للشهر الثاني على التوالي، يتكدّس المئات من مسلحي تنظيم “داعش” أو ممن يشتبه أنهم أفراد من التنظيم داخل معسكرات احتجاز كبيرة، لا يبعد أحدها سوى 20 كيلومتراً عن الحدود العراقية في بلدة تتبع محافظة دير الزور السورية. “العربي الجديد” رصد عن بعد أحد المعسكرات القريبة من الحدود والذي يخضع لحراسة مشددة من قبل عناصر يتبعون مليشيا “قوات سورية الديموقراطية” (قسد)، الذين يتناوبون على تأمينه طوال اليوم. ويقع المعسكر قرب قرية تدعى الحوامة، ويضج بالمسلحين الأكراد، وعسكريين أجانب يعتقد أنهم ضمن مهام فريق التحالف الدولي للتحقيق مع المسلحين المحتجزين في تلك المعسكرات بحثاً عن أي معلومات توصلهم لزعيم “داعش” المختفي أبو بكر البغدادي أو من تبقى من مساعديه.
ويوجد داخل المعسكر الذي يعتبر واحداً من مراكز احتجاز عدة خصّصت حديثاً لإيواء من تمّ اعتقالهم في المناطق التي كانت تحت سيطرة “داعش”، ما بين 500 إلى 700 رجل، بينهم ممن لم يتجاوزا الـ18 عاماً، لكنهم اعتبروا بالغين، بعد أن اعتقلوا جميعاً من ريف دير الزور والبوكمال وهجين وأخيراً من بلدة الباغوز. وتمّ استخدام مبانٍ عسكرية سابقة لجيش النظام السوري ومدارس ومنشآت صناعية، كمراكز احتجاز أيضاً في تلك المناطق، والتي أحيطت بأسلاك شائكة وجدران، وحواجز كهربائية، كإجراءات أمنية إضافية.
يقول عنصر من “قسد”، والذي قدّم نفسه على أنه قيادي في المليشيا وأحد المسؤولين في المعسكر، إنّ “الجميع ينتظر أن تحسم بغداد موقفها؛ هل ستتسلم المقاتلين وتحاكمهم أم لا”. ويشير المتحدّث بيده إلى معسكر آخر، قائلاً “هناك مراكز احتجاز أخرى لعناصر داعش، ولا نملك صفة لمحاكمتهم، ولا قدرة لدينا على تنفيذ أحكام السجن بحقهم، فهذا عمل دول”.
ويوضح القيادي نفسه، المتحدر من بلدة الحسكة السورية كما قال، في حديث مع “العربي الجديد”، أنّ “جنرالات عراقيين تسلموا من تبقى من مواطنيهم المحتجزين في المعسكر، والضغط خفّ كثيراً داخل المعتقلات لدينا، كون العراقيين كانوا أكثرية هنا”. كما يلفت إلى أنّ “كثيراً من الموجودين مصابون جراء المعارك، وهناك جهات عدة تأتي لعلاجهم، لكن العديد منهم يحتاجون إلى علاج لا يتوفر إلا في المستشفيات”.
”
بغداد لم ترد حتى الآن على طلبات وعروض من دول غربية لاستقبال مقاتلي تنظيم “داعش” الأجانب
”
ويشير القيادي نفسه إلى أنّ “المسلحين المحتجزين أغلبهم من جنسيات غربية وآسيوية مختلفة، وهناك أيضاً سعوديون ومصريون وأردنيون ومغاربة وجزائريون، فضلاً عن جنسيات أخرى”. ويوضح أنّ “المعتقلين العراقيين الذين تم تسليمهم لبغداد في الفترة الأخيرة قسم منهم مدنيون استخدمهم داعش كدروع بعد خسارته منطقتي القائم والبعاج العراقيتين عام 2017، إذ نقلهم معه إلى سورية، بحسب ما ذكروه لنا”.
من جهته، يقول حكيم أبو رجب، وهو إحدى الشخصيات المحلية السورية المتعاونة مع “قسد”، بحكم إجادته لأكثر من لغة تمكّنه من التنسيق مع أطراف عدة بما فيها الصليب الأحمر، إنه “تحدث شجارات بينهم (المحتجزون) بشكل متكرر، وعادة ما تكون بعد بدء جدال ونقاش، سرعان ما يتحوّل لضرب وركل، ولو كانت لديهم أسلحة لاستخدموها”. ويضيف أنّ “بعض الشجارات لا يتم فضها، وتنتهي بعد أن يتعب الطرفان من الضرب”.
ويوضح أبو رجب أنّ “اللوم ومراجعة ما حدث (هزائم التنظيم) هو في الغالب ما يثير تلك المشاكل بين المحتجزين، في حين أنّ هناك آخرين يبدون وكأنّ حظهم قادهم إلى هنا”، مستدركاً بالقول “الكلّ بانتظار نقلهم إلى بغداد، أو إلى بلدانهم، فالمكان هنا يبقى مؤقتاً لاحتجازهم”. وتثير مناطق احتجاز المعتقلين القريبة من العراق الخشية من فرارهم أو حتى إطلاق سراحهم، جراء الفساد المستفحل في التشكيل الكردي المسلّح في الشرق السوري المحاذي للعراق، إذ سجل في الآونة الأخيرة تورّط عناصر في “قسد” بعمليات تهريب للمشتقات النفطية والتحف والآثار والسجائر. كما وجهت اتهامات إلى عناصر فيها بإطلاق سراح عناصر من التنظيم وتسهيل ابتعادهم عن مراكز الاحتجاز مقابل مبالغ مالية معينة.
وما يعزّز مخاوف العراقيين أن إفلات أي عنصر من “داعش” يعني أن لا طريق أمامه إلا الحدود العراقية الشاسعة ذات الجغرافية الصعبة، التي يسهل فيها التسلّل والاختباء. ولعلّ الرفض السياسي الواسع لاستقبال عناصر التنظيم، قد يكون هو سبب تأخر حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في حسم أمرها بهذا الشأن. وحول ذلك، يقول مسؤول عراقي في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، إنّ بغداد لم ترد حتى الآن على طلبات وعروض من دول غربية لاستقبال مقاتلي تنظيم “داعش” الأجانب ممن يحملون جنسيات مختلفة غالبيتها غير عربية ويوجدون حالياً لدى “قسد”، كاشفاً في الوقت نفسه عن قرب دخول آلاف العائلات العراقية الموجودة في سورية بعد تأهيل معسكرات ضخمة لها في محافظة نينوى، كمرحلة أولى، لتدقيق ملفات أفرادها قضائياً.
وبحسب المسؤول نفسه، الذي تحدّث لـ”العربي الجديد”، فإنّ حكومة عبد المهدي تلقّت العديد من العروض من دول أوربية كفرنسا وبريطانيا وألمانيا، إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية، تقضي باستقبال العراق مسلحي تنظيم “داعش” الأجانب ومحاكمتهم وفقاً للقانون العراقي مقابل دعم مادي سخي لبغداد والمساعدة في بناء سجن كبير خاص لهؤلاء، ومساندة القوات الأمنية العراقية بالتجهيزات والمعدات اللازمة. ويؤكّد المسؤول أنّ الحكومة لم ترد على تلك العروض التي وصلت من مسؤولين وجهات عدة، لوجود عوائق قانونية، بالإضافة إلى الرفض البرلماني الواسع حيال الخطوة التي تحتاج إلى وقت للتشاور، وبحث مدى مصلحة العراق في ذلك.
”
عروض غربية تقضي باستقبال العراق مسلحي “داعش” الأجانب ومحاكمتهم، مقابل دعم مادي سخي لبغداد
”
ويكشف أنّ من تسلّمتهم بغداد من المسلحين الأجانب في التنظيم عبر “قسد”، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، لا يتجاوز عددهم الثلاثين عنصراً، وكلهم أوروبيون ومتورطون بجرائم داخل العراق أيضاً، ولهم صلة بزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، ويعتبرون حلقات مهمة في التحقيق بملف جرائم “داعش” داخل العراق. لكن بحسب المسؤول، هناك أعداد كبيرة من مسلحي التنظيم من جنسيات مختلفة لدى “قسد” حالياً، وهؤلاء هم من تحاول جهات عدة تسليمهم إلى العراق لمحاكمتهم فيه.
ويلفت المسؤول العراقي إلى أنّ معسكراً كبيراً يقع غرب الموصل تمّ اختياره لاستقبال الآلاف من العائلات العراقية (نساء وأطفال) فقط، ممن كان أفرادها في سورية ويوجودن حالياً في الحسكة تحت إشراف مليشيات “قسد”، موضحاً أن من بين هؤلاء زوجات وأبناء مقاتلي “داعش” والذين سيتم إخضاعهم لدورات تأهيل، والتأكد من أنه لا مشاكل قضائية عليهم، قبل السماح لهم بالعودة إلى مدنهم الأصلية. ويقول خبراء في القانون العراقي إنّ إمكانية استقبال مسلحي “داعش” من سورية ومحاكمتهم في العراق جائزة وتتوافق مع القانون، كون قسم منهم شارك بأعمال داخل العراق أصلاً خلال فترة استباحة الحدود، أو يمكن اعتبارهم منتمين لتنظيم بينه وبين العراق حرب، ومتورط في جرائم ضدّ مواطنيه.
وفي هذا الإطار، يقول الخبير القانوني رباح الكرطاني، في حديث مع “العربي الجديد”، إنّ “التكييف القانوني لمحاكمة عناصر التنظيم في العراق موجود، فهم متورطون بشكل أو بآخر بجرائم ضدّ العراقيين ومصالح البلاد وأمنه، بحسب المادتين الأولى والرابعة من قانون مكافحة الإرهاب. فمن دخل العراق هو خاضع لقانون العقوبات الجزائية العراقية، ومن شارك مع داعش في سورية، فهو واقع ضمن العمل مع جهات مهددة لأمن البلاد، وهنا تجوز محاكمته. لكن اللغط حالياً سياسي وأمني، أكثر من كونه قانونياً”.
ويضيف الكرطاني، وهو عضو نقابة محامي بغداد، أنّ “هناك خوفاً من تحوّل العراق إلى غوانتانمو جديد في الشرق الأوسط، بحيث يتم جمع عتاة الإرهابيين في سجن كبير داخله، وتتحمل الدولة مسؤولية أمنه وحمايته ومن فيه، فضلاً عن التكاليف المادية الطائلة التي ستتكبدها لأجل ذلك”. لكنه يشير إلى أنّ “الحكومة تتحسس في الوقت نفسه، الفساد المالي والفوضى الموجودة في مناطق الشمال والشرق السوري التي تسيطر على أجزاء منها مليشيات قسد، ما قد يؤدي إلى إفلات الإرهابيين مرة أخرى، وتهديدهم العراق مجدداً. لذا تفكّر في أن احتواءها إياهم سيكون أفضل من بقائهم قنبلة موقوتة لدى مليشيا تحكم سيطرتها على أراض حدودية لها”.
”
التكييف القانوني لمحاكمة عناصر التنظيم في العراق موجود
”
في المقابل، ترفض كتل في البرلمان استقبال مسلحي التنظيم غير العراقيين الموجودين في سورية. وفي السياق، قالت النائبة غيداء كمبش، في مؤتمر صحافي عقد الأحد الفائت في بغداد، “نسمع خلال الأيام الماضية أنه ربما يسمح العراق بضغوط خارجية، باستقبال عناصر داعش الأجانب ومحاكمتهم لديه، مقابل طلب أجور محاكمة تصل إلى 10 مليارات دولار، وهو ما نرفضه”. وطالبت البرلمانية الحكومة بـ”تكذيب الخبر”، مستدركةً بالقول “إن كان صحيحاً، فإننا كممثلين عن الشعب نرفض أن يستقبل العراق هؤلاء، حتى وإن كان ذلك للمحاكمة”.
بدوره، اعتبر عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، كريم عليوي، أنّ محاكمة عناصر تنظيم “داعش” من الأجانب داخل العراق “غير قانوني”. وقال عليوي، في تصريحات لوسائل إعلام محلية عراقية، أخيراً، إنّ “الولايات المتحدة الأميركية دائماً ما تضع العراق في مشاكل مع دول العالم، ووجودها يستمر بجلب البلاء، وآخرها جعل العراق غوانتانمو لمحاكمة إرهابيي العالم”. ولفت إلى أنّ “محاسبة العراق لدواعش أجرموا على أرض غير الأراضي العراقية يعدّ غير قانوني”. وأكّد عليوي أنّ “دخول هؤلاء إلى العراق غير شرعي، ومضرّ بأمن البلاد، ومحاكمتهم داخل العراق سيكون لها ثقل كبير علينا”. ودعا عليوي الحكومة العراقية إلى أن “تكون واعية لهذه الحالة، وأن تعيد هؤلاء الدواعش إلى بلدانهم”.
العربي الجديد