توافقت نتائج الانتخابات المحلية التي أجريت في تركيا الأحد الماضي، بشكل عام، مع استطلاعات الرأي، كما مع التطورات والمتغيرات في البلد في العامين الأخيرين، حيث تراجع حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، على الرغم من الثقة الراسخة بالرئيس أردوغان، فيما دفعت الأزمة الاقتصادية الناخبين إلى توجيه رسالة إليه، وإلى حزبه، علماً أن الرسالة الأقوى كانت في إسطنبول التي تعادلت فيها النتائج، مع تفوق طفيف جداً لمرشح المعارضة، مع احتمال تأخير النتائج الرسمية إلى حين إجراء الفرز مرة أخرى.
كانت الاستطلاعات قد تحدثت عن تقدم طفيف للحزب الحاكم، أو بالأحرى للتحالف الحاكم، في إسطنبول، وتفوق المعارضة في أنقرة، مع احتفاظها بسيطرتها الممتدة على مدينة إزمير، كما أشارت، بشكل عام، إلى تراجع في شعبية وسيطرة حزب العدالة والتنمية البلديتين بشكل عام.
فازت المعارضة فعلاً بفارق مريح في أنقرة، ومريح جداً، كما العادة، في إزمير، إلا أن المفاجأة وقعت في إسطنبول مع التفوق الطفيف للمعارضة، كما في أنطاليا التي انتزعتها المعارضة بفارق مريح. ولكن بالنظر إلى الخريطة العامة في تركيا، ما زال حزب العدالة والتنمية هو الأكبر وبفارق كبير أيضاً، حيث يسيطر على 16 بلدية من الـ30 الكبرى، وعلى البلديات في 40 ولاية من أصل 81، كما يدير 56% من البلديات في عموم البلاد، علماً أنه حقق نتيجة لافتة بانتزاع بلديتين كبيرتين في مناطق الجنوب الشرقي ذات الغالبية الكردية، شرناق وأغرى، في مقابل تراجع لافت وكبير لحزب الشعوب (الكردي) الذي فقد الغالبية في معاقله الشرقية الجنوبية، على الرغم من أن أصواته ربما كانت حاسمة بفوز المعارضة في إسطنبول وأنقرة تحديداً.
في نتائج البلديات الكبرى، خصوصا في إسطنبول وأنقرة، بدا لافتاً أن حزب العدالة والتنمية
“أسباب التراجع والتصويت السياسي متعلقة بميل الناس إلى التغيير والأزمة الاقتصادية” يسيطر على غالبية البلديات والمناطق الفرعية، ففي إسطنبول مثلا، يسيطر على 24 من أصل 39 و22 من أصل 25 في أنقرة، ما يعنى أن له الغالبية في المجالس البلدية الكبرى للمدينتين. هنا كأن الناخب أراد توجيه رسالة مزدوجة، وهي الاحتفاظ بخدمات الحزب في مناطقه، مع تصويت بدا عقابيا سياسيا أكثر لرئاستي البلديتين في المدينتين.
وفي القراءة السياسية، لا يمكن إنكار أن حزب العدالة والتنمية ما زال الحزب الأكبر منفرداً، فقد حاز تقريباً النسبة نفسها التي حازها في الانتخابات البلدية السابقة، كما أن له الأغلبية العامة عبر تحالف الشعب 51.6%، إلا أن ثمة تراجعا واضحا في سيطرته على البلديات الحضرية الكبرى، بدليل هزيمة أو حتى تعادل شخص بقيمة بن علي يلدريم وتاريخه، وهو التوأم التنموي للرئيس أردوغان في إسطنبول وعموم البلاد.
ثمّة أمر لافت جداً، أن النسبة التي حققها التحالف في إسطنبول وأنقرة لا تترجم قوته الانتخابية في عموم البلاد التي تتجاوز51%، ما يعني أن الكتلة التصويتية له لم تنتخب لصالح مرشح التحالف في المدينتين، حتى مع الشريحة الكردية المعتبرة، المحسوبة على حزب الشعوب التي صوتت لصالح مرشحي المعارضة، لكنها ما كانت قادرةً على تأمين الفوز لهما.
أسباب التراجع والتصويت السياسي متعلقة بميل الناس إلى التغيير والأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلد، على الرغم من المحاولات الجدية لحلها حتى الاستفادة منها (لرفع الصادرات مثلاً)، إلا أن السبب الأهم يكمن داخل حزب العدالة والتنمية نفسه، حيث تم إخراج جيل المؤسسين، عبد الله غول وبولنت أرينتش ومحمد علي شاهين، من الرعيل الأول، وكذلك أحمد داود أوغلو وعلي باجان ومحمد شيمشك؛ ثم كان تغيير لرؤساء بلديات في إسطنبول وأنقرة قبل عامين، استعداداً للاستحقاقات الانتخابية، خصوصا المحلية منها، وأعتقد أن ثمّة فشلا في عملية بناء جيل جديد من القادة، واضح أنها لم تنجح، ولم تمتلك الخبرات والقدرات اللازمة، بدليل النتائج، وبدليل الاستعانة بيلدريم نفسه في إسطنبول، وترشيح رئيس بلدية قيصري السابق والناجح في مدينته لرئاسة بلدية أنقرة، من دون سابق معرفة بالمدينة ومشكلاتها وأزماتها وتحدياتها.
حقق حزب الشعب الجمهورى الذي احتفظ ببلدياته التقليدية في الغرب إنجازاته في الوسط
“لا يمكن إنكار أن حزب العدالة والتنمية ما زال الحزب الأكبر منفرداً” أيضاً، بفضل تحالفه مع الحزب الجيد، المنشق عن الحزب القومي، وتحالف غير معلن مع حزب الشعوب في أنقرة وإسطنبول، هو حاز 30% مقابل 28.5% في الانتخابات السابقة، واستفاد جيداً من تحالفاته وتذمر الناس، لكنه بات أمام امتحان صعب جداً للمضي في مشاريع التطوير والنهوض والتنمية التي وضع أسسها وقواعدها حزب العدالة والتنمية، وسيكون تحت مجهر الناس طوال الوقت، تمهيداً للحكم عليه بعد خمس سنوات.
حزب الحركة القومية الذي يملك أصلاً كتلة قومية يمينية تصويتية، تتراوح حول الـ15% (انتخابات 2014 البلدية) يبدو أنها توزعت، هذه المرة، مناصفة بين الحزب الأم وحزب الجيد المنشق، ويبدو أن أصوات الأخير كانت مؤثرةً في أنقرة وإسطنبول لصالح المعارضة، بينما نجح الحزب الأم في انتزاع بلدية كبرى من أصل 30 وهو متحالف مع العدالة في 16 أخرى، بينما لم ينجح المنشقون في نيل أي بلديةٍ كبرى، لكنهم متحالفون مع المعارضة في السيطرة على عشر بلديات.
ربما يكون الخاسر الأكبر حزب الشعوب الكردي الذي فقد بلديتين كبيرتين لصالح “العدالة والتنمية”، وتراجعت شعبيته في معاقله في مناطق الجنوب الشرقي أيضاً، حيث حاز أربعة ونصفاً بالمائة، علماً أنه لم يُنزل مرشحين عنه فى إسطنبول وأنقرة، مكتفياً بدعم مرشحي المعارضة. والأكيد أن شعبيته انخفضت، وهي كانت تتراوح في حدود الـ8%، ولم يعد يمتلك الحق الحصري في تمثيل الأكراد، لا شك أنه يدفع ثمن تماهيه مع سياسات جبال قنديل المتطرّفة، كما مع المشاريع الانفصالية في سورية.
حملت الانتخابات المحلية في تركيا دلالات سياسية، وتقدّم المعطيات السابقة بالتأكيد فكرة عنها، ولن تكون لها تداعيات وهزات سياسية مباشرة فورية على المشهد العام فى البلد. بمعنى أنه لن تتم الدعوة إلى انتخابات مبكرة، لا رئاسية ولا برلمانية، وبالتالي لا تأثير للمحليات على
“تراجع لافت وكبير لحزب الشعوب (الكردي) الذي فقد الغالبية في معاقله الشرقية الجنوبية” روزنامة الاستحقاقات الانتخابية، حيث الحزمة الرئاسية البرلمانية المزدوجة في موعدها عام 2023 والبلدية في 2024، لكن الأحزاب ستكون ملزمة، وتملك أصلا المدى الزمني اللازم لقراءة الدلالات السياسية، والتعبيرعنها تنظيمياً، لإعادة ترتيب صفوفها.
في الانتخابات البلدية قبل الأخيرة التي جرت على وقع اعتقالات ديسمبر/ كانون الأول 2013، أو الانقلاب القضائي لجماعة فتح الله غولن، حسب توصيف الحزب الحاكم، استعدت المعارضة للدعوة إلى انتخابات مبكرة عبر النظام البرلماني، في حال هزيمة “العدالة والتنمية” أو تراجعه، ورئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان. هذا لم يحدث آنذاك مع انتصار أردوغان شخصياً سياسياً وحزبياً، ولن يحدث الآن. لأسبابٍ تتعلق بالتحول إلى النظام الرئاسي، كما مواصلة تمتع حزب العدالة والتنمية بالغالبية حزبياً ووطنياً على مستوى تحالفاته. وعموماً، الانتخابات المحلية الأخيرة وتصويتها الجهوي البلدي، وحتى السياسي، مجرد محطة، خطوة باتجاه الاستعداد للاستحقاقات الانتخابية الحاسمة، بعد أربع سنوات.
العربي الجديد