بالنظر إلى تفاقم الأوضاع في قطاع غزة، وتصاعد الاشتباك بين الحاضنة الشعبية، المطالبة بالعيش الكريم، والسلطة الحاكمة المتدثرة بغطاء المقاومة، قد يكون في استدعاء بعض التاريخ الفلسطيني، غير البعيد، عِبَر تستلهمها حركة حماس للخروج من مأزقها الراهن.
بدايةً، يحضرنا الدرس القاسي الذي مرّت به المقاومة الفلسطينية في ريعان شبابها، عندما اصطدمت بالحاضنة الشعبية في الأردن. هناك نمت قوة منظمة التحرير، ورفعت فصائل فلسطينية شعارات “كل السلطة للمقاومة” و “لا سلطة فوق سلطة المقاومة”، وأخذت هذه الفصائل منازعة السلطة الأردنية على إدارة البلاد، وقدَّم فدائيون هدف إسقاط النظام الهاشمي على هدف تحرير فلسطين، وراح الشطط الفلسطيني يتمدّد في الشأن الأردني من تنظيم دوريات الكفاح المسلح لحركة السير في شوارع عمان، وصولاً إلى حد المطالبة في حصةٍ داخل الحكم، والمس بهيبة الدولة وسيادة مؤسّساتها المدنية والعسكرية. وأكثر من ذلك، أراد الراديكاليون من الفلسطينيين تحويل عمّان إلى هانوي العرب، وقاعدةً لإسقاط الرجعيات العربية. وماذا كانت النتيجة؟ تاهت بوصلة المقاومة الفلسطينية عن التناقض الأساسي مع الاحتلال الإسرائيلي، لتنشغل في تناقضات دموية، وانتهى الصراع بعد حرب أيلول 1970، بخروج المقاومة من الأردن، وخسارتها أطول خط مواجهة مباشر مع الاحتلال الصهيوني.
وكأن فصائل منظمة التحرير لم تتعلم شيئاً من درس أيلول الأردني، حتى راحت تكرر بعض فصوله في شوارع “جمهورية الفاكهاني”. نشرت قواتها في مدن لبنان وقراه، في أحيائه وشوارعه. أقامت المكاتب والقواعد والحواجز في المباني والزواريب، وراحت تتدخل في الشأن اللبناني، بكل تفاصيله وتعقيداته، حتى صار للفلسطينيين “جمهورية” داخل الدولة اللبنانية. وكانت النتيجة أن البندقية المقاتلة ضد الاحتلال تاهت وسط غابةٍ من البنادق المنحرفة. حتى كانت لحظة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982. خرجت فصائل منظمة التحرير من لبنان، وخسرت المقاومة الفلسطينية حاضنةً شعبية أخرى، وخط مواجهة آخر.
وتتكرّر الأخطاء، أو تُجتر الخطايا، وهذه المرة في أحضان الشعب الفلسطيني وموطنه، عندما مُنيت حركة فتح، بخسارة مدوية في الانتخابات التشريعية عام 2006. ومهما قدّمت من مبرّرات لتلك الهزيمة، الأكيد أن خسارة فتح كانت نتيجة طبيعية لانفصال المقاومة عن الحاضنة الشعبية، وانشغال قيادات الحركة وكوادرها في قطف غنائم مشروع “السلطة”. وليس خافياً انفضاض آلاف من أبناء فتح من حولها وتحولهم نحو حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ما أدى إلى فوز الأخيرة في انتخابات العام 2006، حيث رأى هؤلاء في مشروع “حماس” المقاوم بديلاً عن “فتح” التي انغمست في مشروع السلطة.
واليوم، تتكرّر التجربة بمرارة في قطاع غزة، حيث تتحوّل المقاومة إلى سوطِ سلطة مُسَلَط على رقاب الحاضنة الشعبية، فينفضّ الناس من حول المقاومة والسلطة، صارخين “بدنا نعيش”. تخسر “حماس” المُقاوِمَة حاضنتها الشعبية، وتتمسّك بسلطةٍ قمعيةٍ استبدادية، تهين الناس، وتعتدي على كرامتهم الإنسانية. وماذا ستكون النتيجة؟ خسارة المقاومة الفلسطينية حاضنة شعبية أخرى، وخسارة خط مواجهة آخر مع الاحتلال.
في المحطات المفصلية التي ذُكرت سابقاً ما يفيد بخطورة الزواج بين المقاومة والسلطة، فالجمع بينهما يشبه السير في حقل ألغام. بعد 12 سنة من السيطرة على مقاليد الحكم في القطاع، بات في حكم المصيري مراجعة “حماس” للوضع القائم، سيما مع تعذر، إن لم نقل فشل، الجمع بين المقاومة والسلطة، بفعل عوامل ذاتية، وأخرى موضوعية. لم يعد مقنعاً التَدَثُر بغطاء المقاومة للاستحواذ على السلطة، ولم يعد مُبرّراً التمسك بالسلطة بذريعة حماية المقاومة، ولم يعد مقبولاً تسليط كليهما على الناس.
ملاحظة أخرى تخص العلاقة بين شعور الفرد بالكرامة وشعوره الوطني. والعلاقة بين الشعورين طردية. كلما شعر الفرد بأن المقاومة تحقّق كرامته وتصونها، زاد التفافه حولها، والعكس صحيح. يُنذر الجاري في قطاع غزة، قلب الحاضنة الشعبية للمقاومة، بانفضاض الناس عن حركةٍ تدوس كرامتهم، ومقاومةٍ لا تحميهم من ذوي القربى، لصالح حراكٍ، أقصى مناه العيش الكريم.
العربي الجديد