سقوط قتلى وجرحى أثناء “احتجاجات” ضد فاسدين بجنوب العراق، مظهر على الاستهانة بالأرواح البشرية واستسهال حمل السلاح واستخدامه بشكل عشوائي، وهو أيضا نتيجة سطو قوى غير نظامية على اختصاصات الدولة ومحاولتها تطبيق “العدالة” على طريقتها ووفق منظورها الخاص ومصالحها الذاتية.
النجف (العراق) – لفت سقوط قتلى وجرحى أثناء محاولة متظاهرين من أتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر اقتحام مركز تجاري في مدينة النجف بجنوب العراق، النظر مجدّدا إلى معضلة تفشي الفساد في العراق، لكنه سلّط الضوء بذات القدر على ضعف هيبة الدولة العراقية وسطو قوى دينية وسياسية وميليشيات مسلّحة على صلاحياتها التي يفترض أن تكون محصورة بيدها ومن ضمنها محاربة الفساد بالطرق القانونية وإنفاذ القانون ضدّ المتورّطين فيه وفق الآليات والأساليب النظامية التي تحفظ الأرواح وتحمي الممتلكات.
وقال مصدر عسكري عراقي، الخميس، إن حصيلة ضحايا أعمال العنف التي اندلعت بالنجف جنوبي البلاد ليلة الأربعاء ارتفعت إلى 4 قتلى و17 جريحا بعضهم حالته حرجة.
وحاول المئات من المحتجين اقتحام مركز البشير التجاري التابع لأحد المقربين من زعيم التيار الصدري الذي تم طرده مؤخرا من التيار لاتهامه بالفساد.
وقال المقدم صفاء كامل، من قيادة عمليات الفرات الأوسط لوكالة الأناضول إنّ “ثلاثة من الجرحى الذين تم نقلهم إلى المستشفى فارقوا الحياة مما رفع عدد القتلى في تظاهرات النجف الى أربعة مدنيين”.
وأوضح كامل أنّ “قوات الأمن اعتقلت خمسة من أفراد حماية مركز البشير التجاري المملوك للقيادي السابق في التيار الصدري جواد الكرعاوي لاتهامهم بإطلاق النار على المتظاهرين” المنتمين لنفس التيار.
وتظهر صور مدى فخامة المركز التجاري قبل احتراقه والكم الهائل من السلع التي يحتويها بما يشي بالثراء الشديد لمالكه، ما جعل ناشطين عراقيين يتساءلون عن كيفية تمكّن الكرعاوي من جمع تلك الثروة ومراكمتها في غفلة من التيار الذي ينتمي إليه، وعن الانتباه إليه فجأة، ملمّحين إلى أن طرد الكرعاوي من التيار الصدري ليس أكثر من عملية تصفية حسابات داخلية ناجمة عن خلافات داخلية.
ولفت أحد منتقدي التيار الصدري إلى أنّ الأخير “يحصل على تمويله من خلال مكتبه الاقتصادي الذي يعتبر واجهة للفساد، وفي نفس الوقت يحرض جمهوره على عدد من المارقين الذين كما يبدو حاولوا أن يفلتوا بأموالهم من قبضة الضرائب المفروضة عليهم من قبل التيار ذاته. وهو ما استحقوا عليه العقاب من خلال حرق المنشآت التي يملكونها”.
كما وجّه ذات المتحدّث نقده للحكومة التي “لا تملك في حالة من هذا النوع أن تفعل شيئا. فالمسألة يمكن اعتبارها داخلية. أي أنها تتعلق بطريقة تعامل التيار الصدري مع أعضائه. وهو ما يمكن اعتباره بمثابة درس لكل من تسوّل له نفسه الخروج على طاعة السيد”.
ويستدرك قائلا “غير أن اللافت في الأمر أن الأجهزة الأمنية لا تتدخل لفك الاشتباك سلميا بقدر ما تتذرع بحماية المحتجين من أجل أن ينجزوا مهماتهم التخريبية”.
ويختم بالقول “إنّ ما حدث إنما هو عملية انتقام مارستها المافيا الأم ضدّ المافيات الصغيرة التي صار من الصعب السيطرة عليها وإعادتها إلى حظيرة الطاعة. أما الجمهور فقد أعيد إلى زمن النهب والسلب وإتلاف الممتلكات من غير أن يحكمه عقل أو قانون”.
شبهة تصفية حسابات داخل التيار الصدري بسبب تهرب بعض منتسبيه من دفع أتاوات على أعمالهم وممتلكاتهم
وأعلنت خلية الإعلام الأمني، الخميس، إلقاء القبض على خمسة من الذين أطلقوا النار على المتظاهرين في النجف. وقالت في بيان إنّ “جميع المتظاهرين الذين قتلوا أو جرحوا سقطوا بسبب استخدام الذخيرة الحية من حرس المركز التجاري أنفسهم”.
وبدورها لم تستبعد مصادر محلّية أن يكون السلاح الذي استخدمه الحرس في مواجهة المتظاهرين، هو ذاته سلاح ميليشيا سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر، مرجّحة أنّ انتماء الحرّاس للميليشيا هو ما أتاح لهم حمل السلاح دونما مساءلة أو تتبع من الأجهزة الأمنية.
وجاءت عملية اقتحام المركز التجاري بعد ثلاثة أيام من قرار مقتدى الصدر فصل عدد من قيادات تياره البارزين بعد “اكتشافه” امتلاكهم أعمالا تجارية ضخمة، وهو ما اعتبره فسادا في دائرة مقربيه.
وأطلق القرار موجة غضب في صفوف أتباع الصدر وأثار حماسهم لمهاجمة هؤلاء المتهمين بالفساد.
وفي محافظة واسط بالجنوب العراقي أصيب شخص بجروح أثناء محاولة أنصار الصدر اقتحام منزل نائب المحافظ عادل الزركاني الذي تم استبعاده أيضا من التيار الصدري.
وفي محافظة بابل هاجم العشرات من المتظاهرين منزل النائب السابق بالبرلمان العراقي عواد العوادي أحد المتهمين بالفساد من قبل مقتدى الصدر ورشقوه بالحجارة. كذلك شهدت محافظات كربلاء والناصرية وواسط اضطرابات أمنية جرّاء تظاهر أتباع الصدر ومهاجمتهم مراكز تجارية ومقار شركات تعود لقياديين سابقين في التيار الصدري.
وشارك في المظاهرات رجال دين ومعممون والمئات من النساء والرجال مرددين شعارات تطالب السلطات العراقية بالقصاص من الفاسدين.
وأصدرت الهيئة السياسية للتيار الصدري بيانا صحافيا قالت فيه إنّها “تتابع تطورات الأحداث في بعض المحافظات، وتدين بشدة استخدام القوة ضد المتظاهرين السلميين، وخصوصا في محافظة النجف، حيث يتظاهر أبناء الخط الصدري ضد الفاسدين أمام مُولاتهم وشركاتهم ومنازلهم، في تعبير حضاري وسلمي عن رفض الفساد والفاسدين”.
وشدد البيان على أنّ “إطلاق النار على المتظاهرين العزّل السلميين يعتبر جريمة بشعة بحق الإنسان وحقوقه في التعبير عن رأيه والمطالبة بحقوقه وحقوق وطنه وانتهاك صارخ للدستور والقوانين”.
وطالب البيان “رئيس الوزراء ورئيس مجلس القضاء الأعلى باتخاذ الإجراءات القانونية فورا ضد مرتكبي هذه الجريمة وإنزال أقسى العقوبات بحقهم”.
لكن رجل الدين المقرّب من مقتدى الصدر صالح محمد العراقي، استشعر خطورة الموقف ووجّه الخميس دعوة إلى أتباع التيار الصدري لإنهاء الاعتصامات والمظاهرات.
ونشر على فيسبوك “قال لي قائدي (الصدر) لا داعي للاعتصام فهذا شهر الصيام، ولا داعي للتظاهر فما عاد للفساد مجال للتفاخر، شكرا لمن التزم بالسلمية”. وتابع “إن عادوا عدنا، وسننتصر مرة أخرى”.
ويمارس رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، كونه وريث إحدى الأسر العراقية المرموقة في مجال التدين الشيعي، سلطات واسعة تتعدى الجانب المعنوي إلى الجانب التنفيذي، مستثمرا التداخل الشديد في سلطات الدولة العراقية، والقدر الكبير من الجماهيرية التي يحظى بها في عدد من مناطق البلاد.
وسبق لمقتدى الصدر أن أمر بالقبض على العضو في تياره بهاء الأعرجي النائب السابق لرئيس الوزراء، بتهمة التورّط في قضايا فساد، ولم يُعرض الرجل على القضاء لكنّه أخفي في مكان مجهول لمدّة طويلة ظهر بعدها في حالة من الإنهاك الصحيّ والهزال قياسا بما كانت عليه حالته الجسدية قبل احتجازه.
وكثيرا ما يصدر الصدر بيانات وتعاليق على الشأن العام تأتي أقرب إلى التعليمات والأوامر مرفوقة بإنذارات ومحدّدة بمهل زمنية من قبيل تعليقه مؤخّرا على الصراع الذي دار على منصب محافظ نينوى بشمال العراق حين قال، الإثنين الماضي، في تغريدة على تويتر “أهيب بالرئاسات الثلاث، لاسيما رئيسي الجمهورية، والوزراء، العمل الجاد والفوري من أجل رفع معاناة أهالي الموصل مما يقع عليهم من ظلم وحيف مما يسمى مجلس المحافظة، وما يجري فيه خلف الكواليس من صراعات سياسية من أجل المناصب والكراسي”، داعيا “لإيقاف المهزلة وحل المجلس وإرسال بعض الثقات لإدارة المحافظة وإخراجها من محنتها إلى حين توفر أجواء مناسبة لتشكيل مجلس جديد”، مُتبعا ذلك بالتهديد قائلا “إن لم يتصرفوا فليتركونا نتصرف وفق ما يريد أهل الموصل”.
ومع ظهور موجة الدعوة إلى ضبط فوضى السلاح خلال السنوات الماضية، أصبح مقتدى الصدر من أكبر المدافعين عن “هيبة الدولة” العراقية والداعين إلى حلّ “الميليشيات الوقحة” على حدّ تعبيره، ومع ذلك لا يزال هو نفسه يمتلك إحدى أقوى الميليشيات تنظيما وتسليحا وتمويلا تعرف باسم “سرايا السلام” وتقوم بعدّة مهام في أنحاء متفرّقة من العراق من ضمنها المشاركة في مسك الأراضي المستعادة من تنظيم داعش شمالي العاصمة بغداد.
العرب