لم يكن مستغرباً أن يتحول حريق كاتدرائية نوتردام في قلب العاصمة الفرنسية باريس إلى حدث عالمي بامتياز، وعلى مستوى ردود الأفعال الشعبية العفوية التي سبقت ردود رؤساء الدول والحكومات، وكان طبيعياً أن مظاهر التضامن تجاوزت حدود البلد وأهله وشملت شعوب العالم بصرف النظر عن الأديان والثقافات والتواريخ. صحيح أن الكاتدرائية تنتمي إلى فرنسا جغرافياً، وإلى أوروبا تاريخياً، وإلى نطاق الكنيسة الكاثوليكية روحياً، إلا أنها باتت ملك الإنسانية بأسرها لأسباب كثيرة صمدت على مدار السنين والعقود والقرون.
فمنذ تدشين أول أحجارها في العام 1160 شهدت الكاتدرائية وقائع مضيئة وأخرى سوداء، وبين جدرانها عُقدت المصاهرات الملكية التي سترسم حاضر ومستقبل تحالفات الأسر الملكية الحاكمة، وهنا جرى تتويج الملوك وتخليد الأباطرة فصارت متحف فنون وأوابد، وخلال عقود الجمهورية الفرنسية الخامسة وحدها شهدت الكاتدرائية تأبين ثلاثة من كبار رؤساء فرنسا: شارل ديغول وجورج بومبيدو وفرنسوا ميتران. وإذا كانت قد صمدت أمام ثورات استهدفت تجريدها من الصفة الروحية أو حتى صهر أجراسها لاستخدامها في صناعة المدافع، فإن الأجراس ذاتها قرعت شارة النصر عندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وعلى أرغن الكاتدرائية العريق عُزفت أنغام تحرير باريس من الاحتلال النازي بحضور الجنرال ديغول.
لم يكن مستغرباً أيضاً أن الصورة الأبرز، التي أخذت تتداعى في أذهان ملايين المشاهدين المتسمرين أمام شاشات كانت تنقل خبر الحريق على الهواء مباشرة، لم يكن لها أي طابع ديني يحيل إلى رموز الكاتدرائية الروحية، بل كانت صورة الأحدب كازيمودو في رواية فكتور هوغو الخالدة. فإلى جانب مكانتها كمحفل شاهد على دهور باريس وفرنسا وشطر كبير من أوروبا منذ العصور الوسطى، دخلت الكاتدرائية إلى الوجدان العالمي الكوني من خلال احتضان أسوارها وأجراسها حكاية حب فريدة عابرة للأديان والطبقات والجغرافيات، فبات الأحدب صنو الكاتدرائية وصار الكثير من جمالها المعماري مقترناً أيضاً بسحر الراقصة الغجرية إسميرالدا.
وعلى المستوى السياسي لم يكن مستغرباً أن يتواجد سريعاً أمام الحريق ممثلو الدولة الفرنسية في أعلى هرم السلطة وابتداء من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وأن يؤجل إيمانويل ماكرون إلقاء كلمة سياسية حاسمة كانت ستناقش نتائج الحوار الوطني ومقترحات الإليزيه لمعالجة أزمة احتجاجات السترات الصفراء. إلى جانبه وقفت عمدة مدينة باريس، التي تتبع لها الكنيسة ضمن إشراف البلدية على صروح العاصمة، وأعلنت تخصيص 50 مليون يورو لإعادة تعمير ما التهمته النيران. وفي المقابل تعهد عدد من الشركات ومليارديرات فرنسا بتوفير تبرعات تبلغ 700 مليون يورو لهذا الغرض، في خطوة لا تخفى أغراضها الاقتصادية والاستثمارية والدعائية قبل حوافزها الروحية والثقافية.
ويبقى أن واقعة مأساوية ومحزنة مثل حريق بعض أطراف هذا الصرح الروحي والمعماري والتاريخي كشفت أيضاً عن اعتلال بات مزمناً في الإعلام الغربي، قوامه المسارعة إلى افتراض مسؤولية «الإرهاب الإسلامي» و«صدام الحضارات» عن حادثة سرعان ما اتضح أنها ناجمة عن أعمال الصيانة التي تشهدها الكاتدرائية منذ سنوات. كما كشفت أيضاً ضحالة تفكير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي غرّد غامزاً من قناة فرنسا وناصحاً باستخدام الطائرات لإطفاء الحريق. وأخيراً، في الآن ذاته كان حريق قد شب في منطقة المصلى المرواني في الجهة الشرقية من المسجد الأقصى، فلم يحظ من الإعلام الغربي إلا بسطور قليلة يتيمة.
القدس العربي