يشكّل خط الأنابيب بين العراق وتركيا ملكية مشتركة بين الدولتين ويخضع للاتفاقيات الدولية. ومن وجهة نظر أنقرة، تسمح هذه الاتفاقيات لـ «إقليم كردستان العراق» بالوصول إلى خط الأنابيب مباشرةً، لكنّ بغداد ترى الأمور بطريقة مختلفة وقد رفعت دعوى على تركيا أمام “غرفة التجارة الدولية”. وبينما تُشرف هيئة التحكيم في هذه الغرفة على إصدار حُكمها، لا بد من أن تُسرِع واشنطن في الإشراف على عملية صياغة تسوية تَردع أنقرة عن إيقاف صادرات النفط العراقية – لا سيّما في زمنٍ تبرز فيه الحاجة في السوق إلى كل برميل ليحلّ محل النفط الإيراني الخاضع للعقوبات.
من الاتفاق إلى التحكيم
إن خط أنابيب العراق-تركيا هو ثنائي خط أنابيب نفطي كبير الحجم تم تطويره لكي يتمكن العراق من تصدير أكثر من مليون برميلٍ من النفط الخام يومياً إلى منطقة المتوسط عبر ميناء جيهان التركي. وقد وقّعت الدولتان اتفاقية خط أنابيب العراق-تركيا في عام 1973، مع بعض التحديثات في الأعوام 1976 و1985 و2010. وتنص هذه الاتفاقية على أن الحكومة التركية “يجب أن تمتثل لتعليمات الجانب العراقي فيما يتعلق بحركة النفط الخام الآتي من العراق في كافة مراكز التخزين والتصريف والمحطة النهائية”. وعند تمديد الاتفاقية في عام 2010، أكّدت تركيا أن “الجهة العراقية” هي في تحديدها “وزارة النفط في جمهورية العراق”، مع إدراج بندٍ يعفي المستندات السابقة لخط أنابيب العراق-تركيا من هذا التحديد.
منذ أوائل عام 2014، سمحت أنقرة لـ «إقليم كردستان العراق» بتصدير النفط بشكلٍ مستقل عن وزارة النفط الفدرالية من أجل استبدال تحويلات الميزانية العراقية المحتجزة، وربط خطوط الأنابيب الكردية بخط أنابيب العراق-تركيا في بلدة فيش خابور الحدودية الخاضعة لسيطرة «إقليم كردستان العراق». وقد مكّن ذلك «إقليم كردستان العراق» من بيع نفطه مباشرةً إلى السوق والاحتفاظ بالإيرادات؛ وتَعتبر بغداد هذه الممارسة غير قانونية، لكنّ الأكراد يعتبرونها تعويضاً عن الرواتب المستقطَعة. وفي أيار/مايو 2014، حثّ هذا الخلاف “شركة تسويق النفط” العراقية على رفع دعوى خاضعة لتحكيم “غرفة التجارة الدولية” نيابةً عن وزارة النفط. والمدّعى عليه هو الحكومة التركية، التي تمثّلها شركة “بوتاش” المشغّلة لخط الأنابيب والمملوكة من الدولة. وتزعم الدعوى أنه “من خلال نقل النفط الخام وتخزينه من كردستان، ومن خلال تحميل ذلك النفط الخام على الناقلة في جيهان، وكل ذلك من دون تفويض وزارة النفط العراقية، خرقت تركيا وشركة ‘بوتاش’ التزاماتهما بموجب ‘اتفاقية خط أنابيب العراق-تركيا’ “.
وبعد سنواتٍ من التطورات الهادئة وراء الكواليس – والتعديل إلى ما لا نهاية واستبدال محكّم العراق – أشرفت القضية الآن على الانتهاء، ويُتوقَّع أن تُصدِر “غرفة التجارة الدولية” قرارها في شهر آب/أغسطس أو أيلول/سبتمبر. والمحاكم التركية ملزَمة باحترام قرارات التحكيم الأجنبي، لذا سيؤدّي أي حُكم ضد أنقرة و”بوتاش” إلى إلزامهما باتّباع تعليمات بغداد بشأن تسويق كافة النفط الخام وتحميله في جيهان، بما فيه النفط الخام الذي يشغّله الأكراد وتُنتجه شركات النفط الدولية. وقد يَفتح الحُكم الأوّلي المجال أمام بغداد للمطالبة بالتعويضات في جلسات إضافية في “غرفة التجارة الدولية” في العام القادم.
المصالح الأمريكية في خطر
ستوجّه مثل هذه النتيجة ضربة قاسية إلى حلفاء الولايات المتحدة ومقتضيات السياسة على حدٍ سواء. ففي تركيا، من المرجح أن يمسّ أي حُكم غير مواتي لأنقرة بكبرياء الرئيس رجب طيب أردوغان في وقتٍ تنهار فيه الثقة الاقتصادية في بلاده. وفي «إقليم كردستان العراق»، سيفقد الأكراد وشركاؤهم التجاريون في قطاع النفط أي حافز إضافي يدفعهم إلى تصدير النفط الخام وسيكون أي تهديد يصدر عنهم بإيقاف الإنتاج مبرراً. وإذا أغلق كلا الطرفين خط أنابيب العراق-تركيا، سيخسر سوق النفط العالمي ما يقرب من نصف مليون برميل في غضون أسابيع.
في نيسان/أبريل، كان خط أنابيب العراق-تركيا ينقل 392 ألف برميل يوميّاً من النفط الخام الذي يشغّله «إقليم كردستان العراق» و86 ألف برميل يوميّاً من النفط الخام الذي تُنتجه جمهورية العراق الفدرالية من كركوك، أي ما مجموعه 478 ألف برميل يوميّاً. وسيُحدث الفقدان الفجائي لهذه التدفقات وقعاً كبيراً، ويعزى ذلك جزئياً إلى قيام الولايات المتحدة مؤخراً بتسريع حملتها لإيقاف صادرات النفط الإيرانية ردّاً على سياسات النظام الإقليمية والنووية. إن إغلاق خط أنابيب العراق-تركيا سيجعل من الصعب تخلي سوق النفط الخام المتوسط في تركيا وحوض البحر المتوسط عن النفط الإيراني. ففي الوقت الحالي، يشكّل خط الأنابيب مصدر النفط الخام الرئيسي لتركيا، إذ وفّر 24 بالمائة من وارداتها في آذار/مارس. ومع ذلك، تنتظر روسيا وإيران حلول لحصة السوق العراقي، حيث أنهما توفران 15 و12 في المائة من النفط التركي على التوالي (إلى جانب 53 و 20 في المائة من استيرادات تركيا من الغاز الطبيعي). ولا يريد أيٌّ من واشنطن وأردوغان أن تعتمد تركيا بصورة أكثر على هاتين الجهتين في ميدان الطاقة. وتبقى إيران الرابح الأكبر من عملية إغلاق خط أنابيب العراق-تركيا، الأمر الذي من شأنه أن يعزز استراتيجيتها في تصدير الطاقة بين الشرق والغرب على حساب الترتيب المفضل للولايات المتحدة للصادرات بين الجنوب والشمال من العراق إلى تركيا.
في المقابل، من مصلحة كلٍ من الولايات المتحدة والعراق وتركيا و «إقليم كردستان العراق» الإسراع في تجميد تحكيم خط أنابيب العراق-تركيا وتسوية القضية. وقد سعى كلٌّ من أنقرة والأكراد وواشنطن بشكل مشترك إلى إقناع بغداد بتأجيل قرار التحكيم، إلا أن جهودهم باءت بالفشل حتى الآن. وتعتقد الحكومة العراقية أنها ستفوز على الأرجح بحُكمٍ لصالحها في “غرفة التجارة الدولية”، لذا سيكون التمهل في استكمال العملية صعباً من الناحية السياسية بالنسبة لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي، الذي يتعرّض بالفعل لانتقادات بسبب إبرام اتفاق متعلق بالميزانية يحوّل مبلغ 490 مليون دولار شهريّاً إلى «إقليم كردستان العراق» من دون الحصول على تنازلات مباشرة في المقابل. ومن غير الواقعي توقُّع تخلّيه عن ممارسة الضغط على تركيا أيضاً من دون الحصول على بعض التنازلات في المقابل من أنقرة.
ومن المقرر أن يقوم عبد المهدي بزيارة أنقرة في 14 أيار/مايو لعقد ما سيُعتبَر اجتماعاً حاسماً بشأن هذه القضية الحسّاسة قبل جلسات الاستماع النهائية في “غرفة التجارة الدولية” (في حزيران/يونيو أو تموز/يوليو) والحُكم الذي ستصدره هذه “الغرفة” (في تموز/أغسطس أو أيلول/سبتمبر). على الولايات المتحدة أن تقدّم حججاً مقنعة إذا كانت تأمل في التغلب على حذر عبد المهدي ومواجهة التعزيز الإيراني للضغوط الداخلية التي يواجهها. ويعني ذلك العمل بنشاط وبشكلٍ مباشر مع كافة الجهات لضمان جني الثمار من اجتماع أنقرة، لكي يستطيع عبد المهدي استخدامها لاحقاً عند عودته إلى وطنه لتبرير تجميد التحكيم.
إن العلاقات بين واشنطن وأنقرة ليست جيدة بشكل خاص في الوقت الحالي بسبب التوترات على جبهات مختلفة (على سبيل المثال، مبيعات الصواريخ الروسية “S-400” إلى تركيا؛ الترتيبات الأمنية الشائكة في شمال سوريا). ومع ذلك، عندما يجتمع المسؤولون الأمريكيون مع القيادة التركية في المدى القريب، لا بد من أن يذكروا بوضوح التحكيم المتعلق بخط أنابيب العراق-تركيا، وأن يحثّوا أنقرة على عدم المبالغة في رد الفعل على قرار غير موات إذا استمرت القضية. وباستطاعتهم تعزيز هذه الرسالة عبر شركائهم الأوروبيين الذين يتمتعون بعلاقاتٍ أقل إثارة للجدل مع أنقرة؛ ولا بد من أن يكون هؤلاء الحلفاء أكثر من مستعدين للمساعدة، لأن القليل منهم يريدون رؤية «إقليم كردستان العراق» غارقاً في أزمة اقتصادية، أو صعود قوة روسيا أكثر فأكثر، أو إدراج تركيا على القائمة السوداء بسبب إغلاق خطوط الأنابيب أو تجاهل قرارات التحكيم.
وحاليّاً تتمتع واشنطن بعلاقات أفضل مع بغداد، لذا فقد تتمكن من إقناع عبد المهدي بالموافقة على إرجاء التحكيم مقابل الدعم القوي في مسائل أخرى. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يدفع المسؤولون الأمريكيون باتجاه الإزالة النهائية للقاعدة العسكرية التركية في بعشيقة، العراق، حيث احتلت القوات التركية مخفراً أماميّاً جديداً يطل على الموصل في عام 2015. ومن المؤكد أن عبد المهدي سيثير هذه المسألة خلال زيارته لأنقرة، لكنّ تركيا أبدت حتى الآن تصلباً في موقفها بشأن هذا الموضوع.
وتستطيع واشنطن أيضاً أن تعرض مكافأة على العراق من خلال إعفاء آخر لمدة تسعين يوماً على المشتريات المشروطة للغاز والكهرباء من إيران، ما سيكون أقل ضرراً بالمصالح الأمريكية من انهيار صادرات الطاقة في شمال العراق. إن تمديد هذه الإعفاءات هذا الصيف سيكون له فائدة إضافية تتمثل في منع إيران من الحصول على فرصة إلقاء اللوم على الولايات المتحدة بسبب أي انقطاعات موسمية للطاقة في العراق.
معهد واشنطن