قفز الحراك الجزائري في أقل من ستة أسابيع إلى إنجازات كبرى بمقاييس الشعوب العربية فقد تمكن من فتح أبواب التعبير ليس في وسائل الإعلام الخاصّة فحسب بل كذلك في وسائل إعلام الدولة، كما ثبّت بقوّة حريات التظاهر والاجتماع واخترق الحصن الحصين للأنظمة العربية وهو موضوع «تغيير رئيس الدولة»، الذي هو عادة، رمز السلطة المطلقة بحيث يعتبر نقده، فما بالك بإسقاطه، جريمة تعاقب عليها أغلب القوانين العربية.
ساهم التحرّك الكبير للجماهير الجزائريّة، وبسبب الوضع الخاص بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بكشف خواء هذه السلطة وتلاعبها بالمؤسسات، من الحكومة مرورا بالبرلمان وأحزاب الموالاة والجيش والنقابات الرسميّة، ولكن الحراك ساهم أيضاً في كشف ضعف الأحزاب المعارضة أيضاً التي فوجئت بالمدّ الشعبيّ الكبير، وبعدم قدرتها على التموضع في مواقع قادرة على قيادة هذا الحراك أو التأثير الحقيقي عليه.
أثّر الحراك في كافّة الفئات الشعبية وحضرت مؤسساتها التمثيلية كالمعلمين والقضاة والعمال بقوة وكان أمراً مثيرا مشاركة عناصر من الجيش والشرطة أيضاً، وهو ما ساهم، بالتأكيد، في اضطرار السلطة الحاكمة للاستجابة لمطلب عدم ترشّح بوتفليقة مجدداً، وبعد مظاهرات الجمعة الماضية شهدنا أيضاً تغيّرا آخر تمثّل بتخلّي المؤسسة العسكرية ممثلة برئيس أركان الجيش محمد قايد صالح عن بوتفليقة عبر المطالبة بتفعيل المادة الدستورية رقم 102، بإعلان شغور منصب الرئاسة، وتبع ذلك إعلان أجنحة أخرى موالية للسلطة، كاتحاد نقابات العمال، وحزب «التجمع الوطني الديمقراطي» الذي يرأسه رئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى، الموافقة على هذا التوجّه.
أدت المشاركة الجماهيرية الهائلة التي حصلت في الحراك، وتمكّنه من الحصول على هذه المكاسب الكبيرة في وقت قصير، إلى تغييرات في طبيعته حيث اكتسب المشاركون فيه جرأة وارتفع سقف المطلب الذي كان مقتصرا على منع ترشّح بوتفليقة للولاية الخامسة إلى مطالب تخصّ طبيعة النظام نفسه وهو ما جعل سلطات الأمر الواقع الجزائرية تتنازل، من جهة، وتبقي، من جهة أخرى، على تحكّمها في «المرحلة الانتقالية» لاختيار بديل بوتفليقة في أجهزة السلطة نفسها المؤلفة من الحكومة ومجلس الدستور والأمة.
ورغم أن أحزابا معارضة أعلنت رفضها لهيمنة المؤسسة العسكرية على البلاد، وقيادتها لـ«المرحلة الانتقالية»، فإن ما سيحسم الأمور فعلاً هو قدرة الحراك الجزائري على التحوّل إلى قوّة منظمة واضحة المعالم والاتجاهات، تركّز بشكل رئيسي على الحفاظ على المكاسب السياسية المهمّة التي حققها المنتفضون، والضغط على الجيش، الذي هو القوّة المنظمة القادرة على «الضبط» و«الربط» لأجهزة السلطة، بحيث ينسحب رئيس الدولة مع نهاية عهدته أواخر الشهر المقبل، ولتأمين تمثيل لهذا الحراك ولأحزاب المعارضة في الإشراف على المرحلة الانتقالية لتأمين انتخابات ديمقراطية حقيقية لعضوية المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، ونشوء «حكومة إنقاذ وطني».
بغير هذا الحلّ فإن الطريق سيكون معبّداً لسيطرة الجيش على السلطة الجزائرية مجدداً، وستقوم السلطة الناشئة بتهميش كل المكاسب الديمقراطية التي حققها الجزائريون، وربما سينفتح الطريق أمام «سيسي» جزائري يعيد دوّامة الدم التي عمل الجزائريون سنوات طوال للخلاص منها.
القدس العربي