطة بإدارة شؤون الشعب، بما يخدم تعزيز صموده وتنمية مؤسساته.
وأخيرا لا بد من إعادة تفعيل منظمة التحرير ولملمة جميع أطياف الشعب الفلسطيني تحت مظلتها، على قاعدة أسس تشاركية ومؤسسية وتمثيلية وقاعدة الانتخابات الحرة أينما أمكن ذلك، كمخرج آمن من مأزق الانقسام.
وأخيرا أود أن أذكر زعامات السلطتين العتيدتين أن تقرير منسق الشؤون الإنسانية في فلسطين المحتلة، الذي صدر قبـل سنوات، ونيابة عن اليونسيف والأونروا ومنظمة الصحة العالمية، أكد أن قطاع غزة، بدون إيجاد حلول جذرية وإدخال إصلاحات شاملة على قطاعات أساسية مثل، الماء والكهرباء والتعليم والصحة، فإن الحياة ستصبح غير قابلة للاستدامة بحلول عام 2020 وأعتقد أن ذلك اليوم ليس ببعيد. وأدعو عندها السلطتين للاحتفال.
محاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي