تتسابق وسائل الإعلام الأمريكية والإسرائيلية في نشر تقارير وتحليلات من حين لآخر تتضمن معلومات مفصلة عن «صفقة القرن». وبينما يتعامل البعض مع هذه التقارير والتحليلات باعتبارها «تسريبات»، يتعامل معها البعض الآخر باعتبارها مجرد «بالونات اختبار».
وفي تقديري أنها تستهدف الأمرين معا: تسريب معلومات كاشفة عن حقيقة المواقف الأمريكية من قضايا الحل النهائي، بهدف ترويض العقل العربي على التسليم بها أو الاستسلام لها، وفي الوقت نفسه إطلاق بالونات اختبار حول جوانب لم تتخذ الإدارة الأمريكية تجاهها مواقف نهائية. فحين أدركت إدارة ترامب، من خلال اتصالات مبكرة بالأطراف المعنية، أنه لن يكون بمقدور بعض الحلفاء مسايرتها في مواقفها من بعض القضايا الحساسة، كقضية القدس على سبيل المثال، قررت القيام بخطوة من جانب واحد، وقامت بنقل مقر سفارتها إلى القدس، كي تضع جميع الأطراف المعنية أمام أمر واقع، يمكنها من إخراج مسألة السيادة على القدس من دائرة التفاوض حول قضايا التسوية النهائية.
وبينما رأى البعض في إقدام ترامب على خطوة بهذا القدر من الحساسية إجهاضا مؤكدا للصفقة، التي يجري الإعداد لها، رأى فيها آخرون عملا ممنهجا قد ينجح في إزاحة صخرة تحطمت عليها محاولات سابقة لإيجاد تسوية يمكن تمريرها. ولأن إدارة ترامب أصبح لديها الآن صورة واضحة تماما عن نوع التسوية التي تعتقد أنه يمكن التوصل إليها، أو حتى فرضها على مختلف الأطراف إن لزم الأمر، يعتقد على نطاق واسع أن «التسريبات» التي نشرت مؤخرا في بعض المصادر الإسرائيلية، خاصة تلك التي نشرتها صحيفة «إسرائيل هيوم» يوم الثلاثاء الماضي (7 مايو/أيار)، تعكس إلى حد كبير معالم «الصفقة» التي يتوقع أن تقوم الولايات المتحدة بالإعلان عنها رسميا منتصف يونيو/حزيران المقبل، أي بمجرد اكتمال إجراءات تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة بقيادة نتنياهو، التي يتوقع أن تكون أكثر تطرفا من سابقتها. فما الجديد الذي تطرحه تلك التسريبات، وما الدروس التي يمكن أن نستخلصها منها؟ تختلف تسريبات صحيفة «إسرائيل هيوم»، التي حملت عنوان «بنود صفقة القرن»، عن سابقاتها من وجوه عدة:
*الأول: يتعلق بطبيعة الأطراف المطالبة بالتوقيع على الصفقة. فالتسريبات السابقة كانت توحي بأن «صفقة القرن» ستبرم مع دول عربية مجاورة، وسيتم فرضها على الفلسطينيين الذين لم تعد إدارة ترامب تهتم كثيرا بمواقفهم، خاصة بعد قرار السلطة الفلسطينية وقف الاتصالات معها. أما تسريبات «إسرائيل هيوم» فتؤكد أن هذه الصفقة ستطرح في صورة اتفاق ثلاثي توقع عليه كل من إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية وحماس. يلفت النظر هنا أمران، الأول: خلو الصفقة من أي إشارة إلى السلطة الفلسطينية التي يفترض أن تحل منظمة التحرير الفلسطينية محلها. والثاني: أنها ليست مطروحة للتفاوض، وإنما للقبول أو الرفض فقط. فمن يقبل سيحصل على المغانم، ومن يرفض سيتحمل المغارم وستوقع عليه عقوبات مؤلمة، تشير إليها التسريبات من خلال نص شديد الدلالة يقول: «في حال رفض الصفقة من جانب حماس ومنظمة التحرير، ستقوم الولايات المتحدة بإلغاء كل دعم مالي للفلسطينيين، وستعمل جاهدة لمنع أي دولة أخرى من مساعدتهم. وإذا وافقت المنظمة، ولم توافق حماس أو الجهاد، فسيتعين عليهما تحمل كامل المسؤولية وبالتالي فستقوم، في حال حدوث أي مواجهة عسكرية، بدعم إسرائيل لإلحاق الأذى الشخصي بقادة حماس والجهاد، أما إذا رفضت إسرائيل الصفقة، فسيتوقف الدعم الاقتصادي لها».
*الثاني: يتعلق بما أثير عن تبادل الأراضي مع الدول المجاورة. فالتسريبات السابقة كانت تتحدث عن تعديلات حدودية مع الدول المجاورة، خاصة مع مصر، وعن تبادل للأراضي تتنازل مصر بموجبه عن مساحة كبيرة تستخدم لتوسيع قطاع غزة، في مقابل حصولها على مساحة أقل في صحراء النقب، أما تسريبات صحيفة «إسرائيل هيوم» فلا تشير إلى تعديلات في الحدود أو تبادل للأراضي، لكنها تتحدث في المقابل عن قيام مصر «بمنح أراض لإقامة مطار ومصانع لتنمية التبادل التجاري والزراعي الفلسطيني، بدون السماح للفلسطينيين بالسكن فيها»، بل تذهب إلى مدى بعيد حين تتحدث عن حجم هذه الأراضي وثمنها «واللذان سيتم الاتفاق عليهما بين الأطراف المعنية بواسطة الدول المؤيدة للصفقة»، أي الدول التي ستتحمل عبء تكلفتها الاقتصادية.
صفقة القرن تتعامل مع إسرائيل باعتبارها قوة عظمى، وتتعامل مع الدول العربية باعتبارها مشيخات غنية تحتاج إلى من يحميها
*الثالث: يتعلق بما إذا كانت الصفقة تتضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة. فالتسريبات السابقة كانت توحي بأن الصفقة لا تحبذ «حل الدولتين» وبالتالي ترفض إقامة دولة فلسطينية، غير أن تسريبات «إسرائيل هيوم» تتحدث عن دولة اسمها «فلسطين الجديدة»، وتشير إلى الضفة الغربية وقطاع غزة باعتبارهما وحدة واحدة ينبغي الربط بينهما عبر وسائل متعددة: «كوبري علوي يصل ارتفاعه إلى 30 مترا تتولى شركة صينية إقامته، وتشارك في تحمل تكلفته كل من الصين، بنسبة 50%، واليابان بنسبة 10%، وكوريا الجنوبية بنسبة 10%، وأستراليا بنسبة 10%، وكندا بنسبة 10%، وأمريكا والاتحاد الأوروبي معا بنسبة 10%،، وطريق للأتوستراد فوق الأرض، وناقل تحت الأرض للمياه المعالجة، الخ. تجدر الإشارة هنا إلى أن الكتل الاستيطانية ستظل، وفقا للتسريبات الأخيرة، تحت سيطرة إسرائيل، وستمتد مساحتها لتصل إلى المستوطنات المعزولة القائمة حاليا في مختلف مناطق الضفة، وهو ما يعني اقتطاع أكثر من 60% من مساحة الضفة وضمه لإسرائيل! ولن يسمح لدولة فلسطين «الجديدة» بإقامة جيش وطني، ولكن يمكنها فقط تشكيل قوات شرطية، وسيكون عليها توقيع اتفاق للأمن تتولى إسرائيل بموجبه الدفاع عنها وحمايتها من أي عدوان خارجي، وذلك «مقابل ثمن يتم التفاوض بشأنه بين إسرائيل والدول العربية».
*الرابع: يتعلق بالتكلفة الاقتصادية للصفقة. فالتسريبات الأخيرة تتضمن تفصيلات جديدة تشير إلى أن إجمالي هذه التكلفة يقدر بحوالي 30 مليار دولار، ستتحملها الدول الداعمة والمؤيدة للصفقة، على النحو التالي: الدول الخليجية المنتجة للنفط 70%، الولايات المتحدة 20%، الاتحاد الأوروبي 10%، كما تشير إلى أن هذه الأموال ستخصص لتمويل مشروعات تنموية في دولة فلسطين الجديدة تنفذ خلال خمس سنوات، كثمن يدفع مقابل ضم إسرائيل للمستوطنات اليهودية المقامة في الضفة الغربية.
*الخامس: يتعلق بمدة وشروط تنفيذ الصفقة، فالتسريبات الأخيرة تتضمن تفصيلات جديدة تشير إلى أن الصفقة ستنفذ على مراحل تستغرق خمس سنوات، حيث سيتعين على حماس بمجرد التوقيع على الاتفاق تفكيك تسليحها، بما في ذلك السلاح الفردي والشخصي لقادتها، وتسليمه للمصريين (مقابل رواتب شهرية تدفعها الدول العربية لهؤلاء القادة)، يلي ذلك فتح حدود قطاع غزة للتجارة العالمية، من خلال المعابر الإسرائيلية والمصرية، ودمج سوق غزة مع سوق الضفة الغربية، وتسهيل التواصل بينهما عن طريق البحر أيضا، وبعد عام من دخول الاتفاق حيز التنفيذ تقام انتخابات ديمقراطية يشارك فيها كل مواطن فلسطيني، ترشيحا وانتخابا، تكون أساسا لتشكيل حكومة فلسطين الجديدة، وبعد عام من تلك الانتخابات تبدأ إسرائيل في إطلاق سراح جميع الأسرى تدريجيا، على أن تنتهي من هذه العملية خلال ثلاث سنوات. ويفترض في نهاية الفترة الانتقالية أن تكون البنية الأساسية اللازمة لإقامة دولة فلسطين الجديدة، بما في ذلك إنشاء الميناء البحري والمطار والكوبري العلوي والاوستراد وناقل المياه المعالجة، قد تمت. وينبغي على إسرائيل تمكين الفلسطينيين من استخدام مطارات وموانئ إسرائيل، إلى أن يتم إنشاء البنية الأساسية الخاصة بهم، وعلى الفلسطينيين في نهاية المرحلة الانتقالية الإبقاء على الحدود مع إسرائيل مفتوحة أمام مرور المواطنين والبضائع «كما هو الحال مع الدول الصديقة».
لا أعتقد أن الصفقة التي سيتولى ترامب الإعلان عن تفاصيلها خلال الشهر المقبل ستختلف كثيرا عن تلك التي كشفت عنها صحيفة «إسرائيل هيوم»، ولا أعتقد ايضا أنه سيكون بمقدور أي من الأطراف الفلسطينية المخاطبة بها، وربما العربية أيضا، قبول «صفقة» تعطي لإسرائيل كل شيء، وتأخذ من الفلسطينيين كل شيء. فالصفقة تتعامل مع إسرائيل باعتبارها قوة عظمى في المنطقة، تستطيع تقديم الحماية لكل من يطلبها، وتتعامل مع الدول العربية باعتبارها مشيخات غنية تحتاج إلى من يحميها، ومن ثم عليها أن تدفع ليس فقط ثمن الحماية، وإنما أيضا تكلفة «تصفية القضية الفلسطينية» التي كانت يوما قضية العرب الأولى.
غير أنه ينبغي الانتباه إلى حقيقة تكاد تكون مؤكدة، وهي أن الرفض الفلسطيني لن يمر هكذا، وسيكون له ما بعده. لذا لا أستبعد أن يكون الطرح الأمريكي الرسمي للصفقة مرتبطا بعملية عسكرية كبرى يتم التحضير لها حاليا، فإسرائيل بقيادة نتنياهو والولايات المتحدة بقيادة ترامب. إن تمرير الصفقة يرتبط موضوعيا ليس فقط بتدمير حماس، وإنما أيضا بتدمير حزب الله وبتغيير النظام الإيراني. ولأنني لا أعتقد أنه يمكن تمرير الصفقة بمجرد الضغط على حماس عسكريا، لا استبعد أن تتطور الأمور إلى حرب إقليمية، رغم كل المحاذير المتعلقة بموازين القوى في النظام الدولي. لذا أظن أن الصفقة التي يقترحها ترامب لتسوية القضية الفلسطينية ليست إلا كابوسا لا أعرف كيف ستتعامل معه الأنظمة العربية الحالية.
القدس العربي