حسبما افادت الرواية الرسمية، فان القوات الامنية العراقية عززت اجراءاتها الهادفة الى القضاء على تنظيم “داعش” حينما شنت يوم الجمعة المصادف 17/10/2014 واحدة من اوسع العمليات العسكرية الهادفة الى تحرير مناطق محافظة صلاح الدين، والتي شاركت فيها افواج من متطوعي ما يسمى بـ”الحشد الشعبي” وابناء العشائر. وقال اللواء اياد حميد اللهيبي إن “القوات الأمنية ما تزال تتقدم لتحرير المناطق الأخرى في تكريت”، مؤكدا أن “معنويات القوات الأمنية عالية وعازمة على القضاء على الإرهابيين”.
في هذا السياق صرح مصدر أمني في محافظة صلاح الدين بأن عملية تحرير مناطق شمال تكريت وقضاء بيجي، التي بدأت الجمعة جاءت بمقترح من المستشارين العسكريين الأميركيين، وهدفها قطع طرق الإمداد عن التنظيم.
وفي غضون ذلك، أعلن قائد فرقة الرد السريع في وزارة الداخلية اللواء الركن نعمان داخل، أن فرقته تواصل تقدمها حيث تمكنوا من استعادة مناطق الحمرا والمحزم والبو طعمة شمال تكريت، ويتقدمون تجاه بيجي، ونجح الجيش في تأمين الطريقِ الرابط بين قضاء بيجي وتكريت، خلال معارك خاضها وأسفرت عن مقتل عدد من مسلحي التنظيم.
تعزيزات كبيرة.. لهجوم واسع
وكانت المصادر الحكومية اكدت وصول التعزيزات العسكرية الى محيط مدينة تكريت خلال الثلاثة ايام الماضية، من مختلف الصنوف العسكرية، تحضيرا لعملية عسكرية في المناطق المحيطة بتكريت، واتخذت القوات من جامعة تكريت وقاعدة سبايكر الجوية اماكن لحشودها، بانتظار استكمال تجهيزات الهجوم والشروع بالعملية العسكرية واسعة النطاق. كما ان اجتماعاً أمنيا موسعاً، عقد في جامعة تكريت قبل يومين بحضور قادة امنيين عراقيين وامريكيين، تم خلاله استعراض الاوضاع في محافظة صلاح الدين واماكن وجود المسلحين ووضع الخطط اللازمة للتسريع بطردهم من المناطق التي يسيطرون عليها، في تكريت والمناطق المجاورة لها.
وذكرت المصادر أن القوات العراقية المعززة بالمليشيات تتركز في ثلاث جهات حول تكريت في مناطق تماس تصل الى مئتي متر بينها وبين مسلحي التنظيم، الذين يسيطرون على الجهة الشرقية، التي تربطهم بناحية العلم وتمثل مصدر التموين والتعزيز وخطوط امداداتهم مع مناطق التجهيز.
واوضحت أن “الترجيحات تميل الى عدم الهجوم على تكريت في الوقت الحاضر، والتوجه لتطهير مدينتي بيجي والصينية، لتحقيق مجموعة من الاهداف، من شأنها تقوية موقف القوات العراقية في حربها ضد المسلحين، والسيطرة على طرق امدادهم وتموينهم، وتشمل طريق بيجي- حديثة الذي يربط بمحافظة الانبار، وطريق بيجي- الموصل الذي يربط بمحافظة نينوى، وطريق بيجي- الحويجة الذي يربط بمحافظة كركوك، ويمر عبر نقطة الفتحة الاستراتيجية، وهي النقطة التي يخترق فيها نهر دجلة سلسلة جبال حمرين، وكذلك تأمين التواصل عن طريق الارض مع القطاعات الموجودة في مصفاة التكرير في بيجي.
رواية مغايرة لما اعلنته المصادر الحكومية
اما المعلومات التي سربها الاهالي من مناطق القتال في تكريت، فقد كانت مختلفة عما صرحت به الجهات الرسمية، مؤكدة فشل محاولة الاختراق هذه، رغم الاستعداد العسكري واللوجستي لها، إذ شارك فيها طيران التحالف الدولي والقوات الحكومية المدعومة بالميليشيات الطائفية، بل انها وصفت بأكثر الحملات تخطيطاً واعداداً مهنياً، فهو الهجوم الاوسع على الاطلاق، بعد 44 محاولة سبقته لم يكتب لها النجاح، والمدعوم بغطاء جوي يؤمن ابطال مفعول العبوات الناسفة والقنابل الموقوتة، التي زرعت عند مداخل المدن، بتقنيات حديثة تهدف الى تعطيل حركة القوات الحكومية، ليتم فيما بعد الشروع بتفكيكها تجنباً للخسائر في صفوف الافراد والمعدات العسكرية.
نشير هنا الى وصف المحلل العسكري لدى CNN فرانكونا، حول الوضع في العراق بقوله انه “خطير جدا” مضيفاً: “كنا نأمل أن تساعد الضربات الجوية في وقف هجوم داعش بحيث يسترد الجيش العراقي أنفاسه ويسترجع المدن والبلدات التي فقدها، لكن القوة الجوية لم تساعد وواصل التنظيم السيطرة على المدن.”
واكد ان “تنظيم داعش مازال يمتلك القدرة على التحرك، ليس في سوريا فحسب، بل في العراق أيضا، وقد كنا نعتقد أن الضربات الجوية ستوقفه في العراق، ولكن ذلك لم يحصل، الجيش العراقي ليس لديه القدرة لاستئصال هذا التنظيم، وبالتالي يتوجب علينا تغيير ما نقوم به.”
ويتفق معه بهذا الاتجاه محللون عسكريون اعادوا تقدّم التنظيم إلى ضعف خصومه، فضلاً عن التخطيط الدقيق الذي امتد لسنوات، بعد قيام زعيمه أبو بكر البغدادي، ببناء هيكلية تهدف إلى الجمع بين السيطرة المركزية والتنفيذ على المستوى المحلي.
الاعلام الرقمي.. قوة مضافة بيد “داعش”
تعد منظومة “داعش” الدعائية والإعلامية من أبرز نقاط قوة التنظيم، اذ نجح التنظيم في توظيفها لنشر أفكاره والترويج لانتصاراته، بالاعتماد على أفضل التقنيات الإعلامية، وبدرجة عالية من المهنية والمهارة في التعامل مع وسائل الإعلام الحديثة، خاصة وسائل التواصل الاجتماعيـ التي تمثل للتنظيم منصة رئيسة يتوجهون من خلالها إلى تجنيد الشباب والتأثير عليهم، ورغم الضربات الجويّة التي قادها التحالف الدولي، فان قدرة التنظيم الدعائية ما تزال تتجلى في نشاط كبير على مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت، الامر الذي يعزز من قدراته على مستوى العقول والقلوب، لتأمين المكون البشري القادر على القتال.
تحالف صامت
تعد الميليشيات الطائفية اليوم رأس الحربة في المواجهات مع “داعش”، في اطار حملة قوات التحالف التي تقودها الولايات المتّحدة، مركزة في الأساس على ما يسمى الخيار الأمني والعسكري في مواجهة التنظيم، دون الاخذ بالاعتبار، تفكيك العناصر الأساسية التي ادّت الى ولادتها، والمتمثلة في النظم الديكتاتورية والطغيان والسياسة الطائفية والعنصرية التي اتبعها الأسد والحكومة العراقية، وعلى فرض أنّ الحملة نجحت في تدمير الجزء الأكبر من قدرات تنظيم “الدولة الاسلامية” دون احداث تغيير جذري في المعطيات القائمة حاليا على بقية الفاعلين، فان شكل المنطقة بعد هذه المعركة سيكون كما يلي:
-سيطرة تامة لإيران على الأرض من شمال منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسط وحتى مضيق باب المندب جنوبا، أي في المنطقة الممتدة من شمال الساحل السوري الى صنعاء، وذلك عبر أذرعها المختلفة من أحزاب وميليشيات وجماعات وتنظيمات، التي اكتسبت خلال العقدين الماضيين على الأقل خبرات عملاتيّة في مجال حرب العصابات والارهاب، وخضعت لتدريب وتسليح وتنظيم وادارة من قبل الحرس الثوري- فيلق القدس بقيادة الجنرال قاسم سليماني، فضلا عن ارتباطها العقائدي والايديولوجي بإيران الذي جعلهما في تماثل تام على مستوى الاهداف والمصالح.
– ولعل ما تقدم سينعكس على العراق لزيادة تبعيته للنظام الإيراني، وعجزه عن بناء قدرات عسكرية وامنية وطنية مستقلة، ومن هنا فان هذه المؤسسات ستتجه الى استيعاب عناصر الميليشيات الطائفية، التي سيكون بمقدورها توجيه العملية السياسية الوجهة التي تريد، وعمليا لن تتمكن أي سلطة تنفيذية من التحرر من سطوتها، كونها القوة الاكثر تأثيرا والمدعومة من طهران. بل انها ستزداد قوة ونفوذا في حال تمكنها من تحقيق انتصار على “داعش.”
– سيكون سقوط “الدولة الاسلامية” مكسباً مضافاً لإيران، بعد ان نجحت في تنصيب رئيس وزراء في العراق، في عملية لا تخلو من مهارة وتلاعب، وحالت دون سقوط بشار في سوريا، واحتلت صنعاء، ونجحت في ترتيب المشهد السياسي العام في المنطقة لصالحها، والذي سيؤدي فيما بعد الى تحسين موقفها التفاوضي مع الغرب، محققة مزيداً من المكاسب، ومعززة من مكانتها كقوة اقليمية، تعتمد استراتيجية واضحة المعالم، لن تقبل بالتنازل عنها.
– واذا ما بقي بشار الأسد على رأس السلطة، فمن المرجح ان تعود الميليشيات الطائفية المزهوّة بالانتصار على “داعش” الى سوريا من جديد، وبالتالي فان احتمال تقسيم البلاد الى عدة كانتونات امر وارد، احدهما يسيطر عليه الاسد، وآخر للمعارضة بمختلف فصائلها، ثم الأكراد.
– في العراق سيكون الاكراد على مقربة من الاستقلال، وقد تقوت شوكتهم، كحلفاء للغرب، بالإضافة الى تمتعهم بشبه استقلالية مالية نتيجة تصدير النفط ما يجعلهم في موقع الند لأي حكومة عراقية، ناهيك عن تمسكهم بكركوك التي لن يتنازلوا عنها مستقبلا بعدما دخلوا اليها.
أمّا الحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا، فانه سيكون قد فرض نفسه على الغرب ورقة موثوقة لمحاربة المتطرفين، وادارة المناطق التي يسيطر عليها، وهو ما سيكسبه شرعية تمكنه من الدفاع عن حدود مشروعه. خصوصاً ان الحزب يسعى الى اقامة اقليم كردي مستقل، في اطار سوريا فدرالية، وان هناك لجنة تعد دستورا لهذا الاقليم، بحسب ما اكده صالح مسلم رئيس الحزب.
– سيكون السنّة في العراق الاكثر خسارة، في ظل غياب مشروع سياسي ومرجعي يجمعهم، بل ان اوضاعهم ستشابه الى حد كبير اوضاع السنّة في ايران، لجهة تحجيم دورهم، ومحدودية وشكلية ممارستهم السياسية.
– أمّا الدول الخليجية، فستجد انها فشلت في الحصول على عراق مستقر وآمن بمشاركة سنيّة فعلية، ناهيك عن فشلها في إسقاط الأسد، ما سيقوّض من مصداقيتها، اضف الى ذلك فان سعيها لتنحية الاسلام المعتدل من المشهد السياسي في عدد من الدول العربية، سيؤدي في النهاية إلى المزيد من التطرف، لتنشأ اجيال من المتطرفين.
– تعد حرب التحالف الدولي ضد “داعش” فرصة للرئيس باراك أوباما ليثبت قوته وحزمه، بعد اتهامه من قبل خصومه الجمهوريين بالضعف والتردد وتعريض مصالح الولايات المتحدة الأمريكية الحيوية للخطر، وينظر لها انها حربه الخاصة أسوة بمن سبقه من الرؤساء الأميركيين، خصوصا ان تجربة الولايات المتحدة في العراق، لم تنجح في ترسيخ نظام ديمقراطي قائم على دولة المؤسسات، كما ان البلد محاط بعدة دول متنافسة لكل منها حساباتها الاستراتيجية الخاصة خاصة تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية، فالولايات المتحدة الأمريكية بعد سحب قواتها من العراق، تراجعت ادوارها لصالح ايران، الامر الذي ادى الى تصاعد الاصوات لجهة تقسيم البلاد إلى ثلاث كونفدراليات مستقلة عن بعضها بعضا، ومتنافسة إن لم نقل متناحرة فيما بينها.
والتساؤل الجدير بالطرح هل تدرك الولايات المتحدة عواقب العمل في مظلة عسكرية واحدة مع الميليشيات الطائفية المدعومة من ايران؟، ولماذا يتم غض الطرف عن ممارسات التقتيل والتهجير التي يقوم بها هذه الميليشيات حيال مكون بعينه في العراق؟ وهي ممارسات ترقى في افعالها لما يقوم به “داعش” فالسنّة اليوم بين سندان “الدولة الاسلامية” ومطرقة ما يسمى “بالحشد الشعبي.”
وليس بخاف على احد ان العراق يغلي على مرجل، تلاحقه الكوارث، والفشل نصيبه، خسر بنيته التحتية، وتعرض سكانه للتهجير والنزوح، وتراجعت مكانته الاقليمية والدولية، واضحى تبعاً لطهران، إذ ما كان يمكن لـ”داعش” ان يتقوى ويسيطر على ثلث العراق، لولا السياسات الطائفية والعنف الذي مارسته الحكومات المتعاقبة على العراقيين، فهل من موقف حصيف يعيد الاعتبار لمكانته السياسية، ويجمع شمل مواطنيه على اساس العدالة والمساواة والوحدة الوطنية، لنتجنب جولات من الحروب الاهلية والصدع الوطني؟
د. هدى النعيمي