كلما زاد عطش الآلهة ازدادت القرابين، وكلما تمت التضحية بالقرابين شدّد الكهنة الحراسة على المعبد. هذا هو ملخص الوضع في الجزائر. تحوّلت الجماهير إلى آلهة عطشى لمزيد من الأضاحي، وغدا رجال المال والأعمال وأركان النظام قرابين على مذبح السلطة، وتقمّص العسكر دور الكهنة يلوذون بالمشهد في انتظار برق خاطف يقي المعبد من السقوط والانهيار والمجهول.
واقع جديد مفاجئ أمام سؤال الحيرة والقلق المستبد. إلى أين ستؤول الأحداث وأين ستذهب كل هذه الجماهير الغاضبة في شارع تائه ومضطرب انتفض في مواجهة سلطة أو نظام أو أياً كانت التسمية، انتفض كي يغيره أو يتغير؟ ماذا سيفعل الكهنة بالغضب والنفير اللذين يلازمان الأرصفة والشوارع والأزقة وفضاءات أخرى ووسائط ومنتديات وجماعات وأفراداً وأحزاباً ونخباً؟
”
خلق الحراك لحظة سحرية تترنّح بأحلام وطموحات وتطلعات
”
متى ستهدأ الآلهة كي يستقر المعبد ويخطو نحو الآتي كي تبدأ العملية الأصعب في كل هذا ألا وهي تجديد البلاط والأسقف والزوايا والغرف والساحات والطرقات وكل ما يحيط ويدور ويحوط ويقوم عليه المعبد؟ كيف سيتم تجديد الذهنيات وخلخلة العقليات وتطهير الأرواح وتشييد أنماط وطرق للعبادة والعمل بعد سيادة الكسل والخنوع والولاء وثقافة التتفيه والنكوص والنهب والاتكالية وغيرها من السلوكيات التي تدرب عليها المجتمع سواء عن رغبة أو عن صمت.
هل هناك وقت إضافي لمراجعة كل هذا بالنظر لما يعيشه هذا المجتمع من مسلّمات وخطابات جاهزة غدت مع الوقت بديهيات لا تقبل النقد موصوفة بالقداسة والتدجين.. وفي وقت تتراجع الثروة والتنمية وتضيق سبل الحياة البسيطة؟
■ ■ ■
خلق الحراك لحظة سحرية تبدو في ظاهرها مالكة لمصيرها ومستقبلها وتاريخها مبتعدة بذلك عن تواريخ أخرى تقدست بالدم من أجل التحرر والاستقلال أو عن تواريخ أخرى كتبت زوراً وتلفيقاً وكذباً. لحظة تترنح بأحلام وطموحات وتطلعات ومطالب ترتفع وتيرتها وتوغل في ذلك وتصل حتى إلى المستحيل والتعجيز، أكان ذلك عن وعي أو عن تعنت أو عن مصلحة…
لا يهم ما دام الشارع قد تحوّل إلى آلهة مقدسة تقول الكلمة وتقرر الفعل وترسم مصائر من عاثوا في البلاد وأفسدوا العباد، وهو تحوّل مدعوم من سلطات متنوعة ومختلفة أفرزتها وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الخاصة ومختلف وسائل الاتصال الأخرى.
ولم ينجح معها إلى حد الآن أي خطاب أو حل مقترح أو مفروض أو متزن أو عقلاني يريد أن يتحرّر من هذه القبضة المفتوحة على كل احتمال قد يؤدي إلى الانفجار أو الفوضى، فالشارع اليوم هو ملتقى كل غاضب ومتمرد وكاره ويائس ومتفائل وحالم ورومانسي وثوري وانتهازي ومظلوم وظالم ومتعصب ومتفتح وفقير وغني وسياسي ونقابي وصحافي وكاتب وطبيب ومريض ومسلم وعلماني وكافر ومجاهد وإمام وطالب وأستاذ. الكل له سياقه ومبررات وجوده وأسباب اندفاعاته.
■ ■ ■
وبعين فاحصة ومدققة ومغلفة بالحيطة والحذر ينظر الكهنة إلى الآلهة بكثير من التسامح والصبر والأناة، وبقدرة فائقة على التحرك والمناورة بدأوا في امتصاص الانفعال والهياج والغضب حرصاً على تجنب الفوضى والتهديد والانفلات، وللقيام بذلك كان عليهم أن يقدموا قرابين ورؤوساً لتأمين الوقت اللازم من أجل أن يخفت الشارع وينهك ويدخل في حالة من الخمول والتردد وهو ما طبع الحراك في الآونة الأخيرة حيث ظهرت علامات الإرهاق والتعب وتكررت الأهازيج والأغاني والمشاهد والشعارات والوجوه والرموز والنبرات دون أن تلوح في أفق هذا الوضع عناصر تبشر بالخلاص.
■ ■ ■
وجد الكهنة مرة أخرى أنفسهم في مقتضيات هذه اللحظة السحرية لا ليتعلموا مما يمكن أن تمنحه من فتوحات ومضامين للابتعاد قدر الإمكان عن الخوض في ما يختاره المجتمع بعد أن بدأت عملية تفكيك النظام تتوالى، بل وقعوا تحت طائل حراك لا نهائي يسير ويسير، ولم يجد الكهنة من شيء لإطفاء الظمأ والعطش سوى المزيد من القرابين.
■ ■ ■
أمام نزوع الحراك نحو المزيد من التعنت والعداء لكل ما يرمز للنظام وخلو نظرته من أفكار صارمة واقعية، تظل عتباته مبهمة تسبح في أوهام تتحكم في أفعاله وحركاته وسكناته، يبقى ينتظر ما يقدمه إليه الكهنة وما يرسمونه له من استراتيجية وأدوار وآمال، وفي هذا ما سيجره إلى التفكك الناعم ما لم تظهر بوادر تقلب الكفة وتطرح رؤية أعمق من مجرد فكرة رحيل النظام واستبداله بآخر قد يكون هو نفسه بملامح أخرى، بل وتؤسس لتغير جذري وثري يمس الأسس التي عززت من سلطة الكهنة والقرابين.
العربي الجديد