يعيش النظام الرسمي حالة جمود لم يسبق أن مرت عليه. لهذا يقف مصدوما أمام الأحداث التي تدور من حوله بينما يمارس رئيس الولايات المتحدة، بحق العالم العربي، نمط من القرصنة في طول الاقليم وعرضه. يبدو العالم العربي لكل مراقب بلا وزن وبلا قيمة، إذ يتجلى ضعفه في مؤشرات التعليم و الصحة و الحرية والعدالة والشفافية وفوق كل هذا الإنتاج إضافة لمحاربته بعضه البعض واعتماده المبالغ به على الخارج على حساب الداخل. وبينما تتميز الأنظمة العربية بقوة الرقابة والمنع وأجهزة المخابرات إلا أنها دول ضعيفة في العناصر التي تشكل الدول وتمدها بالقوة. تناقض غريب: أنظمة قوية لديها القدرة على البطش والتوغل والتفرقة وبنفس الوقت هي دول ضعيفة تنقصها العدالة وروح المساواة أسس الحرية، لهذا تعود هذه الدول لأبسط مكوناتها عند أدنى هزة. لهذه الأسباب رضخت أجزاء كبيرة من النظام العربي للخارج. ولهذا السبب، ولا غيره، نجح كوشنر، صهر الرئيس ترامب السطحي الهلامي، بوضع العالم العربي في مهب الريح.
في الجوهر لا توجد صفقة، فالصفقة تقع بين متساويين بعد مفاوضات تتميز ببعض العدالة. ما يقع الان هو تثبيت لسياسات اسرائيلية يمينية وعنصرية صار لها عقود. هذ السياسات الإسرائيلية قامت بسرقة أراضي الفلسطينيين وبممارسة عمليات قمع ومصادرة واستيطان وطرد. فالولايات المتحدة تقدم لإسرائيل الآن الصيغة التي ترتئيها والمساحة التي تحتاجها والمستوطنات التي تريد تثبيتها واقتطاعها من الارض المحتلة، كما وتقدم لها القدس بكل معانيها ورمزيتها. وقد ألغت السياسات الأمريكية الجديدة كل ما إرتبط باتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين والتي تنص على التفاوض على قضايا اللاجئين والقدس والسيادة (حق تقرير المصير) والحدود والإستيطان. ان مقدمات التصفية واضحة المعالم: استمرار الاستيطان في الضفة الغربية، إيقاف الولايات المتحدة للمساعدات للفلسطينيين واللاجئين بما في ذلك وكالة غوث اللاجئين، الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، الانسحاب الأمريكي من اليونسكو احتجاجا على موقف اليونيسكو تجاه فلسطين، والاعتراف الأمريكي في الجولان تحت السيادة الإسرائيلية.
ان الاستخفاف الأمريكي والاسرائيلي بالوضع الفلسطيني والعربي لا يأخذ بعين الاعتبار ان في قلب الشعب الفلسطيني حراكا وأسئلة وجودية كثيرة وأجواء مقاومة واستعدادا للمواجهة والتضحية
يذكر خالد الجندي في كتابه ( 2019) وعنوانه: «نقطة عمياء : أمريكا والفلسطينيين»، مدى الانحياز الأمريكي للقوة الإسرائيلية. فالسياسة الأمريكية تنطلق من ان إسرائيل هي الدولة التي تتطلب الحماية والدعم وليس الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال والتهجير. الصهيونية نجحت في تلوين الرؤية الأمريكية للحد الذي لا ترى عبره الاحتلال احتلالا والقمع قمعا والقتل قتلا. من جهة أخرى يؤكد خالد الجندي بأن الولايات المتحدة تراعي، في كل مطلب لها، الأوضاع الداخلية لإسرائيل من حيث الرأي العام ومواعيد الانتخابات، أما عندما يصل الأمر للفلسطينيين فهي بالعكس تسعى لإحراج قادتهم وإضعاف شرعيتهم في ظل ظروف صعبة ناتجة عن الاحتلال والقهر. الواضح أن الولايات المتحدة، خاصة في زمن الرئيس ترامب، لم تترك مناسبة دون إحراج القادة العرب مع جمهورهم ومواطنيهم وذلك من خلال تصريحات مهينة وإستفزازية. السعي الأمريكي لتلبية احتياجات إسرائيل في ظل غياب الإهتمام بإحتياجات الفلسطينيين والعرب يوضح مدى العبث الأمريكي، ويفسر كيف تم تسليم احد أقدس القضايا العربية والإسلامية لجاريد كوشنر الذي ما كان يمكن له أن يكون في موقعه في البيت الأبيض إلا بصفته صهر الرئيس ترامب.
ان الاستخفاف الأمريكي والاسرائيلي بالوضع الفلسطيني والعربي لا يأخذ بعين الاعتبار ان في قلب الشعب الفلسطيني حراكا وأسئلة وجودية كثيرة وأجواء مقاومة واستعدادا للمواجهة والتضحية. إن مقاومة محاولات تصفية القضية الفلسطينية ستشكل احد اعمدة المرحلة القادمة، وهي مقاومة لن تكون بعيدة عن العمق العربي والإسلامي. فالعبث الأمريكي في منطقة الخليج من خلال توتير الاجواء مع إيران وتوريط دول المنطقة في نزاع جديد هو نفسه العبث الساعي لتصفية القضية الفلسطينية. لهذا فمقاومة السياسة الأمريكية لن تكون فقط فلسطينية، فهي أيضا عربية و إسلامية، وتشمل كل الدول التي تتضرر من صفقة القرن. في الجوهر: الشعب الفلسطيني لم يستسلم، و لم يرفع الراية البيضاء، ولا المنطقة العربية استسلمت للسياسة الأمريكية الفاقدة للتوازن. وبالرغم من كل المرونة التي أبداها قادة الحركة الوطنية الفلسطينية منذ اتفاقات أوسلو حتى اليوم، وبالرغم من مرونة العرب في المبادرة السلمية العربية للقمة العربية 2002 الا ان الأوضاع سارت بالاتجاه المناقض، فلم ينتج عن تلك المرونة الا مزيدا من العدوان والفتك.
حالة السلطة الفلسطينية، التي اصبحت اقرب لسلطة حكم ذاتي محدود، وحالة حماس في غزة حيث الحصار الشامل وحيث القوة العسكرية الدفاعية التي لا يبدو انها تحمل أفقا تحرريا للوضع الفلسطيني تؤكد بأن الفلسطينيين يبحثون عن مخرج ثالث لمحنتهم. صفقة القرن ستزيد من محنتهم وغضبهم لأنها ستسرق المزيد من اراضيهم كما ستؤدي لمزيد من التطهير العرقي في مناطق مختلفة من فلسطين، بل ان الصفقة ليست صفقة بقدر ما هي احتلال وفرض من جانب واحد. لهذا يواجه الوضع الفلسطيني اليوم ذات الاسئلة التي واجهها في اعقاب نكبة 1948، حيث الضياع و الشتات واللجوء وحيث التوزع الجغرافي والظروف القاسية والمخيمات. تعود اليوم ذات الاسئلة عن المستقبل وعن النضال، وعن الاشكال التنظيمية والسياسية المطلوبة، وعن الإطار القادم و كيفية استعادة مشروع الحركة الوطنية الفلسطينية التحرري.
وبينما تتواجه القضية الفلسطينية مع خطر التصفية، تتعزز حراكات لشعوب عربية لديها أمل بالمستقبل، ويتعزز وعي شعب فلسطين المكون من 12 مليونا. الاوضح لي أن جيلا جديدا من المقاومين الفلسطينيين كما والعرب يتكون اليوم في الداخل والخارج، هذا الجيل لم يعد يتقبل لغة وخطاب وأسلوب الجيل المسيطر اليوم. الجيل الجديد يطرح الاسئلة الكبرى أمام ضعف ما تم بناؤه من قبل النظام العربي. هناك جيل فلسطيني وعربي يعيش مع عشرات التحديات، لكنه يبحث عن مناخ جديد، عن شكل جديد و عن حراك جديد وأطر مختلفة. هناك شيء ما يموت لأن زمنه انقضى، لكن هناك أشياء جديدة في طور التكوين والولادة. لم ينته التاريخ، وهو بالكاد قد بدأ.
القدس العربي