يصادف يوم 15 مايو ذكرى مرور 71 عاما على «النكبة» التي حلت بالشعب الفلسطيني. ولأنها ذكرى لا تهم شعب فلسطين وحده، وإنما الشعوب العربية قاطبة، فهي تستحق أن نتوقف عندها بالتأمل لعلنا نستطيع أن نستخلص مما جرى للعالم العربي منذ ذلك الوقت، دلالة تمكننا من الإجابة على السؤال التالي: هل بمقدور الدول العربية أن تتعايش سلميا مع إسرائيل، إذا تمت تصفية القضية الفلسطينية؟ وبأي شروط؟ ولأنني أنتمي إلى ما يمكن أن نطلق عليه «جيل النكبة»، فقد خطر ببالي أن أحاول البحث عن إجابة لهذا السؤال الملح، ليس من موقعي كباحث أو دارس لعلم السياسة، وإنما من موقعي كمواطن تزامن وصوله إلى هذه الحياة الدنيا مع الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع تقسيم فلسطين!
لم يكن عمري قد بلغ العامين حين حلت «النكبة» بالشعب الفلسطيني، الأمر الذي حال دون معايشتي الشخصية لوقع هذا الحدث الجلل على النفوس، لكنني عايشت بكل مشاعري جميع الحروب العربية الإسرائيلية التالية، طفلا في حرب 56 وشابا إبان الحروب الثلاث اللاحقة في 67، وفي 68 – 70 (حرب الاستنزاف) وفي حرب اكتوبر 73. كما عايشت في مرحلة الرجولة والنضج محاولات الأنظمة العربية التوصل إلى تسوية سلمية للصراع مع إسرائيل، بدءا بزيارة السادات للقدس، وانتهاء بإبرام كل من منظمة التحرير الفلسطينية والأردن اتفاقيتي أوسلو ووادي عربة. وها أنذا أتابع اليوم، في مرحلة الكهولة وخريف العمر، مناورات ترامب لإبرام «صفقة القرن» لتصفية القضية الفلسطينية. فما هي القناعات التي خلصت إليها من متابعتي لهذه التي استغرقت عمري كله؟ هذا سؤال متعدد الأبعاد، سأحاول صياغة وتلخيص إجابتي عليه في نقاط محددها أعرضها على النحو التالي:
لم تكن فلسطين هي وحدها المستهدفة، فقد حددت الحركة الصهيونية لنفسها غاية عظمى أصرت على ألا تتخلى عنها مهما كانت الظروف، ألا وهي إقامة دولة يهودية على ما تعتبره حدودا «توراتية» تمتد من النيل إلى الفرات. دليلنا على ذلك أن دولة إسرائيل لم تعلن لنفسها حتى الآن حدودا جغرافية واضحة ونهائية. يثير التأمل هنا أن قيادة الحركة الصهيونية استخدمت منهج «إدارة الصراع» بدلا من حله، وهو منهج يقضي بقبول حلول مرحلية أو مؤقتة، قد تمليها موازين القوى على الأرض في مراحل معينة، مع التمسك العنيد بالغايات النهائية، ورفض التخلي عنها مهما كانت المعوقات، حتى لو اضطرت لنقض ما سبق لها أن وقعت عليه. واتساقا مع هذا النهج قبلت بمشروع التقسيم عام 47 ثم بإعلان قيام دولة إسرائيل في نطاق الحدود التي رسمها هذا المشروع، لكن ذلك لم يمنع دولة إسرائيل لاحقا من انتهاز كل فرصة للتوسع لاحت لها، ولم تتخل إطلاقا عن أراض احتلتها، إلا إذا أضطرت لذلك كرها، تحت ضغوط دولية، أو طوعا، لأسباب تكتيكية تتفق مع رؤيتها لإدارة الصراع. لذا يلاحظ أنها رفضت العودة إلى حدود التقسيم بعد حرب 1948، ولم تتخل عن سيناء التي احتلتها عامي 56 و67 إلا بعد أن اجبرها المجتمع الدولي على ذلك في المرة الأولى، أو كثمن اضطرت لدفعه مقابل إخراج مصر من المعادلة العسكرية للصراع، في المرة الثانية. كما يلاحظ أيضا أنها ما تزال ترفض بإصرار أن تنسحب من كل الأراضي العربية التي احتلتها عام 67، رغم استعداد الدول العربية لإبرام تسوية نهائية تقوم على مبدأ «الأرض مقابل السلام». وفي جميع الأحوال فقد كانت هناك إرادة صهيونية موحدة تدير الصراع، سلما أو حربا، وتتولى حشد وتعبئة إمكانياتها في مواجهة القوى التي تعترض طريقها.
لم تكن هناك، في المقابل، إرادة عربية موحدة لإدارة الصراع مع الحركة الصهيونية، سواء في مرحلة المواجهة العسكرية، أو في مرحلة البحث عن تسوية سلمية. ويعود ذلك إلى أسباب عدة، أهمها تعدد النظم العربية المنغمسة في الصراع، وعدم إدراك هذه النظم لطبيعة المشروع الصهيوني وما ينطوي عليه من مخاطر وجودية بالنسبة للشعوب العربية. ولكي لا نقع في مصيدة جلد الذات، علينا أن نعترف بأن إرادة الدول العربية كانت مقيدة بسبب وقوعها تحت الاحتلال أو النفوذ الأجنبي المباشر، خاصة إبان المرحلة التأسيسية للمشروع الصهيوني، فضلا عن أن معظم النظم العربية التي تولت الحكم في الأقطار العربية لم تكن تعبر عن إرادة شعوبها، حتى في مرحلة ما بعد الاستقلال، وغالبا ما كانت تعتمد على قوى خارجية لتحقيق أمنها ومصالحها، الأمر الذي حال دون تمكنها من حشد وتعبئة كل طاقاتها ومواردها لحسم الصراع لصالحها، سلما أو حربا.
العجز عن التصدي لنزعة إسرائيل التوسعية أصاب غالبية الشعوب العربية بنكبات تجعله يبدو اليوم على وشك الانهيار والسقوط
لعب العامل الخارجي دورا فاعلا في مساعدة الحركة الصهيونية على تحقيق أهدافها، وفي عرقلة جهود العالم العربي الرامية لإجهاض هذا المشروع أو للحد من خطورته. فقد كان العالم العربي جزءا من امبراطورية توشك على الانهيار حين شرعت الحركة في إطلاق مشروعها، الذي تطابقت مصالحه إلى حد كبير مع مصالح الدول الاستعمارية الراغبة في إرث التركة الامبراطورية العثمانية. يضاف إلى ذلك أن تحالف القوى العربية الصاعدة، سواء مع بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى، أو مع الاتحاد السوفييتي، إبان مرحلة الحرب الباردة، لم يكن بالقوة التي تمكنه من التصدي للمشروع الصهيوني، أو حتى وقف تمدده. في المقابل، استطاعت الحركة الصهيونية أن توظف تحولات النظام الدولي لصالحها في مختلف المراحل، وأن تعقد أوثق التحالفات مع القوى الأكثر تأثيرا فيه، الأمر الذي يفسر اعتمادها على بريطانيا في البداية، ثم على الولايات المتحدة في مرحلة لاحقة، بل كانت هي المستفيد الأكبر من سقوط وانهيار الاتحاد السوفييتي. غير أن النجاح الأكبر للحركة الصهيونية يكمن في تمكنها من عقد أوثق الصلات مع الولايات المتحدة، خاصة بعد فشل مغامرة «العدوان الثلاثي» عام 1956، التي اعتمدت عليها لتصفية القوى التي شكلت تهديدا للمشروع الصهيوني في مراحل تطوره المختلفة: عبد الناصر في 67، صدام في 1990 و2003، وها هي إسرائيل تبذل اليوم كل ما في وسعها لجر الولايات المتحدة نحو حرب تستهدف تصفية محور الممانعة، الذي تقوده إيران، بمشاركة كل من حزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين. في المقابل، لم تنجح أي تحالفات عربية مع الولايات المتحدة في دفع الأخيرة للقيام بأي دور إيجابي لصالح القضية الفلسطينية، أو للتوصل لتسوية تضمن حدا أدنى من الحقوق الفلسطينية والعربية.
كان بمقدور العالم العربي، رغم ذلك كله، أن يرتفع إلى مستوى التحدي في لحظات تاريخية معينة، تمكن خلالها من إنهاء أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وهو ما حدث حين كادت الجيوش النظامية العربية، عبر تنسيق عسكري مخطط ومحكم بين مصر وسوريا، أن تلحق بإسرائيل هزيمة كبرى في حرب 1973، وحين تمكن حزب الله من إجبار إسرائيل على الانسحاب غير المشروط من جنوب لبنان عام 2000، وحين عجزت آلة الحرب الإسرائيلية عن كسر إرادة المقاومة المسلحة، ممثلة في حزب الله، إبان الحرب التي شنتها على لبنان عام 2006، أو في حماس، إبان سلسلة الحروب التي شنتها على قطاع غزة خلال 2008 و2012 و2014.
الخلاصة: كانت قناعتي تزداد رسوخا يوما بعد يوم، منذ أن بدأ وعيي يتفتح على طبيعة المشروع الصهيوني، بأن هذا المشروع يشكل مصدر التهديد الأكبر على شعوب وحكومات الدول العربية بدون استثناء. فقد تعاملت الحركة الصهيونية مع الشعب الفلسطيني باعتباره العدو الأول الذي ينبغي عليها أن تفعل كل ما في وسعها لإجهاض قواه الحية، ومنعها من التوحد في مواجهتها، واعتبرت في الوقت نفسه أن تراكم عناصر القوة لدى أي من الدول العربية، خاصة إذا كانت تشغل موقعا مركزيا أو مؤثرا في النظام العربي، يشكل خطرا حالا أو محتملا عليها، ومن ثم فعليها أن تفعل كل ما في وسعها لمنع هذا التراكم، بل العمل على تدمير عناصر القوة إذا تجاوزت حدا معينا، كما اعتبرت أن أي محاولة لتوحيد العالم العربي أو العالم الإسلامي، أو حتى العالم الثالث، يشكل خطرا استراتيجيا على مصالحها، ومن ثم فعليها ان تبذل كل ما في وسعها لبذر بذور الشقاق بينها والحيلولة دون حدوث أي تقارب بينها. وللأسف فقد ارتكبت العديد من الأنظمة والحركات العربية أخطاء قاتلة ساعدت إسرائيل على تحقيق أهدافها، كان من أهمها: 1- قرار السادات زيارة القدس والتوقيع على معاهدة سلام منفصلة مع إسرائيل في نهاية السبعينات 2- قرار صدام حسين شن الحرب على إيران في بداية الثمانينيات ثم غزو واحتلال الكويت في بداية التسعينيات 3- قرار عرفات بالتوقيع على اتفاقية أوسلو، رغم خلوها من أي نص يلزم إسرائيل بوقف الاستيطان، وأخيرا إقدام كل من السلطة الفلسطينية ومنظمة حماس على تبني سياسات أدت في النهاية إلى تكريس الانقسام الفلسطيني، وفصل القطاع عن الضفة عمليا.
فشل العالم العربي في الحيلولة دون قيام دولة إسرائيل على الجزء المخصص لها في مشروع التقسيم، أدى إلى «نكبة» أصابت الشعب الفلسطيني منذ 71 عاما، لكن عجزه عن التصدي لنزعة إسرائيل التوسعية أدى إلى إصابة غالبية الشعوب العربية بنكبات كثيرة متلاحقة، تجعله يبدو اليوم على وشك الانهيار والسقوط. لذا فالنتيجة الرئيسية التي توصلت إليها هي قناعتي بأنه لن يكون بمقدور العالم العربي أن ينهض جديد، إلا حين تستعيد أنظمته الحاكمة وعيها المفقود بخطورة المشروع الصهيوني، وبحتمية التصدي له، وهو أمر لن يتحقق إلا حين تصبح هذه الأنظمة ممثلة لشعوبها ومعبرة عن إرادتها الحرة.
القدس العربي