في عام 1937 حين قتل قائد أول انقلاب عسكري في العالم العربي الفريق بكر صدقي ورسمت الحدود بين العراق وإيران، ولد الطفل صدام حسين المجيد في قرية نائية على تخوم مدينة تكريت لعائلة فقيرة، مات أبوه قبل ولادته ليبصر النور يتيما، يرعاه خاله خير الله طلفاح.
لم تكن طفولته عادية، فقد عاش أجواءً وُصفت بالقسوة والشدة، سواء داخل البيت أو خارجه، ونسجت حول الرجل قصص كثيرة عن ذكريات طفولته، تضمنت طبيعة علاقاته مع زملائه وأصدقائه في القرية والمدينة، غلب عليها العنف والقسوة، لا سيما وأنه قد عمل مدة في الزراعة ورعي الغنم على عادة سكان تلك المناطق.
في قرية “العوجة” كانت النشأة، قبل أن ينتقل إلى تكريت القريبة ليلتحق بالمدرسة، ثم انتقل إلى بغداد وهو في الحادية عشر من عمره في منطقة الكرخ التي سكنها كثير من “التكارتة” منذ أزمنة بعيدة، فظلت تحمل بعض محلاتها أسماءهم.
ويوما بعد آخر تدرّج الفتى القادم من ضواحي تكريت في المدرسة، وكان أن اجتذبه عالم السياسة مبكرا، فانخرط في صفوف البعث الذي كان في بداياته، وقد أضاف انضمامه شيئا من الزخم والحماس للحزب الذي كان فتيا، مندفعا بأفكار متأثرة بأدبيات الحركات القومية الأوروبية، لا سيما الألمانية منها.
وحين حدث انقلاب الجمهوريين على النظام الملكي عام 1958 كان عدد البعثيين، وفقا للكثير من الدراسات التاريخية، لا يتجاوز 300 شخص في كل العراق، إلا أن سقوط الملكية والأجواء المشحونة بالصراعات، بالتزامن مع صعود الرئيس جمال عبد الناصر في مصر واكتساح شعبيته العالم العربي، قد منحت الحزب بيئة خصبة يتمدد فيها، ليحوله فيما بعد ندا لأحد أقوى الأحزاب السياسية في العراق، وهو الحزب الشيوعي.
كاريزما مبكرة
ولأن بقية التيارات القومية لم تكن تمتلك تلك الديناميكية التي امتلكها البعثيون العراقيون الأوائل، فقد صعد نجم الحزب، وبات يجتذب قطاعات واسعة من الشباب في بغداد ومدن عراقية أخرى، وخاصة في بغداد وتكريت والموصل وسامراء والناصرية.
وسرعان ما أخذ الشاب صدام مكانه في مقدمة صفوف البعث المندفع بقوة نحو صدارة الحياة السياسية، بما امتلكه مبكرا من كاريزما لم تكن تخطئها العين.
لكنّ حدثا كبيرا ترك أثره على حياته الشخصية، وذلك عندما قررت خلية من الشبان البعثيين يترأسها بنفسه أن تغتال رئيس الوزراء آنذاك عبد الكريم قاسم، وتمت العملية في شارع الرشيد وسط بغداد، لكنها لم تثمر سوى جروح أصيب بها قاسم، فكان أن اضطر صدام للهروب من بغداد نحو سوريا، ومن هناك باتجاه القاهرة.
وفي مصر الناصرية درس صدام الحقوق بجامعة القاهرة، وظل يراقب الوضع في بلاده عن بعد، ويواصل اتصالاته بالطلبة العراقيين والعرب هناك، مشكّلا خلايا جديدة للحزب، استمرت في استقطاب المزيد من الأعضاء والمريدين.
وحين سقط قاسم مضرجا بدمائه على يد رفاقه في الجيش عام 1963، اندفع البعثيون إلى الميدان سريعا، مؤسسين تشكيلا عسكريا عرف بالحرس القومي، تولى في مهمته الأساسية، بالإضافة إلى تثبيت أركان النظام الجديد، القصاص من الشيوعيين الذين اتُهموا بالوقوف وراء مجازر الموصل وكركوك في العهد القاسمي.
ومع تزايد نفوذهم في الشارع ومحاولات تغولهم على مؤسسات الدولة الأمنية، قرر الرئيس عبد السلام عارف وضع حد لتمدد الحرس القومي، فكان أن انقلب عليهم، وأصدر أوامر باعتقال قياداتهم وحل جهازهم الأمني.
عاد صدام إلى العراق بعد سقوط قاسم، وانخرط قياديا في صفوف حزبه، الذي بدأ يستعد لمرحلة جديدة من العمل السياسي، ربما زاد من وتيرتها مقتل عارف في حادثة سقوط طائرته في البصرة عام 1966، فاستلم الحكم شقيقه عبد الرحمن عارف الذي كان يميل إلى الصلح والسلام، ثم ما لبث أن أطاح به انقلاب البعثيين عام 1968.
البعث حاكما
حين استلم البعث الحكم في العراق، كان الرئيس أحمد حسن البكر على رأس هرم الدولة السياسي والأمني، إلا أن ذراعه اليمنى وابن “ولايته” صدام ظل حاضرا في كل التفاصيل.
لم يكن البكر يظهر في المناسبات العامة إلا بصحبة نائبه صدام، مما شكل للنائب الشاب حضورا مبكرا في وعي العراقيين، أوحى بدور مقبل لهذا الرجل المليء بالحماسة والاندفاع، وربما العنف أيضا.
هذا العنف ظهرت تفاصيله في علاقاته بزملائه في الحزب من الأجنحة الأخرى، التي بادر صدام لتصفية نفوذها عن طريق اغتيالات اتهم بها، وإقصاء مارسه بحق قيادات الخط الأول من الحزب.
ورغم توقيع البعث ميثاقا للعمل المشترك مع الحزب الشيوعي ضمن ما عرفت بـ”الجبهة الوطنية التقدمية” عام 1973، فإنه سرعان ما أطاح بالشيوعيين وحوّلهم من شركاء سياسة إلى مطاردين في المنافي أو في جوف السجون.
لم يطل الأمر بصدام حتى استلم الحكم عام 1979، بعدما تنازل له البكر عن الرئاسة، فيما قيل وقتها إنه أُجبر على ذلك، وأيا يكن الأمر فقد استوى الأمر لصدام، وبات سيّد العراق المتوج وحده دون منازع.
كانت الخطوة الأولى التي أقدم عليها هي تصفية الأجنحة الأخرى ذات النفوذ والتأثير داخل الحزب، فكان له ما أراد عندما أطاح من خلال الاعتقالات والإعدامات بالعديد من رؤوس الحزب الكبيرة، من بينهم مفكرون وقياديون انتموا للحزب قبل صدام نفسه.
من بين هؤلاء كان منظّر الحزب الأول في العراق عبد الخالق السامرائي، الذي يعرف بـ”درويش الحزب”، ومعه قياديون آخرون مهمون مثل عدنان الحمداني ومحمد عايش وغيرهما ممن اتهموا بالتآمر مع الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد على بعث العراق.
وبدأ صدام باستثمار إنجازات عقده السابق في السياسة والاقتصاد، وعلى رأسها تأميم النفط والنهضة العمرانية وارتفاع دخل المواطن العراقي، والعلاقات القوية التي كانت تجمعه بالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي معا، قبل أن يحدث ما لم يكن بالحسبان، وهو اندلاع ثورة في إيران وسقوط نظام الشاه وتربع الخميني على سدة الحكم.
لهيب الحروب وتحولاتها
لم تطل أيام الاستقرار هذه، فاندلعت الحرب مع إيران، لتلتهم ثماني سنوات من عمر البلدين، كأطول حرب نظامية في القرن العشرين.
وخلال سنوات الدم والنار هذه، ضرب صدام بقبضة حديدية كل خصومه من الأحزاب التي ناوأته، كالدعوة والشيوعي والإخوان بالإضافة للأحزاب الكردية.
خرج العراق من الحرب يداوي جراحه ومكبلا بديونه، ولم يكد يهدأ قليلا حتى اتخذ صدام قراره الذي يصنف بالأكثر كارثية في تاريخه، وهو غزو الكويت.
لم يطل به المقام في الكويت كثيرا، فانسحب تحت وطأة وضراوة ضربات التحالف الدولي بقيادة حليفه القديم الولايات المتحدة، ليدخل العراق بعدها في حصار خانق لمدة 12 عاما، أدى إلى انهيار اقتصاده وعملته وانحسار سلطته، وذاق العراقيون مرارة الفقر والحرمان بشكل لم يألفوه في تاريخهم المعاصر.
كانت صدمة الهزيمة العسكرية والحصار الاقتصادي والعزلة السياسية عميقة جدا، دفعت صدام نحو تحولات إيديولوجية لم تعرف عنه سابقا، فالبعث الذي عرف بكونه حزبا علمانيا محايدا في تعامله مع الدين -في نسخته العراقية على الأقل- بدأ ينحو تجاه التدين لأول مرة عبر إطلاق ما عرفت بـ”الحملة الإيمانية”، التي بدأت معها مظاهر التدين بالعودة إلى المجتمع العراقي بعد عقود من التوجس والريبة، وربما الحرمان.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد لجأ حزب البعث “التقدمي” والرافض للمظاهر “الرجعية” كما عرف من خلال أدبياته، إلى إحياء التقاليد العشائرية في البلاد، بعدما ضعف سلطان الدولة في أنحاء واسعة من البلاد، وخاصة في الجنوب الذي شهد تمردا عسكريا بالتزامن مع انسحاب الجيش العراقي من الكويت، سرعان ما تم القضاء عليه.
وهكذا، بدا صدام مختلفا في نسخته التسعينية عما سبق، فقد أصبح كثير الحديث عن القيم الروحية وتأثيرها الاجتماعي، وبات شيوخ الدين والعشائر ضيوفا دائمين في ديوانه، كثيري الظهور معه في لقاءاته التلفزيونية، وازداد نفوذهم في المجتمع، تحت سقف سمحت به الدولة، ووظفته لتلافي الفراغ والعجز الذي أصابها، بفعل المتغيرات التي ألمت بها بعد مغامرة الكويت.
مشهد النهاية
ورغم محاولات صدام لإصلاح ما أفسدته الحروب، فإن الأوان قد فات، فقد عزمت الولايات المتحدة على غزو العراق والإطاحة بحكمه، ويبدو أنه حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت الاجتياح الأميركي كان مقتنعا بأن شيئا ما سيمنع وقوع ذلك، إلا أن ذلك لم يحدث، فاحتلت القوات الأميركية العراق، وانهارت مقاومات الجيش وما يعرف بفدائيي صدام، وسقطت بغداد في غضون ثلاثة أسابيع تقريبا.
وكان منظر تهاوي تمثال صدام في ساحة الفردوس وسط بغداد أشبه بزلزال، لم تقتصر آثاره الارتدادية على العراق فحسب، بل تعدته إلى العالم العربي، الذي ظل يعيش جدلا لا ينقطع حول الرجل.
ثم زادت من وطأة الجدل بين الكثيرين في العالم العربي وخارجه، لحظات إعدامه بعدما تجمّع خصومه حوله هاتفين بعبارات ذات طابع مذهبي بوصفه زعيما “سنّيّا” هذه المرة.
وهكذا انتهت مسيرة حافلة بالجدل لرجل ملأ الدنيا وشغل الناس، منذ أن قدم فتى يافعا من القرية، فاحتضنته المدينة وفتحت له أبواب عالم السياسة على مصراعيه، فكان أول رئيس ريفي يحكم العراق، مرورا بكل التحولات التي جرت في عهده، يوم كان حاكم العراق المطلق الذي يخشاه أتباعه وخصومه على حد سواء، ثم الرئيس الذي أطاح بحكمه الغزاة، فظل يتنقل من منطقة إلى أخرى مختبئا في البساتين والقرى البعيدة، بعيدا عن أعين الرقباء والجواسيس.
لم يكن صدام رئيسا عابرا أو حاكما عاديا، فقد ظل مثار جدل وخصومة في حياته وبعد وفاته أيضا، ولعل جزءا من هذا المشهد السريالي هو تحوّله إلى أيقونة لدى محبيه وكارهيه في آن واحد.
وبين كونه رمزا للعروبة والوطنية ورفض الهيمنة الغربية، أو تعبيرا عن الظلم والاستبداد والدكتاتورية، ستبقى الكثير من التساؤلات تدور حول شخصية الرجل وهيبته التي يعتبرها الكثيرون ساحرة أخاذة، وقدرته على إدارة الحكم في بلد معقد اجتماعيا وسياسيا، وكيف استطاع ضبط إيقاع الحياة فيه على مدى ثلاثة عقود ونصف العقد منذ كان نائبا للرئيس، ثم رئيسا تصفق له الجماهير وتهتف باسمه طوعا أو كرها، إلى مطارد يتخطفه الناس وتُعلن المكافآت المليونية للقبض عليه، ثم شجاعا ثابت القلب على حبل المشنقة وقد أحاط به جلادوه، ولن يحسم الجدل في هذا الموضوع قريبا ما دام العراقيون قادرين على استدعائه في الملمات والمصائب، روحا وشخصية وطريقة حكم، حتى إشعار آخر.
المصدر : الجزيرة