العراق: العودة إلى الفيدرالية

العراق: العودة إلى الفيدرالية

بعد فشل محاولة محافظة البصرة تشكيل اقليم في العام 2009، بسبب عدم الحصول على نسبة 10٪ من مجموع أصوات الناخبين المؤهلين للذهاب إلى الاستفتاء على تشكيل الإقليم (تنص المادة 119 من الدستور العراقي على انه يحق لكل محافظة أو أكثر، تكوين إقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه، عبر طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم). وبعد تعطيل غير دستوري وغير قانوني لثلاث محاولات من مجالس المحافظات في ديالى وصلاح الدين ونينوى بين عامي 2010 و2011 لتشكيل أقاليم في هذه المحافظات الثلاث (تنص المادة 119 من الدستور العراقي على انه يحق لكل محافظة أو أكثر، تكوين إقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه، عبر طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين إقليم). تعود البصرة في محاولة ثانية لها، وفي محاولة رابعة على مستوى العراق، عبر مجلس محافظتها هذه المرة، لتطالب بمتابعة تنفيذ تشكيل إقليم البصرة الذي يقدم به مجلس المحافظة في العام 2018.
لسنا بصدد استعراض المفاهيم والأطر القانونية، واشتراطات الجغرافيا السياسية، وعلاقات القوى القائمة في العراق اليوم وتأثيرها على تشكيل الأقاليم، ولكننا ما زلنا نجادل بأن الغالبية العظمى من دعاة الأقاليم ينطلقون في تصوراتهم للفدرالية من نموذج اقليم كردستان، وليس من التصور المفاهيمي والقانوني للفدرالية. وبأن هذا النموذج الخادع غير قابل للنقل والاقتباس بأي حال من الاحوال.
هذا فضلا عن أن الإطار القانوني للفيدرالية في العراق كما أقرها دستور 2005 لا يجعلها تشبه أية تجربة فيدرالية في العالم اجمع، وهي تتجاوز الفيدرالية الى حدود الكونفدرالية، بل وتتجاوزها في بعض الاحيان، وهو ما سبق لنا أن ناقشناه في مقالة سابقة في صحيفة «القدس العربي» تحت عنوان «أزمة النموذج الفيدرالي في العراق».
ومن ثم فإن المحاولة الدعائية للتمثيل بنماذج الفيدرالية المعروفة في ما يقرب من 25 دولة في العالم تبدو محاولة تبسيطية لتسويق نموذج فريد تماما.
السؤال الجوهري الذي يغفله الجميع هنا هو: هل يمكن فعلا الحديث عن إمكانية إضعاف المركز في ظل هكذا دولة؟ إذ ثمة تعارض مفاهيمي بين فكرة الفيدرالية التي تقوم على إضعاف المركز مقابل تقاسم صلاحياته مع الأقاليم من جهة، وبين واقع الدولة الريعية التي تجعل الحكومة المركزية دائما في مركز القوة بسبب سيطرتها على الريع، وعلى توزيعه من جهة ثانية.
وفرادة نموذج إقليم كردستان العراق في هذا السياق لم تعفه من الخضوع الكامل للمركز من خلال هيمنة الأخير على الإيرادات الريعية. ويؤكد هذه الحقيقة ما لجأت اليه الحكومة الاتحادية من قطع الميزانية عن الإقليم عامي 2013 ـ 2014.

ليس من حق أي جهة، مهما كانت، ان تفرض وصايتها على الجمهور في البصرة، أو في غيرها، على خياراتهم فيما يتعلق بالإقليم او بغيره! ولا بد من الالتزام الصارم بالمواد الدستورية الصريحة

والسؤال الجوهري الثاني، هل يمكن أن يكون النموذج الفيدرالي بديلا ناجحا لتجاوز فشل الادارة الذي أظهرته المحافظات غير المنتظمة في إقليم؟ وهل يمكن لهذه الفيدرالية أن تكون أكثر نجاعة سياسيا واقتصاديا وتنمويا من المحافظة غير المنتظمة في اقليم؟ وما الذي يجعل دعاة الإقليم مقتنعين بأن المركز سيتعامل مع الأقاليم المستحدثة وفقا للقواعد الدستورية والقانونية، وهو الذي ضربها عرض الحائط من خلال عدم التزامه بذلك في علاقته مع إقليم كردستان! أو عدم التزامه بقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم التي أعطت للمحافظات صلاحيات واسعة عجزت عن استخدامها بشكل حقيقي بسبب منازعة المركز اياها عليها!
بالعودة إلى النموذج الفريد للفيدرالية الذي أقره الدستور العراقي، يبدو واضحا أن أية فيدرالية محتملة في البصرة، ستخوض صراعا مريرا مع الحكومة المركزية فيما يتعلق بالصلاحيات. تحديدا فيما يتعلق بالنفط! إذ تبدو المواد المتعلقة بصلاحيات الحكومة الاتحادية الحصرية والصلاحيات المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم، والصلاحيات الخاصة بالأقاليم في النص الدستوري، غير حاسمة بشكل واضح، بل أن المواد المتعلقة بالنفط والغاز تبدو متاهة حقيقية، وستظل مفتوحة على تأويلات مختلفة، وستكون منتجة للخلافات والصراع. فالدستور العراقي الحالي وضع المواد الخاصة بالنفط، وهي المواد 111 و112 بين (المادة 110) الخاصة بالسلطات الحصرية بالسلطات الاتحادية، و(المادة 114) الخاصة بالصلاحيات المشتركة بين السلطات الاتحادية وسلطات الاقليم.
أي كما يقول المعتزلة في منزلة ما بين المنزلتين، وهو أمر عكس في حينه إرادات وتوجهات ومصالح الجماعات السياسية التي كتبت الدستور والتي حرصت على الابقاء على غموض هذه المسألة الحساسة، تحديدا المجلس الاعلى الإسلامي الذي كان العامل الحاسم في إدراج موضوع الفيدرالية في الدستور العراقي من جهة، والديمقراطي الكردستاني والاتحاد الكردستاني من جهة ثانية، من أجل غايات لاحقة! لاسيما أن هذا الموضوع سيستكمل بنص (المادة 121/ثانيا)، التي تمنح «الأقاليم» سلطة تعديل القوانين الاتحادية. ولتوضيح هذه المسألة يمكن الرجوع الى تأويل معنى «الحقول الحالية» على سبيل المثال التي وردت في (المادة 112) من الدستور، فمسودة مشروع قانون النفط والغاز المزمن الذي اقترحته الحكومة الاتحادية منذ كانون الثاني 2007، لا تقف مطلقا عند هذا المصطلح؛ بل ان القانون يتحدث في (المادة 2/أ) عن تطبيق القانون على «العمليات النفطية في جميع مناطق جمهورية العراق الأرض وما تحتها، على اليابسة، وفي المياه الداخلية والمياه الإقليمية»، أما قانون النفط والغاز رقم 28 لسنة2007 الذي أصدرته حكومة إقليم كردستان فيعرف المصطلح بالقول: « الحقل النفطي الذي كان له انتاج تجاري قبل 15 آب/ أغسطس 2005! فكيف يمكن ان نتخيل موقف إقليم البصرة المحتمل فيما يتعلق بهذه المسألة، خاصة إذا ما عرفنا ان البصرة تضم أكثر من 70٪ من احتياطي النفط في العراق! فتبعا للأرقام المعلنة يضم حقول نفط غرب القرنة 43 مليار برميل، ومجنون 42 مليار برميل، والزبير 24 مليار برميل، من الاحتياطي النفطي المؤكد في العراق البالغ 153 مليار برميل!
في النهاية ليس من حق أي جهة، مهما كانت، ان تفرض وصايتها على الجمهور في البصرة، أو في غيرها، على خياراتهم فيما يتعلق بالإقليم او بغيره! ولا بد من الالتزام الصارم بالمواد الدستورية الصريحة، وبالإجراءات التنفيذية التي أقرها قانون تكوين الأقاليم رقم 13 لسنة 2008، والتي لا تعطي صلاحية لأي جهة في العراق لإيقاف طلب تكوين الإقليم إذا ما جاء من ثلث أعضاء مجلس المحافظة، او من عشر الناخبين المؤهلين، وبأن مهمة مجلس الوزراء تقتصر على إحالة الطلب إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بعد تخصيص الموازنة الخاصة بإجراء الاستفتاء المطلوب، ولكن لا بد لدعاة الأقاليم من الالتفات إلى القضايا الجوهرية المطروحة هنا من أجل أن لا تكون الأقاليم المستقبلية مشاريع نجاح حقيقية، وليست مجرد مصدر آخر للأزمات!

القدس العربي