في 31 آذار/مارس ستجرى انتخابات محلية في جميع أنحاء تركيا، يختار فيها الناخبون رؤساء البلديات إلى جانب أعضاء مجالس المدن والمحافظات. ونظراً للتوافق الفريد في قضايا السياسة المحلية والخارجية، فقد تؤثر هذه الانتخابات على العلاقات الأمريكية-التركية وعلى خطوات أنقرة في الشرق الأوسط، مما يستدعي اهتماماً من واشنطن أكثر مما يتوقعه المرء.
تصويت “وجودي”
في ظل ظروف طبيعية، قد يكون للتصويت المحلي صلة ضئيلة بالقضايا الجيوسياسية، لكن الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم «حزب العدالة والتنمية» أعتمدا حملتهما الانتخبابية على برنامج ذو توجه أمني، مما يشير إلى أن “وجود” تركيا بحد ذاته يتوقف على النتيجة. وفي السياسة التركية، تعتبر كلمة “وجود/(“بقاء” باللغة التركية) رمزاً لمحاربة النزعة الانفصالية الكردية. وليس مفاجئاً إذاً أن يكون أردوغان قد اختار دولت بهتشلي – زعيم «حزب الحركة القومية» وخصماً قوياً في الانخراط مع الفصائل السياسية الكردية – حليفاً له في هذه الانتخابات. ومعاً، أطلق «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الحركة القومية» على نفسيهما اسم “تحالف الشعب”، ويخوضان المعركة ككتلة فعلية تقف وراء مرشحين توافقيين في العديد من الـ 81 محافظة و 992 دائرة انتخابية في تركيا.
ورداً على ذلك، شكل زعيما المعارضة الرئيسيان في تركيا – رئيس «حزب الشعب الجمهوري» كمال كليتشدار أوغلو ورئيسة «الحزب الجيد» (“إيي”) ميرال أكشنار – “التحالف القومي”. وبدوره، تَشَكّل «الحزب الجيد» بعد انشقاق بعض السياسيين عن «حزب الحركة القومية» للانضمام إلى أكشنار، محتشدين معها ومع بعض السياسيين من يمين الوسط. وحالياً، يطرح «حزب الشعب الجمهوري» و«الحزب الجيد» مرشحين توافقيين في العديد من دوائر المنافسة المحلية.
أما بالنسبة للفصيل الثالث الأكبر في البرلمان، «حزب الشعوب الديمقراطي» الذي يركز على حل المشاكل، فقد شجب أردوغان وبهتشلي أعضاء هذه الكتلة الكردية باعتبارهم “امتدادات إرهابية” واتهما هؤلاء الأعضاء بإقامة روابط مع «حزب العمال الكردستاني» المحظور. وحتى الآن، لم يسمِّ «حزب الشعوب الديمقراطي» مرشحيه في المدن الكبرى كإسطنبول وأنقرة وإزمير. وقد دفع هذا القرار بـ«حزب العدالة والتنمية» و«حزب الحركة القومية» إلى الادعاء بأن تحالف «حزب الشعب الجمهوري» و«الحزب الجيد» “يتعاون مع الإرهابيين” لأنه سيستفيد من غياب مرشحين معارضين آخرين في هذه المناطق.
ولبرنامج “الوجود” الذي أطلقه أردوغان تداعيات مباشرة على سياسة الولايات المتحدة في سوريا. فخلال حملتها ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، تعاونت واشنطن مع «وحدات حماية الشعب» – الجناح السوري الكردي لـ «حزب العمال الكردستاني» الذي يشكّل العمود الفقري لـ «قوات سوريا الديمقراطية». وقد أثارت هذه الشراكة استياء أنقرة، خاصةً في ضوء التقارير التي تفيد أن نحو 30 ألف عنصر من أفراد ميليشيا «وحدات حماية الشعب» تلقوا عتاداً من المعدات المعيارية لحلف “الناتو” وتدريباً عسكرياً أمريكياً. وفي الواقع، يشعر معظم الأتراك بالاستياء من التعاون بين الولايات المتحدة و«وحدات حماية الشعب»، باستثناء بعض الأفراد ضمن قاعدة «حزب الشعوب الديمقراطي». وينظر أردوغان إلى الانتخابات المحلية باعتبارها اختباراً لمدى تأييد الشعب للمقاربة التي ينتهجها إزاء هذه القضايا.
انتخابات حاسمة في اسطنبول وأنقرة
في عام 2018، ساهم الدعم الذي قدمه بهتشلي إلى أردوغان في فوزه مجدداً في الجولة الأولى من الانتخابات حيث حظي بتأييد 52 في المائة من المشاركين فيها. أما هذا العام، فيبدو أن هدف الرئيس التركي يتمثل باحتفاظ التحالف بين «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الحركة القومية» بهذه النسبة على الأقل على الصعيد الوطني. وإذا فشل في ذلك، فهو يأمل في الاحتفاظ بالسيطرة على مقاعد رؤساء البلديات التي فاز بها كل حزب في غالبية عواصم المحافظات التركية في عام 2014 (ثلاثة وخمسون من بين واحد وثمانين مقعداً لـ «حزب العدالة والتنمية» وستة لـ «حزب الحركة القومية»).
وقد يكون ذلك أكثر سهولة في بعض المدن من سواها. على سبيل المثال، طلب أردوغان من رئيس الوزراء السابق بن علي يلدرم التنحي من منصبه الحالي كرئيس للبرلمان بهدف الترشح لمنصب رئيس بلدية إسطنبول تحت راية التحالف بين «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الحركة القومية». وخلال ولايته السابقة كوزير للمواصلات، اكتسب يلدريم شهرة واسعة كباني الطرق السريعة والجسور وخطوط المترو. ويَنظر إليه العديد من سكان إسطنبول البالغ عددهم 15 مليوناً بعين الرضا، آملين أن يقوم بتحسين البنية التحتية للمدينة. وأظهرت بعض استطلاعات الرأي تقدمه على مرشح «حزب الشعب الجمهوري» و«الحزب الجيد» أكرم إمام أوغلو بنسبة تتراوح بين 3 و4 في المائة.
ومع ذلك، أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة احتمال خسارة معسكر أردوغان العاصمة أنقرة، ثاني أكبر مدينة البالغ عدد سكانها حوالي 5 ملايين نسمة. أما مرشح «حزب الشعب الجمهوري» و«الحزب الجيد» لهذه الانتخابات فهو منصور يافاش الذي خسر بنسبة 1 في المائة فقط في عام 2014 وسط ادعاءات بحصول تزوير في الانتخابات. لكن بعض التقارير تفيد بأنه يتقدم هذه المرة على مرشح «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الحركة القومية» محمد أوز حسكة بنسبة تتراوح بين 2 و3 في المائة. وقد تشكّل عملية الاقتراع في أنقرة السباق الأكثر أهمية الجدير بالمراقبة في 31 آذار/مارس، ويعزى ذلك جزئياً إلى أن الناخبين قد يعتبرون خسارة العاصمة نقطة تحول نفسية في مسيرة الرئيس التصاعدية. وكان اسم أردوغان قد أصبح مألوفاً للمرة الأولى عام 1994 عندما انتُخب رئيساً لبلدية إسطنبول، المنصب الذي كان بمثابة نقطة انطلاقه إلى منصبي رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية.
وبالنسبة إلى ثالث أكبر مدينة في تركيا، إزمير، فمن المرجح أن يحتفظ «حزب الشعب الجمهوري» بسيطرته هناك. ومع ذلك، هناك مدن كبيرة أخرى لها اعتبارها تشمل بورصة وأضنة وأنطاليا، مسقط رأس وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو. يُذكر أن تحالف «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الحركة القومية» متقدم على تحالف «حزب الشعب الجمهوري» و«الحزب الجيد» في كل من عواصم المحافظات الثلاث هذه، إنما بفارق ضئيل فقط.
أهداف المعارضة، التحديات المحلية
خشية تكرار السباق الذي شهدته أنقرة في عام 2014، كانت أحزاب المعارضة تعرب عن مخاوفها بشأن احتمال تزوير الانتخابات، لا سيما في مرحلة فرز الأصوات والإعلان عنها. ومع ذلك، أظهر عدد قليل من مرشحي «حزب الشعب الجمهوري» أو «الحزب الجيد» حتى الآن مؤشرات كبيرة على انتزاع أعداد كبيرة من الأصوات من تحالف «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الحركة القومية»، على الأقل من حيث برامجهم الانتخابية وأدائهم. ويتيح هذا الأمر مجالاً أمام فصائل أخرى لإحراز مكاسب – على سبيل المثال، قد يجذب «حزب السعادة»، وهي جماعة إسلامية سياسية محافظة، بعض ناخبي «حزب العدالة والتنمية»، في حين من المرجح أن يفوز «حزب الشعوب الديمقراطي» بمدن رئيسية في جنوب شرق البلاد الني تقطنها أغلبية كردية، بما فيها ديار بكر.
وحتى لو نجح أردوغان وبهتشلي في الاحتفاظ بالمدن الرئيسية في 31 آذار/مارس، إلّا أنّ بانتظارهما أيام صعبة. فقد دخل الاقتصاد التركي رسمياً مرحلة ركود هذا الشهر، مما يعني أنه لم يسجل نمواً خلال ربعين متتاليين. وهذا تطور مؤلم بشكل خاص بالنظر إلى النمو الاقتصادي المفاجئ الذي حطم أرقاماً قياسية وأشرف عليه أردوغان منذ أن أصبح رئيساً للوزراء في عام 2003 (بصرف النظر عن الفوضى المؤقتة في عام 2008). علاوةً على ذلك، بلغ معدل التضخم 25 في المائة خلال تشرين الأول/أكتوبر الماضي، مسجلاً أعلى مستوى له منذ 15 عاماً. ولوقف هذا الاتجاه السائد، لجأ أردوغان إلى أساليب غير تقليدية، شملت كبح الأسعار. غير أن التوتر الثنائي المستمر بشأن قرار تركيا شراء أنظمة الدفاع الجوي الصاروخية الروسية من طراز “أس-400” قد أثار مخاوف من احتمال فرض واشنطن عقوبات اقتصادية وعسكرية على أنقرة. ومن شأن مثل هذا التطور أن يفاقم الأزمة الاقتصادية – كما حصل في 2018 عندما فرض الرئيس ترامب تعريفات على الحكومة التركية بسبب احتجازها القس الأمريكي أندرو برونسون، مما ساهم في انهيار الليرة.
التداعيات على السياسة الأمريكية
قد يعني استمرار تحالف أردوغان- بهتشلي اتباع المزيد من السياسات المتشددة في أنقرة، تشمل اتخاذ موقف أكثر صرامة ضد الشراكة بين الولايات المتحدة و«وحدات حماية الشعب» في سوريا وفرض إجراءات أمنية محلية أكثر تشدداً يبررها الكفاح لمحاربة الإرهاب ضد «حزب العمال الكردستاني». ومن شأن تحقيق «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الحركة القومية» انتصارات واسعة النطاق أن يعزز أيضاً مقاربة “إقامة علاقات مع دول أوراسيا” ضمن «حزب العدالة والتنمية» – أي السعي إلى توطيد العلاقات مع روسيا والصين وإيران من دون الخروج فعلياً من حلف “الناتو”، وسط توقعات بأن يوافق جميع هؤلاء الخصوم على علاقات تركيا غير التمييزية.
وفي المقابل، إذا ما سجَّل تحالف «حزب العدالة والتنمية» و«حزب الحركة القومية» أداءً ضعيفاً في الانتخابات المحلية، فقد يتخلى أردوغان عن بهتشلي بالكامل. وخلال السنوات القليلة الماضية، كان لـ «حزب الحركة القومية» دوراً مهماً في الشؤون الحكومية كما لو أنه كان شريكاً رسمياً في التحالف، ولكن دون المشاركة في تحمل أي مسؤولية عن المشاكل التي واجهتها الحكومة كما يفعل مثل هؤلاء الشركاء عادةً. وإذا قام أردوغان بتفكيك [الشراكة مع] «حزب الحركة القومية» وقاعدته القومية القوية المناهضة للأكراد، فقد يجرب تحالفات سياسية مختلفة في السنوات المقبلة. على سبيل المثال، قد يعتمد – على المدى المتوسط – موقفاً أكثر ليبرالية فيما يتعلق بالقومية الكردية في تركيا والمنطقة.
وفي هذا الصدد، سيكون الوقت بجانبه بعد 31 آذار/مارس. لقد شهدت تركيا 7 اقتراعات وطنية، ومحاولة انقلاب كارثية (2016) منذ عام 2014، ولكن ليس من المقرر إجراء الانتخابات الرئيسية التالية قبل عام 2023. لكن بغض النظر عن حسن أداء «حزب العدالة والتنمية»، ستؤدي الانتخابات الحالية إلى حدوث تغييرات في سياسة تركيا الداخلية والخارجية.
معهد واشنطن