يبدو أن الصومال مصمم على تفويت الفرصة الراهنة ليلحق بالدول الباحثة عن الأمن والاستقرار والساعية إلى الدخول في ترتيبات إقليمية تمكنها من الاستثمار والتنمية. وبعد نحو ثلاثة عقود من الفوضى والانفلات وحرب الميليشيات المدمرة تصرّ قيادته على تفويت الفرصة على الجهود الرامية إلى الهدوء وعدم المشاركة في تقويض دور الجماعات الإرهابية، وكأنها ترفض استعادة الأمل الحقيقي.
استشعر قطاع كبير من الصوماليين هذا الهاجس مؤخرا، وبدأوا في ممارسة ضغوط مكثفة على الرئيس محمد عبدالله فرماجو، وحثه على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تضخم الكتائب والعصابات المسلحة، التي باتت تشكل مرادفا للصومال في الكثير من الأدبيات السياسية.
أزمات داخلية
نظم المئات من المواطنين مظاهرة في العاصمة مقديشو في 13 أبريل الماضي، وعبروا عن غضبهم من عدم قدرة الرئيس على الحد من هجمات حركة الشباب المتشددة، وارتفعت الأصوات المطالبة بتنحيته عقب التأكد من فشله في حفظ الأمن، واتهامه بالصمت على فساد بعض معاونيه، وتهاون القطاع الأمني في العمل على وقف الهجمات الإرهابية في مقديشو، والتي راح ضحيتها العشرات من الأبرياء.
وأدى تراكم الأخطاء إلى نشوب أزمات داخلية، بدأت تنخر في جسد الحكومة الفيدرالية، وتزايدت الخلافات مع الكثير من الأقاليم الصومالية. وأفضت سياسات الكيل بمكيالين إلى تهديد البرلمان بسحب الثقة من فرماجو، حيث تقدم 92 نائبا بمقترح لعزله في ديسمبر الماضي، واتهامه صراحة بارتكاب انتهاكات وتجاوزات تعرّض البلاد للخطر.
وحسب الدستور المؤقت يفقد الرئيس منصبه، في حال تصويت ثلثي أعضاء مجلس النواب والشيوخ لصالح حجب الثقة عنه، وقد يكون فرماجو أفلت بأعجوبة من هذه المقصلة، غير أن تكرار الأخطاء يمكن أن يعيده إليها قريبا، في ظل اتساع رقعة الإجراءات العشوائية.
وتوقعت بعض الدوائر الصومالية أن تكون فترة حكم فرماجو عنوانا للاستقرار في البلاد، والتي بدأت في 8 فبراير 2017، اتساقا مع الشعبية التي حظي بها خلال فترة رئاسته القصيرة للحكومة، من أكتوبر 2010 إلى يونيو 2011 في عهد الرئيس السابق شيخ شريف أحمد، وتصميمه على دحر حركة الشباب المتطرفة في مقديشو.
ما يدور الآن يسير عكس هذا الاتجاه، فقد قويت الحركة المحسوبة على تنظيم القاعدة، واستعادت نفوذها واستأنفت عملياتها الإرهابية واحتفظت بوجود قوي لها في وسط وجنوب البلاد، وتسرّبت إليها أنواع مختلفة من الدعم الخارجي مكنتها من أن تعود رقما مهما في التوازنات الإقليمية.
ودخل على الخط فرع تنظيم داعش في الصومال، والذي يقيم معسكرات ومراكز تدريب ويملك مخازن للسلاح في الشمال، ما جعل علامات التهدئة التي لاحت مع حكومة فرماجو الأولى تذهب أدراج الرياح، لأن داعش ومن يقفون وراءه يخططون ليكون الصومال بؤرة جذب أساسية للكثير من العناصر المتشددة الهاربة من سوريا والعراق وليبيا.
ربطت بعض الدوائر السياسية بين شخصيات قريبة من فرماجو وبين قطر، وفسّرت التراخي الظاهر في مواقف الرئيس الصومالي من التنظيمات المتشددة على أنه جاء تحت إلحاح ووعود من الدوحة، التي تعمل على عدم انكسار حركة الشباب، باعتبارها الذراع القوية للإسلاميين في القرن الأفريقي، وتستطيع أن تقض مضاجع الدول المناهضة لتوجهات الدوحة في المنطقة.
وشهدت العاصمة البريطانية لندن مؤخرا، مظاهرة للجالية الصومالية أمام مقر السفارة القطرية، نددت بتدخل الدوحة والتأثير على تصورات فرماجو، وبدا المضمون النهائي لتصرفاته منسجما مع تقديرات حركة الشباب، الأمر الذي ضاعف من مخاوف المواطنين في أن يكون التواطؤ بين الجانبين ممنهجا وتحت رعاية قطرية.
يتسق الاستنتاج السابق مع كلام أحمد عيسى عوض وزير الخارجية الصومالي أمام ندوة عقدت بالدوحة بعنوان “القرن الأفريقي.. آفاق التعاون السياسي والتكامل الاقتصادي”، يوم 29 أبريل الماضي، أكد فيه أن بلاده “لن تدخل في أي تحالف أو تكتل ضد قطر وتركيا”، في إشارة توحي بعدم استبعاد توثيق أواصر العلاقة بين مقديشو وكل من الدوحة وأنقرة.
وقد منح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أهمية استراتيجية للصومال، وافتتح في سبتمبر 2017 قاعدة عسكرية كبيرة في جنوب مقديشو، ويعول عليها في أن توفر له موطئ قدم في المنطقة. وسوف تزداد أهميتها عقب إعلان الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان، رفض الوجود التركي في جزيرة سواكن في البحر الأحمر، وهي دلالة واضحة على رفض حاسم للأدوار التي تقوم بها أنقرة.
ويفسّر التناغم القطري التركي مع الرئيس فرماجو أسباب النشاط المفاجئ لكل من حركة الشباب وتنظيم داعش في الصومال، في وقت أعلنت الولايات المتحدة أنها قتلت أكثر من 800 متشدد في الصومال على مدار عامين، ما يؤكد أن هناك أضعافا يقاتلون في أنحاء مختلفة من البلاد، وقد يتحولون إلى قنابل موقوتة في أي لحظة.
كانت آخر العمليات المعلنة التي نفذتها القوات الأميركية العاملة في أفريقيا والمعروفة بـ”أفريكوم” الجمعة الماضي، وقتلت 3 مسلحين من تنظيم داعش في منطقة بلاد بنت، بعد أسبوعين من مقتل عبدالحيكم دوكوب نائب زعيم التنظيم في الصومال.
وتفسر العلاقة بين مثلث الصومال وقطر وتركيا أحد أسرار البرود الحاصل بين مقديشو وأديس أبابا، بعد قيام آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا بزيارة للصومال في 16 يونيو الماضي، وتوقيع حزمة اتفاقيات في مجالات الأمن والسياسة والاقتصاد والاستثمار في 4 موانئ وإزالة العوائق أمام حركة التجارة بين البلدين، وتتلكّأ حكومة مقديشو في تنفيذ ما اتفقت عليه، ما يعني أنها مدفوعة للتخلف عن الإجراءات الهادئة لترتيب الأوراق، والتي تساهم فيها بقوة كل من السعودية والإمارات، وترمي إلى توفير الأمن والاستقرار من خلال إيجاد شبكة متينة من المصالح المشتركة.
وتتوقع جهات سياسية متابعة تصفية الكثير من المشكلات العالقة وبدء صفحة جديدة قوامها التنسيق والتعاون، والاستفادة من المنهج الذي يتبناه آبي أحمد في تصفير أزمات بلاده الخارجية، وفي مقدمتها البحث عن علاج مناسب للجروح التاريخية المزمنة مع الصومال، ومنح المشروعات التنموية أولوية لتحقيق استفادة تتواءم مع التطلعات الإقليمية المتفائلة.
ات الصومالية الحالية في طريق بعيد عما يتم ترسيمه لمنطقة القرن الأفريقي من خطط تحوي تصميما من جانب الدول المنخرطة فيه على التخلص من الجماعات المتشددة، وبناء علاقات تكاملية على أسس تنموية تعود بالفائدة على الجميع.
لم تحسن القيادة الصومالية قراءة المشهد الإقليمي جيدا، وخضعت رؤيتها لحسابات سياسية ضيقة، مع أن مقديشو من المفترض أن تكون الأكثر إلحاحا على المشاركة بأي ترتيبات تعيد الأمن وتحافظ على وحدة البلاد المهددة بقوة، وتنهي حقبا طويلة من الدمار والنهب والسلب التي طالت جميع أنحاء الصومال، من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.
يتجاهل الرئيس فرماجو التطورات المتسارعة في دول الجوار، من تطبيع كامل بين إريتريا وإثيوبيا ودخول جيبوتي في خضم الخارطة الإقليمية بعد فترة من التردد، وحرص لافت من قبل المجتمع الدولي على إنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان، فضلا عن المساندة التي يلقاها المجلس العسكري لمنع الانفلات في السودان.
تقطع الخطوات السلبية التي يتبناها الرئيس الصومالي المجال على بلاده لتكون واحدة من الركائز الرئيسية في المشروعات التنموية بالمنطقة، وتضعه في محور من يعمل على تعطيلها، وربما يؤدي تجاهله للحرب الضارية على الحركات المتشددة وتقاعسه في مقاومة حركة الشباب إلى تقليل حظوظ خروج بلاده من الكبوة التي تلازمها منذ حوالي ثلاثة عقود.
وفي الوقت الذي تحرص دول القرن الأفريقي على التعافي من أمراضه التقليدية، يصر الصومال على عدم مبارحة خندقه. وهناك فارق كبير في السرعات التي تسير بها الدول المجاورة وبين ما يدور في ربوع الصومال، ما يجعل فرماجو أكثر عرضة للضغوط الداخلية خلال الفترة المقبلة، لأن الشعب الصومالي لن يقبل بأن تستمر بلاده في التغريد خارج سرب القرن الأفريقي.
العرب