لم تمرّ الاحتجاجات الجماهيرية التي شهدتها شوارع المدن الجزائرية، منذ نهاية فبراير/ شباط الماضي مرور الكرام في العاصمة الروسية موسكو. هناك عدة أسباب تدفع إلى هذا الاعتقاد. الأول هو تفوق الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، على نظيره الروسي فلاديمير بوتين، إلى حد ما، من ناحية “التقدّم الوظيفي”، فالفترة الرئاسية المقبلة كانت ستكون الخامسة لو نجحت، في حين أن نظيره الروسي يسعى جهده للحصول على فترة رابعة. السبب الثاني تحوّل كل من بوتفليقة وبوتين، منذ فترة طويلة إلى رهائن للبيئة السياسية المحلية، إذ إن التجديد لفترة رئاسية تالية، أو الخروج من الانتخابات الرئاسية، مسألة تحددها النخب السياسية المحيطة بكل منهما. والسبب الثالث والأخير، أن المعارضين الحاليين لبقاء الرئيس الجزائري في الحكم إلى أجل مفتوح هم من فئة الطلاب، وفي روسيا بدأت السلطات في السنوات الأخيرة، تواجه صعوبات متزايدة مع الفئة ذاتها، التي تؤيد أليكسي نافالني. وبعبارة أخرى، فإن أوجه الشبه الاستفزازية بين الحالتين تطرح نفسها، فلنتأمل هذه الأوجه بشيء من التفصيل.
تتحوّل “قصة بوتفليقة” إلى حالة مفيدة جداً ستتم دراستها، على عدة مستويات، في روسيا”
الحداثة والتهدئة
ألقى الرئيس الجزائري السابق، اليامين زروال، في سبتمبر/ أيلول من عام 1998، وكان قد انتخب قبل ثلاث سنوات حينها، خطاباً أمام الأمة، أعلن فيه إجراء انتخابات رئاسية مبكرة ورفضه المشاركة فيها. بعد ستة أشهر، تم انتخاب عبد العزيز بوتفليقة المرشح المستقل حينها، رئيساً جديداً بنسبة من الأصوات بلغت 73.8٪. في الفترة نفسها تقريباً كان بوريس يلتسين، وهو أول رئيس لروسيا، يستعدّ للاستقالة، واختيار وريث مناسب للسلطة، بعدما سئم من أداء واجباته الرئاسية التي أصبحت مهمة شبه مستحيلة له. تم اختيار فلاديمير بوتين الذي كان يترأس الحكومة الروسية منذ ربيع عام 1999، وبذلك تم تحديد اسم الرئيس المستقبلي لروسيا. في مارس/ آذار من عام 2000، أصبح هذا الوريث الرئيس الفعلي للبلاد، إذ حصل على نسبة 52.9٪ من الأصوات في الجولة الأولى، وهي نسبةٌ لا بأس بها لشخصٍ غير معروف يخوض الانتخابات للمرة الأولى.
هناك ظرفان متشابهان يفسّران النجاح المبهر الذي حققه كل من الرجلين، فكلاهما لم يكن يتمتع بأي شهرة سياسية قبل الانتخابات، لكنهما تمكنا من استغلال الرغبة الشعبية بالتهدئة و”التطبيع”، وكانت مهمة جداً حينها في كل من الجزائر وروسيا. بعد وفاة الرئيس هواري بومدين عام 1978، ابتعد بوتفليقة الذي كان من أنصار الرئيس الراحل عن النشاط السياسي، كما امتنع أيضاً عن انتقاد نظام الشاذلي بن جديد الحاكم في الجزائر، ومن المشاركة في أي نشاط معارض، وعاش في المهجر خلال الثمانينيات. بقي في الظل، حتى بعد عودته إلى الوطن في أواخر الثمانينيات. وبهذا لم يكن قد شارك في عمليات القمع ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأحداث بدايات عام 1992، حين أُسس المجلس الأعلى للدولة، بالالتفاف على الدستور في الجزائر، فالرجل إذاً كان غائباً عن المشهد السياسي في البلاد أكثر من عشرين عاماً.
وكما هو الحال بالنسبة لبوتفليقة، كانت السيرة السياسية لبوتين لا تشوبها شائبة، لأنه لم يكن له أي تاريخ سياسي، فهو “الرجل الذي ظهر فجأة”. التحق بوتين، بعد عودته من ألمانيا الديمقراطية، بمكتب عمدة سان بطرسبرغ، ولم يكن قد شغل مسبقاً أي منصب مرتبط “بأحداث الشغب” في فترة التسعينيات، ولا بالفضائح والأهوال والانتهاكات التي ارتكبت حينها. كما أنه، بحكم رئاسته الجهاز الحكومي سابقاً، نال رضا جمهورية الشيشان، ما شجع ناخبيه المستقبليين الذين كان قد أصابهم التوتر خلال فترة التسعينيات، بسبب عجز القادة في “روسيا الجديدة” في هذا الشأن (شامل باساييف تكلم بصوت أعلى). وهكذا انضم كل من بوتفليقة وبوتين إلى السلطة العليا من دون المساس بالحمولة السياسية، أو الارتباط بإخماد الاضطرابات المدنية واستعادة الأمن.
يعود نجاح بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية عام 1999، بنسبة كبيرة، إلى طبيعته التي تميل إلى الترضية والوسطية، فصورة الرجل “الدبلوماسي البراغماتي” التي أسّسها لنفسه كانت مطلوبة حينها، على حد سواءٍ، من الشعب الجزائري الذي أنهكته الحرب الأهلية، ومن النخبة السياسية التي كانت قد بدأت الاعتياد على التعايش مع خصومها السياسية. وبذلك اعتبر بوتفليقة “الأداة الذهبية”، والرجل القادر على تعزيز الوحدة الهشّة بين الإسلاميين العسكريين
“التشابه العام في الآليات المتبعة للحفاظ على “الاستقرار” يفضي إلى تشابه في المشكلات الناجمة عن ذلك” والإسلاميين المعتدلين. وفي بداية الأمر، ظهر بوتين بمظهر الرجل الموهوب بتحقيق التسويات. ولذلك، بدأ الأشخاص الذين انتبهوا إلى موهبته، وساهموا بترقيته، الإعدادات لمنحه الكرسيّ السياسي الرئيسي في البلاد. ومع وجود عدة ظروف أخرى، كان مفروضاً على بوتين، في بداية الأمر، على الأقل تحقيق الاعتدال والتوازن.
هل بوتفليقة مقترن بالجزائر؟
تطور النضج السياسي للرجلين على النسق نفسه مع وجود عدة فروق. يُعزى تحول بوتفليقة إلى أحد المعمّرين السياسيين في المنطقة، بشكل أساسي، إلى قدرته المتميزة على تحقيق التوازن بين مصالح العشائر السياسية الرئيسية في البلاد، فالنظام السياسي الجزائري لم يكن متماسكاً خلال سنوات نظام الحزب الواحد. وتعدّ الأحداث بين أواخر عام 1978 وبداية عام 1979 مثالاً على ذلك، حين انقسم حزب التحرير الوطني إلى معسكرين، كان أحدهما مؤيداً لتحرير الحياة الاجتماعية والسياسية (كان وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة من ضمنهم)، بينما كان المعسكر الآخر تابعاً لتوطيد المسار الاشتراكي، بقيادة الشاذلي بن جديد. كما ساهمت بدايات “عصر التعدّدية” في الجزائر في نهاية الثمانينيات، في الوقت الذي أصبحت الاشتراكية فيه حينها نظاماً بالياً، في جعل النخبة السياسية في الجزائر أكثر تشرذماً.
وعلى العكس من بوتفليقة الذي كان مضطراً بشكل دائم إلى التدبر بحكمةٍ، ضمن المساحة السياسية الموكلة إليه، لم يكن بوتين ليتحمّل ذلك، فبحلول عام 2008 نجح، خلال فترة الولايتين الرئاسيتين، في تحقيق التوحيد، وتحويل الرئاسة إلى ما يشبه الشمس التي تدور حولها جميع الكواكب الأخرى للنظام السياسي الروسي. إلا أن ذلك لم ينقذه من المشكلات ذاتها، التي كان على الزعيم الجزائري إيجاد حلول لها، بمعنى أن الغرض من وجود حزب مهيمن هو الفوز في أي انتخابات، ما لا يعني عدم وجود عشائر وجماعات مستقلة ضمن النخبة الحاكمة في روسيا.
كان كل منهما؛ بوتفليقة وبوتين، يريد شيئاً معيناً، وله شهواته الخاصة، ويصرّ على اهتماماته الخاصة، وبما أنه لا يوجد نظام حزب عادي في البلاد، فإن دور الرئيس هو تحقيق الإيقاع المتوازن بين جميع هذه الأنغام. أما وراء الكواليس، فقد أصبح سيد الكرملين على مدى عقدين رجلاً لا غنى عنه بالنسبة للجميع، وخصوصاً بعد نجاحه في موازنة عناصر “السلطة” و”المدنية” بين النخب نفسها، وتأجيل خروجه من الساحة السياسية، متجاوزاً بذلك جميع الحدود المقبولة سياسياً. وبعبارة أخرى، على حد تعبير أحد أفراد حاشيته، “بدون بوتين ليس هناك روسيا”. وحتى لو أراد بوتين أن يغادر اليوم أو غداً، فلن يكون هذا مسموحاً له. ولذلك، يبدو في الواقع أن هناك سلسلة لا نهاية لها من الانتخابات المتكرّرة والدورات الرئاسية المتتالية من دون نهاية واضحة، ففي نهاية الأمر لا أحد يستشير “العبد في السفينة”، عما إذا كان يريد التجذيف أم لا.
“على المدى البعيد، جعلت سياسة “تجميد” الأرصدة الحالية كلاً من بوتفليقة وبوتين رهينة للبيئة السياسية المحلية”
ولا شك في أن بوتفليقة هو المرشح الأنسب، ليس للاعبين الأساسيين فحسب، بل هو الضامن الأساسي لمصالح جميع فصائل النخب. ولا يقتصر ذلك على التحولات والمنعطفات الأخيرة التي تم خلالها ترشيح الرئيس لولاية خامسة، وهو على كرسيّ متحرك، بل يشمل أيضاً الأحداث السابقة بين عامي 2009 و2014. فعشية الانتخابات الرئاسية لعام 2009، تم تعديل الدستور الجزائري، بحيث ألغي القيد المحدد لعدد المرات المتاحة للترشح للانتخابات الرئاسية. وبذلك فتح بوتفليقة الفرصة لنفسه للترشح للمرة الثالثة. وفي عام 2014، لم تتمكّن حاشية الرئيس الجزائري من إيجاد شخص بديل له، قادر على إرضاء جميع معسكرات النخبة. وهكذا تمكّن الرئيس المخضرم الذي كان قد أصيب بجلطة دماغية في عام 2013 من تسلم السلطة للمرة الرابعة، فهل يكون ذلك مصير بوتين الذي لن يُحسد عليه؟ الإجابة المتواضعة أنه في حين لا توجد مؤشرات بذلك، هذا الطريق مسدود أمامه.
التشابه العام في الآليات المتبعة للحفاظ على “الاستقرار” يفضي إلى تشابه في المشكلات الناجمة عن ذلك، فعلى المدى القصير، ساعدت السياسة التي اتبعها كل من بوتفليقة وبوتين بتهدئة المجتمع من آثار الاضطرابات الأهلية، وبالتغلب على عواقب الأزمة المالية والاقتصادية الكبيرة التي حصلت في عام 1998. وقد تميزت سنوات الألفية بالنسبة لكل من البلدين بتحقيق أرباح هائلة من بيع شركات الطاقة، وانخفاض الدين الخارجي، وزيادة احتياطي الذهب والعملات الأجنبية، ففي منتصف الألفية تجاوز نموّ الناتج المحلي الإجمالي في الجزائر بنسبة 7٪، بينما وصلت هذه النسبة في روسيا إلى 8.5٪. ولكن على المدى البعيد، جعلت سياسة “تجميد” الأرصدة الحالية كلاً من بوتفليقة وبوتين رهينة للبيئة السياسية المحلية. كما أن اختزال جميع المخاوف الإدارية إلى مجرد التقسيم “الصحيح” لعوائد النفط والغاز، معناه غياب خطط مستقبلية واسعة النطاق، الأمر الذي سيؤدي إلى الركود حتماً.
مرة أخرى
افتقار الدولة إلى خطط طويلة الأمد لا بد أن يثير غضب الفئات السكانية من ذوي التطلعات المستقبلية، إن جاز التعبير، أي فئة الشباب بعبارة أخرى. فقد رفع الطلاب الشباب خلال الاحتجاجات الجزائرية الأخيرة مطالباتهم السابقة إلى المدعو لفترة ولاية رئاسية خامسة، وهي مطالباتٌ معروفة جيداً لحركة الاحتجاجات الشبابية في روسيا، ففئات الشباب لا تستوعب الأسباب التي تدفع الطبقة السياسية إلى فرض رؤساء مضى الزمن وولى على جميع استحقاقاتهم. وكما أن الشباب الروسي لا يعرف الكثير عن أمجاد “بوتين الأول” خلال الحرب الشيشانية الثانية (حرب النصر)، لا يتذكّر الشباب الجزائري أيضاً أهوال الحرب الدموية وقمع الإسلاميين، فبالنسبة للشباب هذه قصص قديمة، مضى عليها زمن طويل. وربما ليس لدى
“في عام 2014، لم تتمكّن حاشية الرئيس الجزائري من إيجاد شخص بديل له، قادر على إرضاء جميع معسكرات النخبة” الشباب أي شك بأن رؤساء بلادهم كانوا يوماً مفعمين بالحيوية والنشاط، إلا أن ما يريده التلاميذ والطلاب من السوق السياسي أن يوفر لهم المستقبل وليس الماضي. لقد أصبحت الأمور أكثر صعوبة بالنسبة للشباب، الجزائري والروسي، كما تعبر إحدى الأغاني الشعبية التي تقول “لماذا اليوم هو أمس بدلاً من يكون غداً”. وعلاوة على ذلك، من شأن تكريس الرئاسة الدائمة في عالم قائم على التغيير بشكل حيوي ومستمر أن يؤدي إلى الرفض أيضاً، فالرئاسة لدورة خامسة في عصر بيتكوين والإنترنت والطائرات بدون طيار عملية بالية، ولا تختلف عن الدورة الرئاسية الرابعة وسابقاتها. تُفرض النماذج الملكية على الأنظمة الاجتماعية التي تريد المحافظة على الترتيب التقليدي للأشياء والإبقاء على الوضع الراهن، وهي نماذجُ تحبذها فئةٌ معينةٌ من الطبقة السياسية، خصوصاً في الأنظمة الاستبدادية، لكن بقية فئات المجتمع لا تحبذ هذه النماذج اليوم، سواء كان هذا في روسيا أو في الجزائر.
وهكذا، تتحوّل “قصة بوتفليقة” إلى حالة مفيدة جداً ستتم دراستها، على عدة مستويات، في روسيا. ومن الصعب التكهن إن كانت النتائج المستخلصة من الدراسة سيكون لها أثر جيد أم لا، ولكن من المؤكد أن على جميع الأطراف المهتمة، بغض النظر عن موقفها من شخصية الرئيس الحالي للجزائر، استخلاص عبرة واحدة، هي أن الساحر الذي برع بخداعه أربع مرات متتالية لن يحالفه الحظ بالضرورة في المرة الخامسة.
العربي الجديد