يتّسم الخطاب الرسمي الذي ألقاه المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في عيد النَّوْروز – عيد رأس السنة الفارسية بالإضافة إلى الاعتدال الربيعي – بأهمّيّةٍ تفوق أهمّيّة أي خطاب آخر. فقد كان خطاب هذا العام مختلفاً بشكلٍ لافت عن خطاب العام الماضي من ناحية تركيزه على السياسة الخارجية، وكان عدائيّاً تجاه الغرب، ولم يقدّم سوى القليل من الأمل بشأن المعاناة الاقتصادية للبلاد. وعلى العكس من ذلك، تضمّن خطاب عام 2018 في الغالب إعادة سرد الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الإنجازات المحلية للجمهورية الإسلامية.
خلفية خطابات النوروز
لطالما كانت أرثوذكسية رجال الدين معادية لمهرجان النَّوْروز، بطابعه الزرادشتي الذي لا يمكن إنكاره. فالقائد المؤسس للجمهورية الإسلامية، روح الله الخميني، لم يستخدم كلمة “النَّوروز” بتاتاً في خطابه السنوي. ويتّخذ خامنئي نهجاً معادياً أقل حدّةً، لكنّه مع ذلك ففي خطاب هذا العام، وصف النَّوْروز الحقيقي الوحيد بأنه مولد الإمام علي.
وفي كل عام، ينقل خامنئي والرئيس الإيراني – حاليّاً حسن روحاني – تحياتهما لمناسبة عيد النَّوْروز ويتم بثّها على شاشات التلفزيون؛ وفي السنوات الأخيرة، وجّه وزير الخارجية محمد جواد ظريف أيضاً رسالةً في هذا العيد. ولا بدّ من تجاهل هذه الأمور. فما يهمّ بدلاً منها هو الخطاب الذي يُلقيه خامنئي في يوم رأس السنة أمام مئات الآلاف الذين يحجّون سنويّاً إلى حرم الإمام الرضا في مدينة مشهد، حيث يدّعي مسؤولو السياحة أن خمسة ملايين شخصٍ قد جاءوا للاحتفال لمناسبة هذا العام. ويحبّ خامنئي الاستفادة من هذا الحشد الضخم المتجمّع في مدينته المفضَّلة، حيث شعر دائماً بأكبر قدرٍ من الراحة. وكان خطابه السنوي مؤشّراً جيّداً لما سيفعله في العام القادم.
فقدان الأمل في الغرب
احتلّت السياسة الخارجية موقعاً ثانويّاً في خطاب خامنئي في عام 2018، ولم يكن خطاب عام 2017 حادّاً أو جريئاً تجاه الأعداء الأجانب. وهذا العام، أعلن خامنئي بصراحة أن محوره الأوّل – والأطول إلى حدٍ كبير – سيكون مشاكل إيران مع الغرب. وقد كان صريحاً: فقدْ فَقَدَ الأمل بالأوروبيين. وقال: “لقد تخلّوا عمليّاً عن «خطة العمل الشاملة المشتركة» – في إشارةٍ إلى الاتفاق النووي. ووصف الآليّة التي أنشؤوها للتجارة مع إيران بـ”المهزلة”، قائلاً إنها كانت مختلفة عن التزاماتهم بمقدار اختلاف الليل عن النهار. وعند انتقاده للغرب، كان يشمل باستمرار أوروبا مع الولايات المتحدة، وفي مرحلةٍ ما [انطلق في] تقليب الفكرة عن الاستعمار الأوروبي الذي دام ثلاثمائة عامٍ عندما لم تكن الولايات المتحدة منخرطة في ذلك الحين. ومن اللافت للنظر أنه لم يعتبر الولايات المتحدة وحدها مصدر كل شر؛ فباستثناء هجومه على “الحمقى من الدرجة الأولى” وادّعائه المبالَغ به بتمركز 60 ألف مستشارٍ عسكريٍ أمريكيٍ في إيران قبل ثورة 1979، كانت انتقاداته موجَّهة نحو الغرب، وليس نحو الولايات المتحدة فحسب.
ووفقاً لخامنئي، فبالنسبة للدبلوماسية مع أوروبا لا يشكّل الحديث مشكلةً بحد ذاته. فالثقة هي المشكلة – لأن الأوروبيين يتفوّهون بالأكاذيب، ويستهزئون بإيران، ويطعنون في الظهر. حتّى أنه أصبح شغوفاً جداً في هذا الشأن وقال: “إن رجال السياسة الأوروبيين هم في أعماقهم أشخاص متوحشون بالمعنى الحقيقي للكلمة. ويجب ألّا يفاجئكم هذا الأمر. فهم يرتدون بذلةً، ويضعون ربطة عنقٍ، ويعطّرون أنفسهم، ويحملون حقيبة سامسونايت، لكنهم متوحشون ويتصرفون بطريقة وحشية عمليّاً”.
ما يمكن استخلاصه من هذا الحديث – رغم أن خامنئي لم يعبّر عنه صراحةً – هو أنه بما أن إيران لا تحصل على شيءٍ من «خطة العمل الشاملة المشتركة» وبما أن الأوروبيين يتصرفون فعليّاً بعدائية، فإن ذلك يترك الجمهورية الإسلامية فارغة اليديْن. كما أنه لم يلمّح إلى أن إيران قد تستمد الأمل من الشريكتيْن في «خطة العمل الشاملة المشتركة» روسيا والصين. ولم تَمرّ إشاراته إلى الصين إلا مرور الكرام. لكنه أشار إلى روسيا وبريطانيا على أنهما بلدان دمّرا إيران في القرن التاسع عشر. ولم يتفوّه بكلمة عن تعاون إيران وروسيا في سوريا. كما أنه لم يُقصِ روسيا من حُكمه على الأوروبيين قائلاً: “لا يمكن أن يكون لنا أملٌ بهم”.
بما أن كل ذلك انطبق على «خطة العمل الشاملة المشتركة»، بدا أن خامنئي لم يجد أيَّ سببٍ للبقاء في الاتفاق كما لم يجد أيضاً أيَّ سببٍ للخروج منه – بينما امتنع عن حججه السابقة حول كيفية إحراز إيران تقدّماً تقنيّاً في المجال النووي. ولم يدّعِ عدم رغبة إيران في [امتلاك] أسلحة نووية، لكنه أشار بثقة إلى أن صواريخ إيران البالغة الدقة تشكّل قوّة ردعٍ إقليمية فعّالة، ربما في إشارةٍ إلى عدم الحاجة إلى الأسلحة النووية.
وكانت الرسالة الموجَّهة إلى البلدان العربية مشوَّشة بقدر تلك الموجَّهة إلى الغرب. وفي هذا الصدد، طمأن خامنئي المستمعين إلى أنه – على عكس التصريحات الأخيرة التي أدلى بها مستشاره، وزير الدفاع السابق علي شمخاني – لا يجد مشكلة مع البرنامج النووي السعودي. لكنّه سرعان ما كشف عن المنطق الذي يفكّر فيه من خلال الإشارة إلى ثقته في أن النظام السعودي سيسقط قريباً، وستقع ممتلكاته النووية في نهاية المطاف بين أيدي “المجددين” (وفقاً للكلمة التي استخدمها)، الذين سيستولون على السلطة.
وفي حديثه عن الاقتصاد، لم يُعطِ شعبه أيَّ سببٍ لتوقّع تخفيف العقوبات. بل ركّز بشكلٍ كامل على الكيفية التي يجب بموجبها أن تستخدم إيران العقوبات كفرصة لبناء اقتصادها الخاص. وقال إن أولئك الذين وصفوا العقوبات كمصدر للمشاكل، كانوا يستسلمون لمفاخر العدو الفارغة. فكما كافحت البلاد في البداية للرد على غارات القصف العراقية خلال الحرب العراقية -الإيرانية، فقد طوّرت الآن صواريخ ضارية كافية لردع أعدائها، وأكّد أن الجمهورية الإسلامية يجب أن تطوّر “قوة ردعٍ اقتصادية” من أجل الصمود في وجه أعمال أعدائها. وتماشى هذا الخطاب مع المحور الذي طالما تحدّث عنه خامنئي وهو أن إيران بحاجة إلى “اقتصادٍ بدون نفط” – بالاستناد إلى شعار محمد مصدّق، رئيس الوزراء المخلوع من خمسينيات القرن العشرين – مما يمنحها بالتالي “اقتصاد مقاومة”.
وما غاب أيضاً عن خطاب خامنئي في عيد النَّوْروز هو أي ذكر لموضوعه السابق وهو أنّ الغرب سوف يدرك الأخطاء التي ارتكبها والضرر الكبير الناجم عن خسارة وصوله إلى السوق الإيرانية المُربِحة. وبينما لم يُعطِ أي نوعٍ من الأمل، إلا أنه لم يوجّه أيضاً أي تهديدات. وفي الواقع، يختلف الأمر تماماً عن تأييده الصريح للهجة الاستفزازية للرئيس روحاني في تموز/يوليو 2018 والتي جاء فيها – “إذا لم تستطع إيران تصدير نفطها، فلن يتم تصدير أي نفط من أي بلد في المنطقة” – حيث لم يوجّه أي تهديدات مشابهة هذه المرّة.
عدم تقديم تنازلات في البلاد
في بعض السنوات السابقة، تحدّث خامنئي بإسهاب عن وضع الأشخاص العاديين. ففي عام 2018، ذكر عدة إحصاءات – حتى التقنية منها مثل معامل “جيني” – لإثبات تحسن وضع الفقراء في ظل الثورة، بينما قدّم أرقاماً مفصَّلة أشارت إلى التحسينات في التعليم. وبالفعل، دار محوره الأساسي في عام 2018 حول مدى قيام الثورة بتحسين حياة الإيرانيين، ومنحهم “ثقةً وطنيّةً بالنفس” وفقاً لعباراته. إلّا أنه بالكاد تحدّث عن الفقراء هذه المرّة. فعلى سبيل المثال، لم يذكر شيئاً عن كيفية وجوب تقاضي العمّال أجورهم في الوقت المحدد؛ وقد أصبحت الاحتجاجات بشأن عدم دفع الرواتب شائعة في جميع أنحاء البلاد.
لقد كان خامنئي حكيماً في عدم التفاخر، لأن هذا العام كان قاسياً بالنسبة للإيرانيين. فأرقام “البنك المركزي الإيراني” تُظهر أن معدّل إنفاق العائلة في السنة الماليّة 2017/2018 كان أدنى بنسبة 10% ممّا كان عليه قبل عقدٍ من الزمن، مع أخذ التضخم في الاعتبار، واحتمال انخفاض هذا الرقم بحدة في السنة المالية 2018/2019. (وبعد شعورها بالحرج من بيانات “البنك المركزي”، جرّدته الحكومة من صلاحية إصدار أرقام التضخم). ويُعتبَر معدّل البطالة الرسمي الأخير، الذي بلغ 13.5%، الأعلى في خلال اثني عشر عاماً، وسيصبح أعلى بكثير إذا انضم المزيد من النساء إلى القوى العاملة. وفي الواقع، توجد نسبة أقل من النساء الإيرانيات في القوى العاملة مقارنة بالنساء السعوديات.
إن المشكلة، كما أوضح خامنئي في خطابه، تتجاوز العقوبات إلى حدٍ كبير. فعند ترشّحه للرئاسة في عام 2013، وعَدَ روحاني باستعادة الكفاءة بعد سنوات من ولاية محمود أحمدي نجاد. لكنّه عمل عكس ذلك تماماً، فكانت سوء إدارته للاقتصاد بحجم سوء إدارة أحمدي نجاد على الأقل. فعندما واجه أحمدي نجاد العقوبات، سمح بتعويم العملة، مما عزز الصادرات وقلص الواردات مع تحقيق الحد الأقصى من إيرادات الريال لكل دولار من صادرات النفط للميزانية الحكومية. إلا أن روحاني غيّر مسار الاقتصاد في محاولةٍ غير فعّالة للحفاظ على انخفاض أسعار المستهلك: فمَنَعَ تصدير العديد من السلع؛ وخصّص 15 مليار دولار لدعم الواردات، لا سيّما الأغذية (مما أجبر الإيرانيين على الانتظار لساعاتٍ في الصفوف على أمل الحصول على الطعام الرخيص)؛ وحدد سعر الصرف الرسمي بأقل من ثلث سعر الصرف الحر، مما أدّى إلى نتيجة متوقعة وهي ازدهار الفساد وتحقيق منفعة ضئيلة للمستهلكين. وفي خطابه – الذي أقر فيه بأنه “ليس عالم اقتصاد” – قال إن الضغوط الناجمة عن العقوبات ولّدت فرصةً لتنفيذ إصلاحات بنيوية. وتذمّر من التخلي عن هذه الإصلاحات مع تراجع الضغوط الغربية. وأشار إلى أنه قد قيل له منذ أربع سنوات إن تشريعاً يخص الإصلاح المصرفي على وشك أن يُرسَل إلى “المجلس” – لكنه لم يصل إلى هناك حتى الآن.
وكما اعتاد خامنئي أن يفعل دائماً اقترح عبارةً لوصف العام المقبل، تمحورت كالمعتاد حول الاقتصاد، بقوله: سيكون عام “زيادة الإنتاج”. وسيحتاج إلى حظٍ وفير لتحقيق ذلك. فمع الحد من الائتمان بسبب المشاكل المصرفية، وتقلّب سعر الصرف الذي يخلق حالة كبيرة من عدم اليقين بشأن سعر المدخلات والقطع، وقيام الميزانية الحكومية بتوجيه الموارد نحو الدعم الحكومي غير الفعّال بدلاً من الإنفاق الإنتاجي، وحظر الصادرات المفروض على العديد من المنتجات التي يمكن أن تبيعها إيران بسهولة في الخارج، يواجه الاقتصاد الإيراني جميع أنواع العقبات.
وأخيراً، بدا خامنئي متردداً على نحوٍ غير معهود على عدة جبهات. فعند لفظ كلماته الختامية الموجَّهة إلى الشباب المتديّن بصورة خاصة، بدا قلقاً من أن تكون رحلة قطار الثورة إلى وُجهتها النهائية – أي الحضارة الإسلامية – متأخرة كثيراً عن جدولها الزمني. وأشار ضمنياً إلى أن الشباب المتديّن بحاجة إلى التمتع بحرية تصرّف أكبر لاستئصال “نزعة التغريب” (غرب زدكي). لكن تجدر الإشارة إلى أن خامنئي بدا في أفضل حالاته الصحية وهو في التاسعة والسبعين من عمره، رغم بعض التقارير الأخيرة التي أشارت عكس ذلك. كما أنه ما زال خطيباً فصيحاً، وهو واقعٌ لا يتّضح في الترجمات الإنكليزية السيئة على موقعه الإلكتروني.
التداعيات على الغرب
يبدو أن حملة الضغط الأمريكية القصوى أقنعَتْ خامنئي بأن إيران لن تشهد تخفيفاً للعقوبات. فلم تكن آفاق الصورة التي رسمها مضيئةً – وفي الواقع، ليس هناك ما يدعو إلى الأمل على الإطلاق. وإذا كانت هذه هي حالة تفكيره – كان خطاب مدينة مشهد أفضل دليلٍ متوافر على وجهات نظره الحقيقية – فقد حققت إدارة ترامب نجاحاً كبيراً في إقناع خامنئي بأن الضغط سيستمر، وأن إيران لا يمكنها الاعتماد على استمرار صمودها العدائي تجاه الولايات المتحدة.
وابتداءً من الآن، لا يشير خامنئي إلى أي مرونة في الرد على هذه الضغوط – سواء في السياسة الخارجية أو داخل البلاد. لكنه لم يعُد ذلك الشخص الواثق الذي اعتاد في الماضي أن يفتخر بالنجاحات التي حققتها المقاومة. وبدلاً من ذلك، يعتبر أنه لا يمكن الوثوق بالدول الغربية، لذلك لا ينبغي لإيران أن تكلف نفسها عناء التعاطي معها.
معهد واشنطن