من راية مرفوعة فوق مساحات شاسعة من أراضي سورية والعراق، إلى أخرى مرمية على بُعد أمتار من نهر الفرات، هكذا سقطت “دولة الخلافة” التي أعلنها تنظيم “داعش”، بعد خمس سنوات زرع فيها الرعب في كل أنحاء العالم، وفرض قوانينه على “دولته”، التي لم يتبقَ منها شيء فعلياً، بعد إعلان “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) أمس السبت السيطرة على آخر الأراضي التي كانت خاضعة للتنظيم في سورية، بعد أكثر من عام على دحره من العراق.
وبعد ستة أشهر من الهجوم الواسع، تمكّنت “قسد” من السيطرة على آخر جيوب “داعش” في سورية، وتحديداً في بلدة الباغوز في ريف دير الزور الشرقي. لكن تحرير الأرض لا يعني إغلاق صفحة التنظيم بشكل تام، بل إن ذلك يُطلق مرحلة جديدة من التحديات تشمل مختلف أطراف الصراع في سورية، من دون وجود إجابات واضحة عن الكثير من التساؤلات المطروحة. ففقدان “داعش” كل الأراضي التي كانت تحت سيطرته، لا يعني انتهاء خطره، في ظل قدرته على تحريك خلايا نائمة في المناطق الخارجة عن سيطرته، واستمرار وجوده في البادية السورية المترامية الأطراف، إضافة إلى إمكان استلهام “ذئاب منفردة” خطاب التنظيم لشنّ هجمات في أي مكان في العالم، خصوصاً أنه كان قد استبق خسارته بدعوة عناصره في تسجيلات بثها في الأيام الأخيرة إلى “الثأر” من الأكراد في مناطق سيطرتهم وشنّ هجمات في الغرب ضد أعداء “الخلافة”.
ملف آخر سيكون حامياً في المرحلة المقبلة، هو مصير “قوات سورية الديمقراطية” التي تسيطر على نحو ربع مساحة سورية، بعدما نجح الأكراد في ترجمة انتصاراتهم الميدانية بإنشاء إدارة ذاتية بدعم أميركي. غير أن كل المكاسب التي حققوها، تبدو مهددة اليوم، مع مخاوف من شنّ تركيا هجوماً على “وحدات حماية الشعب” (الطرف الأقوى في قسد) المنتشرة قرب الحدود التركية، بالتوازي مع تشديد النظام السوري على استعادة السيطرة على كامل أراضي البلاد، وتخيير الأكراد بتسليم أراضيهم بالمفاوضات أو الحسم العسكري. وكان الأكراد قد خاضوا قبل فترة مفاوضات مباشرة مع النظام، لم تُفض إلى نتائج ملموسة.
وما يزيد من التهديدات على الأكراد، قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قواته من سورية، وربط ذلك بالقضاء النهائي على “داعش”، وبالتالي يبدو هذا السحب قريباً مع إعلان حسم المعركة ضد التنظيم. ويثير الانسحاب الأميركي خشية كردية من أن يكون ضوءاً أخضر لتركيا لشنّ هجوم ضدهم، خصوصاً في ظل عدم التوصل إلى تفاهم حول “المنطقة الآمنة” التي اقترحت واشنطن إقامتها على طول الحدود بين الطرفين. وفي ما بدت محاولة لاستمرار تلقي الدعم الأميركي، أكدت “قسد” أمس بعد الإعلان عن القضاء على وجود “داعش”، أنها “تجدد العهد على مواصلة الحرب وملاحقة فلول داعش حتى القضاء التام عليهم”، فهل يكون ذلك مقدمة لغطاء يسمح باستمرار وجود هذه القوات وانتشارها، أم أن الفترة المقبلة ستشهد تقلّبات كبيرة تعيد رسم المشهد السوري من جديد؟
ظهور “داعش”
مع فقدان “داعش” آخر معاقله في سورية، تُطرح أسئلة كثيرة عن رحلة صعود التنظيم، قبل سقوطه التام، وما خلّفه كل ذلك من نتائج كارثية في سورية على مختلف الصعد، مع خروج البلاد منهكة ومهددة بالتشظّي، وربما التلاشي.
بدأ التنظيم بالظهور في سورية أواخر عام 2012، في المناطق التي خرجت عن سيطرة قوات النظام في شمال غربي سورية، خصوصاً إدلب وريف اللاذقية وريف حلب، قبل أن يدخل الأحياء الشرقية من مدينة حلب، مزاحماً ومنافساً قوات الجيش السوري الحر، التي أدركت خطورة التنظيم في البداية، بسبب عمله تحت مظلة “جبهة النصرة” التي رفعت شعاراً مفاده أن “مشروعها يقتصر على مساعدة السوريين في إسقاط النظام”. وفي عام 2013، سيطرت “جبهة النصرة” وفصائل المعارضة على محافظة الرقة في شرقي البلاد، فنشر التنظيم حواجز له في عموم المحافظة؛ حواجز لم تكن تشكّل خطراً. وفي إبريل/نيسان 2013، اعتبر زعيم “داعش”، أبو بكر البغدادي، أن “جبهة النصرة هي امتداد لتنظيمه”، معلناً، من طرف واحد، دمج التنظيمين تحت مسمى واحد هو “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وتحت قيادته. لكن “جبهة النصرة” سارعت في اليوم التالي إلى رفض عرض الاندماج، لتفتح باب صراع مع التنظيم دفعت ثمنه سورية على مدى أعوام. وفي نهاية عام 2013، تعاظم دور التنظيم الذي اصطُلح على تسميته بـ “داعش” اختصاراً لاسمه، في مناطق المعارضة حتى كاد أن يلتهم فصائلها، مع استيلائه على مناطق عدة، مجبراً أهلها على مبايعة البغدادي. كما فرض عليهم الاحتكام إلى محاكمه الشرعية، والتعلّم في مدارسه، وارتكب جرائم قتل كثيرة بحق معارضيه ومنع رفع علم الثورة.
”
في إبريل 2013، أعلن البغدادي، أن جبهة النصرة هي امتداد لتنظيمه ودمجها بداعش
”
في يناير/ كانون الثاني من عام 2014، أعلنت فصائل المعارضة النفير العام والحرب على “داعش”، الذي سرعان ما تراجع عن شمال غربي سورية، بما فيها إدلب وريف حلب الغربي، وانهزم داخل مدينة حلب، ولكنه سيطر على الرقة بعد ارتكاب مجازر بحق “جبهة النصرة” وفصائل المعارضة. ورسّخ التنظيم وجوده في ريفي حلب الشمالي والشرقي، مهدداً مدينة عين العرب، ذات الغالبية الكردية، ووصل إلى مشارفها وكاد أن يدخلها لولا تدخل التحالف الدولي الذي دمّر طيرانه معظم أحياء المدينة ليحول دون سقوطها. واستكمل التنظيم في عام 2014 السيطرة على أغلب محافظة دير الزور الغنية بالبترول وريف الحسكة الجنوبي. وكان “التحالف الدولي ضد الإرهاب” الذي يضم أكثر من عشرين دولة، تأسس في عام 2014، بهدف محاربة “داعش” ووقف تقدمه في العراق وسورية، بعد سيطرة التنظيم على مساحات شاسعة في البلدين، وبات يشكّل خطراً داهماً على الإقليم برمته.
وفي مطلع عام 2015، هدد التنظيم مدينة الحسكة في أقصى شمال شرقي سورية بشكل جدي، قبل أن تتصدّى له الوحدات الكردية بمساعدة طيران التحالف الدولي. وفي العام نفسه أيضاً، توغّل التنظيم في البادية السورية، فسيطر في مايو/أيار 2015 على تدمر، وهي أهم مدن البادية وبلداتها، ثم زحف حتى وصل إلى تخوم مدينة حمص من الجهة الشرقية، مستكملاً السيطرة على أجزاء واسعة من ريف حمص الشرقي ومعظم ريف حماة الشرقي. كما ظهر التنظيم داخل العاصمة دمشق، تحديداً في الأحياء الجنوبية (الحجر الأسود، ومخيم اليرموك)، وفي منطقة القلمون الغربي شمال العاصمة دمشق، وفي ريف درعا الغربي. وبايعه “جيش خالد”، الذي كان يضم مجموعات متطرفة. وبات ما يزيد عن 80 ألف كيلومتر مربّع من مساحة سورية، تحت سيطرة “داعش”، فسيطر على طريق بري، يبدأ من حدود لبنان الشرقية وينتهي في الموصل شمال العراق.
انقلاب 2015
غير أن نهاية عام 2015 حملت أخباراً سيئة للتنظيم، وبدأ التدخّل الروسي المباشر في سورية تحت ذريعة القضاء على “داعش”، في وقت بدأ فيه التحالف الدولي مرحلة الهجوم على التنظيم لدحره في منطقة شرقي نهر الفرات. اعتمد التحالف في البداية على الوحدات الكردية لاسترجاع مدينة تل أبيض وريفها في ريف الرقة الشمالي في منتصف عام 2015، قبل الإعلان عن تأسيس “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) في نهاية العام نفسه. وساعد التحالف الدولي القوات الوليدة في حربها ضد التنظيم التي مرّت بعدد من المراحل. كما قدّم التحالف لهذه القوات التي ضمّت الوحدات الكردية وفصائل غير متجانسة شُكّلت على عجل، من العرب والتركمان، ومن السريان في الحسكة، دعماً عسكرياً وسياسياً كبيراً، مكّنها من تدشين حملة كبرى للقضاء على “داعش” في شرق سورية. وخاضت هذه القوات خلال عام 2016 الكثير من المواجهات مع التنظيم في ريفي الحسكة والرقة وفي ريف حلب، وسيطرت على مدينة منبج الاستراتيجية غربي نهر الفرات منتصف العام نفسه، وصولاً إلى بداية عام 2017، مع بدء الحملة على الرقة معقل التنظيم البارز في سورية.
في أكتوبر/تشرين الأول 2017، أعلنت “قسد” السيطرة على الرقة، بعد أشهر من المعارك والقصف الجوي الذي دمّر معظم أحياء المدينة وقتل آلاف المدنيين. كما ساعد التحالف الدولي “قسد” في طرد التنظيم من ريف الحسكة الجنوبي ومن ريف دير الزور الشرقي شمال نهر الفرات. وسيطرت هذه القوات بشكل شبه كامل على منطقة شرقي الفرات، التي تشكل أكثر من ربع مساحة سورية، وهي الأغنى بالبترول في البلاد، فضلاً عن كونها سلّة غذاء سورية. كما تراجع التنظيم في البادية السورية تحت ضربات الطيران الروسي عن تدمر في مارس/آذار 2016، ولكنه رجع لاستعادتها في العام نفسه، على أنه لم يصمد طويلاً فيها. وعقد التنظيم في سبتمبر/أيلول من عام 2017 صفقة مع حزب الله، خرج على أثرها من منطقة القلمون الغربي إلى الشرق السوري. ثم فقد التنظيم خلال عام 2018 معاقله البارزة في جنوب دمشق، بعد سنوات من سيطرته عليها، وخرج مسلحوه في مايو/أيار 2018 من مخيم اليرموك وحي الحجر الأسود، في صفقة غير معلنة مع النظام، إلى مناطق سيطرة التنظيم في البادية، بعد شهر من حملة عسكرية عنيفة كبّد “داعش” خلالها النظام خسائر فادحة في صفوف قواته، ولكنها انتهت بدمار كبير طاول الحيين، لا سيما اليرموك الذي كان بمثابة عاصمة للشتات الفلسطيني.
”
أدى وجود “داعش” في سورية إلى نتائج كارثية على المستويات كلها، فدُمّرت مدن وبلدات سورية كاملة
”
في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلنت قوات النظام والمليشيات المساندة لها، السيطرة بشكل كامل على منطقة تلول الصفا بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر من المعارك المتواصلة مع “داعش” في منطقة جغرافية وعرة، تكبّد خلالها النظام أكثر من 500 قتيل بينهم 50 ضابطاً، بالإضافة إلى عشرات القتلى من فصائل المصالحات والمليشيات الأخرى. وفي منتصف عام 2018، سيطر النظام بشكل كامل على منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي، القريبة من الشريط الحدودي مع الجولان المحتل، والحدود مع الأردن، والتي كانت خاضعة لفصيل “جيش خالد” التابع لتنظيم “داعش” بعد معارك لم تستمر طويلاً قُتل خلالها عدد كبير من مسلحي التنظيم. كما أعدم النظام وفصائل معارضة عقدت مصالحات معه، العشرات من “جيش خالد” وأفراد عائلاتهم، حاولوا الخروج نحو شرق حوض اليرموك.
أدّى وجود “داعش” في سورية إلى نتائج كارثية على المستويات كلها، فدُمّرت مدن وبلدات سورية كاملة، وقُتل وشُرّد عشرات الآلاف داخل سورية وخارجها، وحرم أجيالاً من التعليم، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية الهائلة، التي من الصعوبة بمكان الإحاطة بها. لقد حقق التنظيم مصالح الدول المتنافسة بل والمتصارعة في سورية، وأعطى النظام وحلفاءه الروس والإيرانيين ذريعة تشويه الثورة السورية، واتهامها بالتطرف للفتك بها. وهو ما حدث في الكثير من المناطق. كما منح موسكو وطهران ذريعة التدخل الذي يرقى إلى مستوى الاحتلال في سورية، وسمح للأميركيين بتحويل شرقي الفرات إلى منطقة نفوذ لهم تحت غطاء “قسد”، المتهمة اليوم بمحاولة تمزيق البلاد. استثمر جميع أطراف الصراع في تنظيم “داعش”، وكان من الواضح في بداية عام 2014 أن العالم تواطأ على “تسمين” هذا التنظيم، الذي استقطب المتطرفين من مختلف دول العالم، ومن ثم الانقضاض عليهم لتتحول سورية إلى مقبرة لهم. ولم يُدخل التحالف الدولي وحلفاء النظام في حساباتهم مصير مدنيين وقعوا فريسة لتنظيم كان يخطط ليغدو “دولة” واليوم تحوّل إلى مجرد خلايا في سورية والعراق، وقد كان ثمن مجيء واختفاء هذا التنظيم كارثة على البلدين وربما على مستقبلهما.