شكلت نتائج الانتخابات البلدية في تركيا مفاجأة للداخل والخارج معا. ومرد ذلك خسارة حزب العدالة والتنمية العاصمتين السياسية والاقتصادية، أنقرة وإسطنبول، في وقت احتفظ بالصدارة على المستوى العام للبلد. وأول من تلقى صدمة المفاجأة هو الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بوصفه قائد الحزب، وراسم المسار العام لجملة الاستحقاقات التي عرفتها تركيا في الأعوام الأخيرة، وفي مقدمتها الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي في العام الماضي. ومن دون شك، كان الرئيس التركي يدرك صعوبة المعركة الانتخابية البلدية، وخصوصا في مدينة إسطنبول، ولذلك دفع بمرشح من العيار الثقيل، هو رئيس الوزراء السابق، بن علي يلدريم، صاحب التجربة الطويلة في ريادة الأعمال والحكم.
حصة أردوغان من الخسارة كبيرة، بوصفه المايسترو الذي قاد الأوركسترا الانتخابية من جهة، ومن جهةٍ ثانية، لأنه بات يمسك كل الأوراق في السنوات الأخيرة، ما دفع شخصيات قيادية عدة إلى مغادرة المركب، مثل الرئيس السابق عبدالله غل ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو ووزير الاقتصاد الأسبق علي بابا جان. لهذه الشخصيات رصيدها داخل الحزب وخارجه، وهم يعملون، منذ حين، على إطلاق تيار سياسي جديد، غير بعيد عن منهج حزب العدالة والتنمية، ولذا فإنه سوف يأكل من رصيده، ويصبح من بين منافسيه الرئيسيين.
اللافت هو الاحتفال الإعلامي بخسارة “العدالة والتنمية” مدينتي إسطنبول وأنقرة، وظهر ذلك بمثابة عيد لدى وسائل إعلام عربية ودولية، وكان الملاحظ أن هناك إجماعا على نسب الهزيمة الانتخابية إلى أردوغان وحده، واعتبارها “نكسة انتخابية” ستكون لها تداعيات سياسية لاحقة، تتعلق بمشروعه ومستقبله السياسي. وعلى الرغم من شخصنة العملية، والتركيز على الرئيس التركي، فإن المغزى الفعلي هو استهداف المشروع التركي بما يمثله، ومن ذلك الديمقراطية التركية التي عزّزت الانتخابات البلدية من رصيدها، وعكست عنها صورة إيجابية على مستوى العالم الذي لاحظ، عن كثب، كيفية سير العملية الانتخابية في أجواء من الهدوء والشفافية، وبعيدا عن تسخير آلة الدولة من قبل الحزب الحاكم الذي كان ضحية دعايةٍ انتخابيةٍ كاذبة، اتهمته بأن يجنّس اللاجئين السوريين بعشرات الآلاف، للاستفادة من أصواتهم في الانتخابات، وتبين، في نهاية المطاف، أن عدد السوريين المجنسين منذ بداية اللجوء السوري إلى تركيا في الأعوام الأخيرة لا يتجاوز مائة ألف.
يمكن للمستفيدين من خسارة أردوغان أن يشمتوا به، ولكن هذا النوع من ردود الفعل يبقى في إطار التنفيس والمكايدة، ولا يؤثر في السياق العام لمجرى الأحداث والتطورات في تركيا. وتشهد هذه الدورة الانتخابية، وما رافقها، على أن تركيا تجاوزت مرحلة الخوف على المسار الديمقراطي. وكان إعلان أردوغان أن حزبه يعترف بنتائج الانتخابات أكبر دليل على أن الديمقراطية التركية بلغت سن النضج، الأمر الذي أثار ارتياحا، ولقي استقبالا جيدا في الشارع التركي والأوساط الديمقراطية في العالم، وهذا أمر يحسب لتركيا قبل كل شيء، ويوجه رسالة قوية إلى المراهنين على عودة الديمقراطية التركية إلى الوراء.
ومن أطرف الطرائف أن الشامتين بأردوغان هم من أعداء الديمقراطية وأنصار الثورة المضادة، من أمثال النظام السوري والإمارات والسعودية التي لم تجر أي انتخابات في تاريخها، ولا تعترف حتى بالانتخابات. وتواجه تركيا حملاتٍ مضادة من أوساط لوبيات غربية في أوروبا تلقى مساندة من بعض الأحزاب الأوروبية الحاكمة، ويترجم ذلك من خلال الصد الكبير لتركيا من الاتحاد الأوروبي، فبعد أن قطعت شوطا كبيرا على طريق العضوية في الاتحاد، تراجع حظها في دخول النادي الأوروبي.
ومهما يكن من أمر، تبقى الديمقرطية مكسبا كبيرا لا يقدّر بثمن، لأنها المدخل الوحيد إلى الاستقرار والازدهار وعنوان الحرية.
العربي الجديد